إزالة الصورة من الطباعة

عودة طالبان .. والمنهزمون داخلياً

الحمد لله والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى ﷺ وعلى آله وصحبه

تتشكل الهزيمة بأشكال عدة، في نفسية البشر التابع، بما يوافق مفاهيمه ويناسب تكوينه. ولا يلزم أن تكون الانهزامية صريحة مباشرة، في شكل عداء سافر لكلّ ما هو طيبٌ أو جادٌّ. بل قد تكون في صورة حذر مشوب بالوسواس ناضح بالاتهام، خاصة في عصر صارت نظرية المؤامرة هي المسيطرة على عقول كافة الانهزاميين، من أصحاب النفوس السوداء، التي غشتها تلك الهزيمة فلم تدع لشعاع نور سبيلاً إليها. فصار كلّ فعلٍ أو حدثٍ لديها، منسقٌ من قبل قوى الشرّ، سواء كان فيه الخير أم لا! وسواء دلّت الأدلة على خلاف ذلك التأويل أم لا. فهي نفسية تضع "فلتراً" أسودا، يصفي كلّ دليل صريحٍ أو منطقي، لتبقى نخالة يسمونها "سياسة" أو "تحليل عميق" أو "فهم لما وراء الحدث" أو ما شئت من تزييف للحقائق، باسم الحق! والطامة الكبرى هي أن كلّ ذلك يقع من صاحبه مع إخلاصٍ وحسن نية، فلا يترك هذا مجالاً لمراجعة النفس! لكن تحليل تلك النفسيات، هو مقصد متسعٌ آخر للبحث والنظر.

من أشكال الانهزام ذاك ما أراه في كتابات بعض من هم من أهل الفهم أو الصلاح، أو كليهما، عن عودة طالبان لتتصدر المشهد الأفغاني، بعد انسحاب العدو الغازي الغربي، يجر أذيال الخيبة بعد عشرين عاماً وتريلونات من الدولارات، وآلاف من القتلى الغازين، على أرض أفغانستان. فإنك واجدٌ عددا، غالبهم من أتباع نظرية المؤامرة أصلاً، ممن تذاكى بتلك التحليلات الواهمة والمعلومات المُلفقة[1]، يشير بطرف خفيّ، خفاؤه على من ليس خبرة بهذا النمط من التفكير، إلى وجود علاقة واتفاقات مُسبقة بين الأمريكان وبين طالبان، ستظهر نتائجها بعد! وأن كلّ تلك الضجة هي مجرد عملية خداعٍ للعامة، يفرحون بها، وهم على غبر علم "بالحقائق" التي يعلمها أولئك المتذاكين المتحذلقين.

نقول لأمثال هؤلاء، كفاكم سوء ظنٍ بربكم، وخداعا لأنفسكم، فإن عجزكم في مكان ما، أو ظروف ما، أو خيانة بعض من هم في محل سلطة أو نفوذٍ أو قوة، ممن أمَّلتم فيهم خيرا ثم انتكسوا فانهزمتم، لا يعني أن كلّ نصر للمسلمين هو مؤامرة خفية، يجب أن نحذر من نتائجها!

ولنفهم حقيقة الوضع، دعونا ننظر إلى الحدث، وما يتعلق به من تاريخٍ ثابت لا تلفيق فيه ولا تحليل، ثم ننظر في صانعي الحدث، ومساره الواقع.

أين، في تلك الحقائق، ذلك الاتفاق الموهوم بين أمريكا وطالبان، يا أصحاب العقول "المهلبية"! ولماذا ولأي غرض يكون اتفاقا سريا؟ نعم كانت مفاوضات، ونعم كانت اتفاقات، لكنها على هيكل الانسحاب، وموضوع تقاسم السلطة، الذي تناولته طالبان بكلّ حرفية سياسية، فلم تصرح فيه بقبول أو رفض، حتى يتم الانسحاب ويظهر أن لا معنى لتقاسم أي سلطة، فالطرف الحكومي العلماني لم يعد موجودا في المعادلة على الأرض! وصار نباح قادة الغرب بضرورة تقاسم "سلمي" للسلطة، كلام عابث هزلي لا واقع له.

إن ذلك الحديث عن مؤامرة مرسومة بين طالبان وأمريكا كلام نابعٌ من عقلية تعودت الهزيمة، فلم تعد ترى نصراً ولا احتمال نصرٍ، ولو كان نصراً ناتجاً عن انسحاب العدو، لعدم القدرة على الاستمرار.

والثابت أن ما حدث من انهيار كامل سريع آنيّ للقوات التي قاموا بتدريبها وإنفاق المليارات عليها، كان، إلى درجة ما، مفاجئاً للغرب. وإلا لاتخذوا خطوات أكثر تنسيقاً لإخراج رعاياهم ودبلوماسييهم من كابل، ولتلافوا الفوضى المخزية التي تسببوا فيها في مطار كابل. لكنهم فوجئوا بذلك الانهيار، وذاك الهروب من رئيس عملائهم أشرف غني، وانفضاض القوات الحكومية واختفاء الشرطة، حتى أن الغرب، من خلال كرزاي، اتصل بقادة طالبان، طالبا منهم عدم انتظار مهلة الإثنين وسبعين ساعة، ودخول كابل على الفور لحفظ الأمن!

ليس هناك مؤامرة، ولا اتفاق سري ولا خلافه. وليسترح هؤلاء المنهزمين نفسياً، ولعلهم ينضمون إلى جموع المنهزمين عقدياً وحركيا من الإخوان وحماس وفصائل العمالة الشامية. فإن ترويج مثل تلك الشائعات لا يخدم إلا العدو الكامن، إلى جانب كذبه وتضليله.

د طارق عبد الحليم

10 المحرم 1443 – 17 أغسطس 2021

 

[1] التلفيق لا يعني الكذب، لكن يعنى تركيب الأمور بشكل مقصودٍ للوصول لنتيجة ما، سواء بوعي أو بلا وعي.