هو أحمد بن عبد الله بن سليمان المعروف أبي العلاء المعريّ (ت 449)، شاعر عباسيّ ضرير شهير بلغ من النباهة في الشعر واللغة ما رفعه إلى قمة الأدب العربيّ، قديماً وحديثاً. وللمعري أبيات رائعة مشهورة في السياسة، كأنه يصف فيها زماننا، وهي قوله
يسوسون الأمور بغير عقل ** فينفذ أمرهم ويقال ساسه
فأفْ من الحياة وأفّ منى ** ومن زمن رئاسته خساسه (1)
وقد افترق الناس في رأيهم عن عقيدة المعريّ، فمنهم من ذهب إلى إنه زنديق كافر طبعيّ منكرٌ للبعث واليوم الآخر، منهم ابن الجوزيّ وابن القيم وابن تيمية والذهبي، وأبي طاهر السلفيّ، وإن نُقل عن أبو طاهر أن أبي العلاء تاب وأناب.
وفريقٌ زيّف الأخبار التي وردت عنه في أقوال التكفير والزندقة، وهم المحدثون من المحققين من جهابذة اللغة مثل محمود شاكر، كما بيّن في كتابه "أباطيل وأسمار"، وعبد السلام هارون، ومحمد فريد وجدي، وأعمى البصر والبصيرة طه حسين في كتابه "مع أبي العلاء في سجنه".
وقد استرحت لنتيجة ما خلال مطالعتي لشعر أبي العلاء، خاصة في ديوان "لزوم ما لا يلزم" المعروف باللزوميات (2) ، من حيث التزم فيه بقوافٍ ثنائية وثلاثية مثل قوله:
لو أنّ كلّ نفوس الناسِ رائية ** كرأي نفسي تناءت عن خزاياها
وعطَّلوا هذه الدنيا فما ولدوا ** ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها (3)
بل ورباعية، فبيّن فيها سلطانه على اللغة وسيطرته على مناحيها، وكتابه "الفصول والغايات"، الذي قالوا إنه عارض به القرآن ، وإن قال فيه البعض، مثل ابن العديم الحلبيّ، إنه قد افتُريَ فيه عليه، فإنه إنما كتبه في تمجيد الله سبحانه، وكتابه "رسالة الغفران" وهو منثور، كتبه عن بعض آيات الله مثل الشجرة الطيبة وخمر الجنة وأنهارها، ردّاً على رسالة إليه من ابن القارح.
والناظر في رسالة الغفران يرى أنها لا تدلّ دلالة صريحة على كفر، بل فيها ما يناقض ذلك مثل قوله "وقد وصلت الرسالة التي بحرها بالحكم مسجور، ومن قرأها فهو مأجور، إذ كانت تأمر بتقبّل الشرع، وتُعيب من ترك أصلاً لفرع" (4)، أو قوله "ويعارض تلك المدامة أنهارٌ من عسل مُصفى، ما كسبته النحل الغادية للأنهار، ولا هو في مومٍ (5) متوار، ولكن قال له العزيز القادر: كن فكان، وبكرمه أعطى الإمكان" (6) ، أقول إن مطالعتي لأعمال المعريّ، وما كُتب عنه، مما أنهك فيه الأكابر صفحات الكتب تدوينا، تقريظاً أو تقريعاً، جعلتني أتردد في قبول الرأي القائل بزندقته وإلحاده قولاً واحداً.
ولا أشكّ في أن لأبي العلاء أقوالٌ لا يقولها مسلم، مثل قوله:
حياة ثم موتٌ ثم نشرُ! ** حديث خرافة يا أم عمرو
أو قوله
أمّا اليقين فلا يقينَ وإنّما ** أقصى اجتهاديَ أن أظنّ واحدسا (7)
لكن أبياتاً قد ثبتت عنه، ترفع عنه هذا التوجَه بالكلية، أو تجعل النفس تتردد فيه مثل قوله
توحّد فإن الله ربك واحدٌ ** ولا ترغبنْ في عشرة الرؤساءِ (8)
وقوله
غفرتُ زماناً في انتكاسِ مآثمٍ ** وعبد مليك الناس يُلْتمسُ الغَفْرُ (9)
وقوله
إذا أنت لم تحضُرْ مع القوم مسجداً ** فصلِّ إلى أن يقضي الجمعة الجمعُ
ولا تأمننْ أن يَحشر اليوم ربُّـــــــه ** له بصرٌ من قدرة وله سَمـــــــــــعُ
فيخبرَ بالتقصير عنك مؤنبـــــــــــاً ** وتَسكبُ دمعاً حيثُ لا ينفعُ الدمـــعُ
هنالِك لا ترجو صريخاً مزعزعــاً ** صدورَ عَوالٍ فوقهــــــا للردى لمْعُ (10)
وقوله
قد طال في العيشِ تقييدي وإرسالي ** من اتقى الله فهو السالم السالي (11)
وقوله
إن علمتَ مآلي عند آخرتي ** شرَاً وأضيقَ فانسأ ربِّ في الأجلِ (12)
وقد تناول العلامة محمود شاكر ما ورد عن المعريّ كما سبق أن ذكرنا، واتبع فيه منهجه الذي تحدثنا عنه في بحث "اللسان العربي والمنهج العلمي ... صرْعى الحاضر!"، فرتّب ما جاء عن المعريّ في كتب الأولين ترتيباً تاريخياً، بلغ بها 28 مرجعاً، ليمكن أن يُحدد منْ نقل عن منْ. ثمّ عرّج على ما قيل عن تعلم المعريّ في اللاذقية وأنطاكية، وهو ما استند إليه الكثير في إثبات تعرضه لعلوم الفلسفة والإلحاد، ففند الخبر (13) ، ونبّه إلى ضعف رواية القفطيّ بالذات عن هذا الخبر (14) . وهو ما يوائم رأيه في القفطيّ ورواياته، مما بيّنه في في كتابه العظيم "نمطٌ صعبٌ.. ونمط مخيف".
ما استرحت إليه هو أن أبا العلاء المعريّ، قد كان رجلاً سوداويّ المزاج، لما ابتلي به من عمى في طفولته، ثم فقد أمه، وهي من كانت ساعده ومتكأه، ثم نفسه الأبية التي لم ترض ما رضيَ به الشعراء ،من التزلف للحكام واستجداء الرؤساء، ثم ما هو معروف ثابتٌ عن شطحات الشعراء، التي لا يجب أن تكون حكماً نهائياً، فيما أرى، على عقائدهم، إلا من عُرف بها، وتولاها مذهباً لا يدوّن إلا فيه، كالصوفي محي الدين ابن عربيّ صاحب وحدة الوجود، أو الحسين بن منصور الحلاج صاحب الحلول والاتحاد، وهو قائل هذه الأبيات من الذَفر (15) :
يا سرَّ سرٍ يدِقُ حتى ** يجِلُّ عن وصف كلّ حيِّ
وظاهراً باطناً تبدَّى ** من كلِّ شئٍ لكلِ شــــــئِ
يا جملة الكلِّ لست غيري ** فما اعتذاري إذا إليَّ!
والسهروردي المقتول، وأحمد بن يحي الراونديّ، وبشار بن برد، وصالح بن عبد القدوس، والصناديقيّ اليمني، وغيرهم كثير، يجد سيرهم الطالب في كتب السير والتاريخ والرجال. وقد تحدث عن عدد منهم عليّ بن منصور المعروف بابن القارح في رسالته إلى أبي العلاء، والتي كانت "رسالة الغفران" هي ردّ أبي العلاء عليها.
وهذا ما انقدح في الذهن إبان ليلتي هذه، أحببت أن أقيّده قبل أن يتشتت جمعه وتتبعثر كلماته، في زحمة الصبح ومشاغله، على قلة فائدته، لعل فيه ما قد يثير همةً إلى اطلاعٍ.
والله المُستعان
د طارق عبد الحليم
14 يوليو 2019 – 11 ذو القعدة 1440
هوامش
1. ديوان اللزوميات لأبي العلاء، طبعة مكتبة التوفيق الأدبية بالقاهرة عام 1342 هـ ونشر مكتبة الخانجي بالقاهرة، ص
2. ديوان اللزوميات ج2 ص 31
3. السابق ج2 ص 425
4. رسالة الغفران الطبعة الإلكترونية، طبعة المكتبة العربية، تحقيق جيرديان فان جيلدير وجريجور شولر، وهما من المتشرقين ص 42
5. المَوم: هو عسل النحل
6. السابق ص 47
7. اللزوميات ج2 31
8. السابق ج1 ص 52
9. السابق ج1 ص 298
10. السابق ج2 ص 81
11. السباق ج 2 230
12. السابق ج 2 ص 230
13. أباطيل وأسمار، محمود شاكر، ص 9 وبعدها، طبعة
14. السابق ص 45
15. الذَفر هو النتن