إزالة الصورة من الطباعة

الواقع والمسؤولية في الرقعة العربية

لا أشك أن واقعة 11 سبتمبر 2001، كانت مفتاحاً لتغيير شكل المنطقة الإسلامية الناطقة باللغة العربية، أو بلفظ سياسي، خريطة الشرق أوسط برمتها، من العراق شرقا إلى المغرب العربي غربا، لصالح الوجود الصهيو.ني المزروع في أرض فلسطين، لا غير ذلك من الأهداف.

فإن كلّ ما تلا تلك الوقعة، لم يكن إلا دماراً وخراباً، وتفتيتا وتقسيما لتلك الرقعة، لا أظن أنه وصل لغايته المخططة إلى يومنا هذا.

فقد تبع تلك الواقعة الغزو الأمريكي للعراق، والذي حوّلها إلى خرابٍ تامٍ، بل وأسلمها إلى القوى الرافضية الفارسية اللعينة، التي ظاهرها عداء أمريكا وباطنها الترتيب والتخطيط لإضعاف، إن لم يكن إنهاء الوجود السنيّ في المنطقة، بابتلاع ما يحتاجونه منها، ثم تسليم الباقي لمجرمي الحرب المحليين يفتتونها بالوكالة.

وكان من أثر ذلك احتلال أفغانستان، التي كانت تمثل وقتها الوجود السني الوحيد في العالم، من عام 1996 إلى 2001، عقب انتصارها على الدبّ الروسي الأحمر.

ثم خرجت جماهير ما أسموه بالربيع العربيّ، في تونس، ثم مصر، ثم سوريا، ثم ليبيا. وانتهى ذلك الربيع إلى شتاء قارص عنيفٍ مزق تلك البلدان كلها، إلا مصر التي حالت الكتلة السكانية الهائلة فيها دون ذلك التفتيت والحروب الداخلية. لكن سارت كل تلك الدول، ولحقت بها اليمن التعيس، على خطى واحدة، وهي إما التفتيت التام، أو الاستسلام والوقوع تحت ديكتاتوريات لا ترحم، تحمى الأيديولوجية العلمانية والديموقراطية الشكلية السياسية، والفساد التام في السلب والنهب الاقتصادي.

ثم كان أمر الخليج، الذي كان ولابد أن تتبع فيه خطة مختلفة نظرا لطبيعة وضعه النفطي الحساس، فإن أي اضطرابات سياسية عنيفة ستؤدي حتما لهزات كالزلازل والبراكين الاقتصادية، لا يحتملها اقتصاد العالم الرأسمالي. فكان اللجوء إلى التعاون مع الخراف الحاكمة، التي كان التسليم للمطالب الصهيو-صليبية أحب عليها من صافي العسل، حيث يمكن لعائلاتها الحاكمة بقاء أطول في كراسي الملك.

تلك هي، في كلمات مختصرات، قصة العشرين عاما الماضية، لا تزيد عن هذا! تفتت شعوب، واستذلّت شعوب، وانحلت شعوب من قيمها وأخلاقها بالمرة.

ولكن، هل للشعوب تلك يد فيما حدث؟ وهل هي أحداث مرتبة مخططة بتمامها، كما يقول أصحاب المؤامرة؟ ما مدى مسؤولية الشعوب فيما جرى على أرضها، وما مدى مسؤولية الخارج المتربص؟

أسئلة مركزية، تحتاج إلى إيضاح متأنٍ، لارتباطها بالقدر الجاري ومسؤولية البشر فيما يقع عليهم من نكبات.

لا أؤمن، بصفة شخصية، بنظرية المؤامرات، أو على الأقل ليس بما هو شائعٌ من معناها في الوسط السياسي، من أن كلّ تلك الأحداث، بل كلّ ما يجري في العالم، منضبط ومتصل بأجندة مجموعة من الرجال المختفين في محلٍ ما، يسيّرون كلّ حدثّ حسب أهوائهم، فهم كقدر الله، لا مفر مما يريدون. وفي هذا التصور ما فيه من إلحادٍ خفيّ، يرفع عن الإنسان كلّ خيارٍ. ولا أجد في وصف تلك العقليات التي تتبنى هذا الوصف إلا البساطة والسذاجة، من حيث إن عملها يقتصر على ملاحظة ما يجري ثم نسبته لجمع من الناس! ذلك قدرهم من العلم في تحليل التشابك السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأيديولوجي بين القوى المتطاحنة في عالمنا المعقد.

لكن الحق، أن القوى الغالبة المنتصرة اليوم تنتهج لونا آخر من المؤامرة، وهو ليس بجديد عليها البتة. إذ تعتمد على استخدام مجريات الأحداث التي تقع بطريق السنن الإلهية، لتوظفها في صالحها وتنحرف بها لتحقيق مرادها. فهي مؤامرة استغلال لا إيجاد، في غالب أحوالها.

فإن ما حدث في تونس من حرق الشاب نفسه في الطريق بعد أن صفعته شرطية، من المستحيل أن يكون من عمل المؤامرة! ثم ما تلا من ردّ فعل شعبيّ، أدى لخلع على زين العابدين. وإنما الأمر هو أن قوى الشر قد نشطت لفورها "لإدارة الحدث" وتوجيهه، قدر المستطاع. ورغم نجاح من يظنهم الناس إسلاميون "حزب النهضة العلماني" في الوصول لأعلى المناصب، فقد كان تآمر القوى المضادة، مع ضعف الإرادة وانحراف الفهم في تلك الجماعة، سبباً في القضاء على الثورة التونسية وإحباطها.

وهذا ما تم بالضبط في حراك 25 يناير بمصر، الذي بدأ بحفنة معارضين لا تزيد عن المئة والخمسين، انتهى بعشرات الملايين تجتاح شوارع مصر وتطيح بحسني مبارك. وهذا لم يكن من عمل المؤامرة بحال. لكن، كما هو الحال في تونس، نهضت القوى المناوئة لحرية الشعوب واستقلال قرارها، بكل شراسة في هيئة العسكر، ثم القبضة السيسية الشيطانية، لتقويض ما قام به أفراد الشعب، الذي تخبط بعدها، لا يدري حق من باطل!

أما سوريا واليمن وليبيا، فكان التفتيت التام بالطريق العسكري، الحوثي وبشار وحفتر، والسودان، وحميدي وبرهان أذناب الغرب.

أما الخليج، فكما ذكرنا تم تدميره عقدياً وأخلاقيا بالكامل، بطريق سلمي ممنهج، على يد ملاحدة بني زايد وابن سلمان وثآليل البحرين.

فشعوب قد أرادت، وفعلت، كما رأينا في تونس ومصر وسوريا، ثم أخضعها حكامها. وشعوب امتطاها حكاما مباشرة كالخليج، وشعوب تناحرت داخليا بالتآمر الخارجي، فتدمرت كلية كاليمن وليبيا

إذن، نرى هنا اختلاط الدور الإنساني الشعبي، والدور الخارجي المتآمر، يتتاليان، يعقب ثانيهما أولهما عن كثبٍ، وبحرفية فائقة، تستغل الحدث، الذي يكون في صالح الشعب أول النهار، وكارثة عليه آخره!

ومسؤولية الشعوب في ذاك التحول، متعددة. فالتآمر الخارجي ما كان ليتم لولا عوامل داخلية تعمل بيد الشعوب ذاتها.

الجهل بالهدف الذي يجب الوصول لتحقيقه مهما كان الثمن، هو أول عامل في ذاك الفشل. فقد تحركت تلك الشعوب من أجل لقمة العيش، لا من أجل الله سبحانه، الذي سيكفل لهم العيش إن صدقوا عهدهم. فكان أن انتهى بهم الأمر سريعا إلى خسارة لقمة العيش أكثر من ذي قبل! ثم جهل الخاصة منهم، الذين أوكل الشعب لهم حق تمثيله والنيابة عنه، كالنهضة والإخوان وهيئة الشام، بالغرض الأصيل، وخيانة المسلمين لصالح أجنداتهم الشخصية تارة والبدعية تارة أخرى.

الخراب الواقع حالياً في رقعتنا الإسلامية العربية، قد بلغ مداه، وتعاونت عليه كل تلك العوامل من الداخل الأصيل والخارج المحرّك المتآمر. ولم يعد إلا حفنة من الواعين المخلصين العارفين بأصول دينهم، والمتمسكين بهويتهم المسلمة، والمؤمنين بسنن الله في الأرض والناس، من أن الحق لابد له قوة، مسلـ.حة تنشئه ثم تحميه، وبدونها يبقى الحق مغموطاً منزوياً، لا أثر له.

د طارق عبد الحليم

15 صفر 1443 – 22 سبتمبر 2021