يجمع أصحاب النظر والرؤية، على أن القرون المتعاقبة، والأجيال المتتالية، تأتي بأسوأ مما ذهبت بها سابقتها، في كل أمر من أمور الدنيا، وأحوال البشر. وهذه السنة الكونية، لا تقتصر على الحالة الدينية، كما يتصور البعض، وإن أمكن تجسيدها بشكل أعمق فيما يخص العلم والعلماء. لكنها تتعدى إلى أخلاق الناس وعوائدهم وصفاتهم الشخصية وبنائهم النفسي. ولست هنا بصدد البحث في أسباب تلك السنة المتواترة، فالسنن عادة لا تخضع لتحليل يعين على عكس مسارها، فمسارها لا ينعكس أبد الدهر، وإن كانت خاضعة لسلسلة الأسباب والمسببات.
إنما غرضي هنا هو توجيه الانتباه إلى ما نراه من انحطاط عامٍ في تلك النواحي النفسية والخلقية والشخصية، وتدهور الحالة الانسانية بشكلٍ عام مطلق، يكاد يكزن خاضعا لجاذبية خاصة، تقهره لأسفل سافلين.
وقد لمسنا ذاك القهر وذلك التدهور، حتى كدنا تراه رأي العين متشخصاً متعينا في أناس بأعينهم! ومن عاش الحقبة الزمنية التي عشناها منذ نهاية الستينيات، مرورا بالسبعينيات وبعدها، خلال نصف قرن من الزمن، أو يزيد، ليعرف ما أقول حق المعرفة. فذاك الانسان في ذلك الوقت، ليس هو الذي نراه ونسمعه اليوم، لا علما زولا خلقا ولا ثقافة ولا التزاما، بل ولا سفاهة ولا خسة ولا انحرافا! كلّ المقاييس والمعايير، حسنها وقبيحها، قد انحط وتدهور بمعاييره الذاتية.
انظر إلى مقام العلماء، بل وإلى مقام المعارضة الكافرة أو المنافقة. انظر إلى خُلُق رجل الشارع في أي بلد عربي وقتها، وإلى خلق العامي اليوم! انظر إلى شباب تلك الحقبة، حتى غير الإسلاميين منهم، ثم قارنهم بحال شباب اليوم، ترى عجباً!
أين علماء تلك الأمة التي خلت وذاك القرن الذي ولى، وقاماتهم، وكتبهم ومقالاتهم، من أمثال الشيخين أحمد ومحمود شاكر، والأخوين سيد ومحمد قطب، والرافعي والشنقيطي ومحمد إبراهيم والدوسري والسعدي ومحمد محمد حسين وأحمد سالم، عدة من مئات عديدة. ثم انظر إلى الأسماء التي يتداولها الناس اليوم، في الدوائر الإسلامية أو الاكاديمية، ومنهم من يعتبرونهم "مشايخا" لهم، وقادة لحركاتهم، لتعرف ما نقول!
انظر إلى المعارضة البدعية أو الكافرة من أمثال محمد عبده والأفغاني وعلى عبد الرازق ولطفي السيد وسعد زغلول والنحاس وزكي نجيب محمود وزكريا ابراهيم وكثير من القامات الشيطانية، التي على خبثها، كانت قمما سامقة حتى في الخبث والمكر. ثم قارنها بمنحطي اليوم من أمثال مختار الشنقيطي وكريمة وعلى جمعة والخبيث الريسوني وقادة الإخوان والفصائل العميلة، حتى قاع الحضيض المتمثل في الأشبار الفلسطينية الثلاث، عديمي الذكر اسما ورسما! لتعرف ما نقول.
انظر إلى الأدباء والشعراء والكتاب والفلاسفة، ثم اسأل من هناك اليوم عدا أحمد فؤاد نجم. حتى الابنودي وصلاح جاهين، لم يعد لهما خلف!
خلت القوم من المروءة والصدق والالتزام بالكلمة والهمة والجدية في تناول الأمور، تلك التي يشير إليها الله ﷻ بقوله "خذوا ما آتيناكم بقوة". فإذا بأمة الناس اليوم يأخذون كلّ شيء بضعف وتخاذل وتهاون، يتخيرون ما يرونه صالحا لهم سهلاً عليهم، ويعرضون عما يرونه شديدا على نفسياهم الهزيلة وخلقهم الحطيط.
هل ذاك الذي وصفت غريباً أو منكرا؟ لا والله، بل هو مصداق قول الحبيب المصطفى، الصادق المصدوق ﷺ "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ" البخاري ومسلم