إزالة الصورة من الطباعة

لصديق الغشوم ...! القول في مسألة " لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه"

بسم الله الرحمن الرحيم  

نوّهت من قبل بعددٍ من الدعاة "المخلصين" أصلاً المسيئين فعلاً، في مجال حديثهم في الدفاع عن الإسلام أو شخصياته الكبرى. وكان ذلك في معرض تقديمي لكتابي الأخير عن الشيخ العالم الشهيد سيد قطب، حيث ذكر البعض، دفاعا عنه، أموراً ليست من قبيل المدح، فأساؤوا من حيث أرادوا الحسنى، كما فعل الباحث د مشاري المطرفي في كتابه أقوال العلماء المنصفين في سيد قطب. وقد أوضحت زلته في كتابي "معالم في فكر سيد قطب" ص 105، دار الكتاب العالمي.

وهنا أعالج نقطة أثارها أحد الأبناء الأحباء، مع أنّ العلماء قد أوسعوها بحثا ونظراً، وهي علّة عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول بعد ثبوت ردته.

 جاء في حديث البخاري "عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كنا في غزاة بني المصطلق فكسع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دَعْه (اتركه)، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه".  

قال بعض من ضلوا عن سبيل الرشاد في فهم الحديث، ومنهم في عامة فكره، كالصومالي ، أومنهم غيره من طلاب العلم كالقنيبيّ مع إحسان الظن به وبغرضه، والذي لا ينافي منع تصديه لما ليس في جعبته من علم يؤهله للحديث في هذه الأمور، قالوا، دفاعاً عن الإسلام، وهجوما على أصحاب الديموقراطية، إن سبب منع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عدم ثبوت علة الحكم الشرعيّ بالقتل، لعدم جلاء حديث ابن سلول في شأن قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم تصريحه باسمه صراحة، وأن هذا يناقض قول النبي صلى الله عليه وسلم "وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا" البخاري ومسلم.   والحديث في هذا الأمر يستتبع الحديث عن أمور عديدة، ليتضح الموضوع من كافة جوانبه. لكني سأحاول الاختصار قدر الإمكان في كلّ نقطة، واكتفي بالإشارة، أو قِصَرِ العبارة، لتجنب التطويل فيما هو ظاهر التعليل.   فمما يجب بيانه هنا:

1. مسألة أن تعليل الكفّ عن قتل ابن سلول هي علّة منصوصة، لا مستنبطة، لا مجال لردّها، كما فعل هؤلاء، حيث تجاوزوها وكأنها ليست من منطوق الحديث.

2. مسألة أن تلك العلّة، اعتبار المآلات، هي أصل دليل سدّ الذرائع.

3. مسألة عدم اعتبارهم قول الجمهور في إثبات تعدد علل الحكم الواحد في الشخص الواحد.

4. أن ثبوت هذا، لا يبرر لأصحاب الديموقراطية استخدام علة حكم الحديث في العمل بالكفر أو التدرج في قبوله أو رفعه.

5. أن أدلة كفر العمل بالنظام الديموقراطي له أدلة ثابتة صريحة، أضعفها استخدام هذه العلة.

6. ثم الاستشهاد بابن حزم في هذه المسألة غير مقبول من حيث رفضه للقياس رأساً، وللعلل فرعاً.   وسأبينّ القول في كلّ مسألة باختصار قدر الإمكان كما ذكرت:  

1. واضح من الحديث، لمن يفهم العربية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعترض على قول عمر "دعني أضرب عنق هذا المنافق"، ولو كان ابن سلول لم يُظهر كفره، ما سكت النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أسامة "أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله!" متفق عليه. فالإجماع على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسكت عن باطل قيل بين يديه. وهناك إضمار للفظ "حتى" وهو هنا واضح في التعليل. فصحّ أن ابن سلول استعلن بكفره، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بقتله أصالة. هذا لا يعاند فيه إلا جاهلٌ أو غبيّ أو أعجميّ. فعلة حكم القتل صريحة منصوصة لا ريب فيها، وهي إظهار الكفر بعد النفاق. ولا يغرنك قول إن ابن سلول لم يذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنّ دليل الخطاب، كما يفهمه العرب، بيّنٌ في إنه يريد النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قصة عمر مع الزبرقان بن بدر حين هجاه الحطيئة.  

2. أمّا عدول النبي صلى الله عليه وسلم عن الحكم الأصلي، فإنه من قبيل اعتبار مآلات الأفعال، وهي من أخصّ خصائص الفقيه المجتهد، وهي ما بيّنه قول النبي صلى الله عليه وسلم الصريح "لا يتحدث الناس"! وأعجب من هؤلاء، أين يذهبون بهذا القول!؟ والأحكام الشرعية ثابتة لأسباب اتفق العلماء على أنها جالبة للمصالح ونافية للمفاسد. هذا بشكلٍ عام. اما في الأحكام الفردية، أو الوقائع الخاصة، فيصح أن يكون حكم ما مؤدياً إلى مفسدة، في هذا المناط، تربو على مصلحته، كما أوقف عمر رضي الله عنه حكم قطع اليد في عام المجاعة. ولا يُقال "عطّل" لأنها كلمة تدليسية يريد بها الخصم تشويه الدليل ليس إلا! وعدم تطبيق حكم ما، في واقعة أو مناطٍ ما، واقع كثيراً في الشريعة. قصارى القول أنّ هذا الحكم يقع تحت قاعدة كلية أخرى، لا كما يظهر بادي الرأي، فيشتبه ذلك على الجاهل. ولا ندري، هل ينكر الصومالي أو القنيبي دليل سدّ الذرائع كليّة، الي قال فيه ابن القيم إنه ربع الشريعة، وأجمع الأصوليون على قبوله، خلافا لابن حزم!؟  

يقول النووي في شرح مسلم " قوله صلى الله عليه وسلم (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) فيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم، وفيه ترك بعض الأمور المختارة والصبر على بعض المفاسد خوفاً من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم منه، وكان صلى الله عليه وسلم يتألف الناس ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم، لتقوى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغب غيرهم في الإسلام، وكان يعطيهم الأموال الجزيلة لذلك، ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى ولإظهارهم الإسلام".  

3. وقول النووي هذا، يحملنا إلى النقطة الثالثة، فقد عدّد رحمه الله العلة هنا، إذا ذكر أولاً إنها سد للذريعة واعتبار للمآلات، ثم قال "ولإظهارهم الإسلام". وهي علة مخالفة لما سبق، وإن لم ينبّه علي ذلك رحمه الله. ولقائل أن يقول، في الدرجة الثانية، ما ذهب إليه القائلون بأن المنافقين، ومنهم ابن سلول، لم يصرحوا بالكفر، استشهاداً بقول النووي، لكنه يجب أن يكون معلوماً انّ الأصل هو اعتبار المآلات، وهو ما جاء به أولاً، لا أن ينكره ويعتبره "خطأ خطير في فهم الحديث!!!". وتعدد العلة معروف مقرر في أصول الفقه.

جاء في البحر المحيط للزركشي: "والثاني: الجواز مطلقا وهو الصحيح وقول الجمهور كما قاله القاضي في التقريب، ثم قال: وبهذا نقول بناء على أن العلل علامات وأمارات على الأحكام، لا موجبة لها ، فلا يستحيل ذلك . هذا لفظه، وقال ابن برهان في الوجيز: إنه الذي استقر عليه رأي إمام الحرمين. وقال ابن الرفعة في المطلب: كلام الشافعي في كتاب الإجارة من الأم عند الكلام على قفيز الطحان مُصرِحٌ بجواز تعليل الحكم الواحد بعلتين " البحر المحيط ج 5 ص 175، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.  

هذا قد يكون مقبولاً، وإن لم أر، شخصياً، الأخذ به، لصراحة الحديث، ولنصيّة العلة.  

4. لكن، ما لهذا والديموقراطية!؟ الديموقراطية، هي "حكم الشعب للشعب"، وهي، بتعريف أصحابها ومخترعيها ومدّعيها "الالتزام بما يراه ممثلو الشعب كمرجعية في تقرير الإحكام، أياً كانت، ومهما عارضت من شرائع". وهذا كفر بواح، واضح وضوح الشمس في رائعة النهار، لمن له عقل. والعمل بها، واتخاذها اساساً للحكم، ولو لحظة واحدة غير مبرر بسدّ ذريعة ولا مآل حكم.  

فأولاً: هي كفر في مناط جمعي، وليست في مناط فرديّ.

ثانياً: هي إرساء إيجابيّ لقاعدة كفرية، وليست كفّ سلبيّ عن تطبيق حدٍ، والفارق بينهما شاسع.  

ثالثاً: هي جالبة لمفاسد أعم وأبعد أثراً مما يدعيه أصحاب الديموقراطية من المتسمين بالإسلام، إذ تفسد المجتمع كله، وتلقيه في الكفر وبالتالي مفاسد تقنيناته ودوام أثرها كلها مجتمعة، في مقابل ادعاء تجنب مفسدة موهومة غير واقعة حالاً، بل متوقعة مآلاً!  

5. أنّ هذا يقارن بقبول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوانين قريش وقتها، استدراجاً لهم، لو أردنا الاستدلال الصحيح، ولقبوله طلبهم "نعبد إلهك يوما وتعبد آلهتنا يوما" والعبادة الطاعة. أو قبول المداهنة "ودّوا لو تدهنن فيدهنون"، فهل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك!؟ ذلك هو ما نبين به بطلان الديموقراطية، وغيره كثير دونّاه، ودوّنه غيرنا في مواضع لا حصر لها، لا أن ننكر دلالة حديث صحيح صريح!  

6. أما عن ابن حزم، فكما ذكرنا لا يؤخذ بقوله عند المخالفة. أما عن ابن تيمية، فإنه كما قررت من قبل في كتابي "الجواب المفيد"، قلت "إن الاستدلال بقول فقيه أو إمام من بعض كتبه، بينما نصوص أخرى لنفس الفقيه أو الإمام يفهم منها عكس المفهوم الأول لنفس أقواله في مواضع أخرى، لهو افتئات على الإمام أو الفقيه نفسه. فالفقيه حين يتكلم في موضوع ما، ثم يعرض ـ بطريق العرض وليس بالقصد الأول ـ لقضية أخرى في معرض كلامه، لا يصح أن يستشهد بقوله في موضع آخر ـ الذي تحدث فيه بطريق العرض ـ لنقض كلام نفس الفقيه في موضع آخر، ناقش فيه هذه القضية بصورة أساسية ابتداءً" الجواب المفيد الطبعة الثالثة المشروعة، دار ريم 2012، ص 58  

وقد ذكر المتحدثون ابن تيمية في معرض حديثهم، وكأنهم وجدوا نصوصا له، يصرّح فيها بما رأوه، وهو نوعٌ من التدليس. وسأذكر هنا ثلاثة مواضع من أهم ما دون الإمام ابن تيمية في هذا الأمر، كلها من كتابه الماتع "الصارم المسلول".  

أولها، قال ابن تيمية: "فإن الناس ينظرون إلى ظاهر الأمر فيرون واحدًا من أصحابه قد قُتل فيظن الظان أنه يقتل بعض أصحابه على غرض أو حقد، أو نحو ذلك فينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وإذا كان من شريعته أن يتألف الناس على الإسلام بالأموال العظيمة ليقوم دين الله وتعلو كلمته فلأن يتألفهم بالعفو أولى وأحرى، فلما أنزل الله تعالى براءة ونهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم وأمره أن يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم؛ نسخ جميع ما كان المنافقون يعاملون به من العفو كما نسخ ما كان الكفار يعاملون به من الكف عمن سالم ولم يبقَ إلا إقامة الحدود وإعلاء كلمة الله في حق كل إنسان" الصارم المسلول 243.  

وقال "فحيث ما كان للمنافق ظهور وتخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه علمنا بآية: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} الأحزاب: 48، كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح وحيث ما حصل القوة والعز خوطبنا بقوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} فهذا يبين أن الإمساك عن قتل من أظهر نفاقه بكتاب الله على عهد رسوله عليه الصلاة والسلام إذًا لا نسخ بعده» الصارم المسلول 362.  

وقال: "فحاصله أن الحد لم يقم على واحد بعينه لعدم ظهوره بالحجة الشرعية التي يعلمه بها الخاص والعام، أو لعدم إمكان إقامته إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام وارتداد آخرين عنه وإظهار قوم من الحرب والفتنة ما يربى فساده على فساد ترك قتل منافق، وهذان المعنيان حكمهما باقٍ إلى يومنا هذا، إلا في شيء واحد وهو أنه صلى الله عليه وسلم ربما خاف أن يظن الظان أنه يقتل أصحابه لغرض آخر مثل أغراض الملوك فهذا منتفٍ اليوم" الصارم المسلول 362.  

فأنت ترى أنه في النص الأول، صرّح بأن العلة هي درأ مفسدة سوء الظن بالإسلام، وهي من اعتبار المآلات " فيظن الظان أنه يقتل بعض أصحابه على غرض أو حقد، أو نحو ذلك فينفر الناس عن الدخول في الإسلام".   ثم في النص الثاني " فحيث ما كان للمنافق ظهور وتخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه علمنا بآية: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} الأحزاب: 48" وهي نفس العلة كذلك نصاً.  

ثم في النصّ الثالث، أورد العلتين، كما ذكرنا، بل صرّح بأنهما علتان "وهذان المعنيان حكمهما باقٍ إلى يومنا هذا"، وهاتان هما الأولى "لعدم ظهوره بالحجة الشرعية التي يعلمه بها الخاص والعام"، والثانية "لعدم إمكان إقامته إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام وارتداد آخرين عنه وإظهار قوم من الحرب والفتنة ما يربى فساده على فساد ترك قتل منافق". فقد أخذ هنا بتعدد العلل كما ذكرنا.  

يذكرني هؤلاء القوم بحكاية بالدب الذي قتل صاحبه بحجر ليدرأ ذبابة عن وجهه!   فلعل في هذا بيانٌ لمن أراد علماً صحيحاً مبنياً على دقة نظر وصحة استدلال.  

وما توفيقي إلا بالله  

د طارق عبد الحليم 2 سبتمبر 2020 – 4 المحرم 1442  

 

هوامش:  

1. وهو رجل فيه خارجية واضحة، والتواء بالأدلة، بان ذلك في دعمه للحازمي، وردّه على بحثي في شأن حكم العاذر، ثم في مناظرته للشيخ الصادق، رغم خطأ الشيخ الصادق في بعض النقاط، ودخول بعض الشبه التي دخلت على المرجئة، في حديثه واستدلالاته.  

2. وهو رجل نحسبه مخلصا ولا نزكي على الله أحداً، لكنه خطيب واعظ، بارع في ذلك وفي أمور عدة، صاحب لسان قويّ قادر على الإقناع، لكن لا يصح أن يتجاوز هذا القدر حتى يكون له في العلم باع حقيقي خاصة في الأصول والتفسير، لا مقتطفات من هنا وهناك، وفقه الله للخير.