إزالة الصورة من الطباعة

نظرات عملية في طريق بناء الأمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

(1)

العمل، أي عملٍ، هو بذل جهد في طريق يوصل إلى هدفٍ معين، يرتبط بهذا الجهد، ويخرج به من صورة القوة إلى صورة الفعل. ومن ثم، فإن ذلك الجهد يجب أن يكون مرتبطاً بالعمل المنشود ارتباط السبب بالنتيجة، دون فصام أو تشعب.

ومن البيّن الواضح أن أكبر عملٍ يمكن أن يقوم به جمعٌ من البشر، هو بناء أمة. أمة تحللت عراها، وتفككت أجزاؤها، وتبدلت مقاييسها، واعوجّ ميزانها، وفسد أعضاؤها، حتى صارت لا حقيقة لها في عالم الواقع، إلا اسماً يتردد في وكالات إخبارية أو كتابات فكرية، أو عقول شباب حالمٍ واهمٍ، لا يرى واقعه إلا ظلاً لماضيه.

وحتى يمكن الحديث بطريقة علمية عن بناء الأمة، فإنه يجب التأكيد على حقيقة أنّ الأمم تتكون من مركبين أساسين، الفكر والإنسان.

أمّا الفكر، فقد يسّر الله علينا أمرنا بفضله، فهدانا بكلماته، ثم بنبيه المصطفي صلى الله عليه وسلم، ثم بنخبة هي أفضل البشر من بعده. ثم أعطانا العقل الذي، بنور تلك الهداية، يمكنه أن يجلّي الحق وينير الطريق ويرشد الساري ويعيّن الحكم، في أي زمان أو مكان أو حال.

وأوليات ذلك الفكر المنهجيّ معروفة مقررة، وإن كانت اليوم تحتاج إلى تبسيط شديد، بعيداً عن المراجع والمجلدات والتعريفات والموسوعات. وهو ما سنحاول أن نقدمه هنا إن شاء الله.

أمّا عن الإنسان، فقد رأينا أن عملية هدم الأمة التي تولت كبرها ما يسمونها حضارة الغرب، التي نشأت على بقايا من حثالة الفكر اليوناني والروماني، بين ما هو من سمادير البشر التائه، أو بقايا نتاج عقله الواعي، تولت تلك الحضارة الهجوم على الإنسان في أمتنا المهدّمة، قبل أن تحتل أرضه وتمتص دماءه، فأفسدت عليه مفاهيمه، وخُلُقَه، وأضاعت ثوابته، وشككت في مسلماته، فصار كائنا لا ينتمى إلى منهج محددٍ معين، يسترشد بنوره، إن أظلمت عليه الدنيا، بل أصبح ركاماً من مخلفات حضارية متعددة، متناقضة، متباينة، لا يحمل من حضارة الإسلام إلا قدر ما يحمل ميكانيكي الدراجات، حين يلقبونه "باشمهندس"!

من ثم، فإن العامل على بناء الأمة، يجب أن يكون على إدراك تام بمُرَكَّبَيْها، الفكر والإنسان. وأن يعرف نقائصهما وسلبياتهما في الإنسان، حتى يمكنه أن يصلح ما أفسده أيدي العابثين على مدى قرون.

يتبع إن شاء الله تعالى

د طارق عبد الحليم

11 ديسمبر 2019 – 14 ربيع ثان 1441

 

(2)

والمبدأ الإسلامي، يتمثل في فكرة واحدة، بسيطة يسيرة، هي التوحيد. وهي الفكرة التي هاجمها الغرب الصليبي بشراسة على مدى قرون، ازدادت وحشية وعنفاً في القرنين الأخيرين من الزمان.

والتوحيد، بكل بساطة، هو التسليم لله سبحانه، واتباع كلماته المنزّلة على محمد صلى الله عليه وسلم، كما بيّنها للناس، وطاعة أوامره واجتناب نواهيه، وحده بلا شريك في حكمٍ ولا ولاء و نسك.

هذا هو محور الفكرة الإسلامية، بلا شروح وتعليقات وتعقيدات. وهذا هو ما يجب أن يبدأ به المُصلح سيره في طريق بناء الأمة. فقد فقد "الإنسان" المسلم وعيه بمبدئه وأيديولوجيته، وتم تحريف الكثير من المعاني المتعلقة بجذور فكرته الأصيلة، وتبديل بعضها، فأصبح ركاماً من بقايا مفاهيم نصرانية، يهودية، بوذية، علمانية، وما شئت مما يدور في عقول البشر التائه عن الحق، متعلقاً بشبه، أو شبهة ترتبطه، ولو من أبعد مسلك فكري، بشئ من الإسلام الأصيل، إلا من انخلع عنه دينه البتة.

وهذه الكلمات القليلة، هي محورٌ ما يدور عليه البعد الفكريّ العقديّ، الذي لابد أن يعود للوعي الإنساني المسلم، بلا غبشٍ ولا تعتيم، ولا مقايضة، ليكون البناء قوياً صحيحاً، مرة أخرى.

ومن ثم، فإن الخطأ البيّن الفاحش، الذي يرتكبه عدد من "الدعاة" أو من "الجماعات"، هو محاولة البناء على ركامٍ مختلطٍ مشوش مزيف، يكاد يكون من المستحيل تمييز الغث فيه من السمين، والصحيح من السقيم.

ذلك أن استراتيجية المناوئ، قامت على أساس مبدأ "التشكيك" في الثوابت، بدلاً من إنكارها، كخطوة أولى. والتشكيك أول خطوات الإنكار. لذلك فإن الشك في أي ثابتٍ من ثوابت التوحيد كفر بالله العظيم، لا يلزم أن يكون إنكاراً.

ولضمان سهولة وسيولة عملية التشكيك، تبنى العدو مبدأ "الخلط" في المفاهيم، كمرحلة أولى. فدعم فكرة القومية والوطنية والأخوة "الإنسانية" والتعاون المصلحيّ، في مقابل الأخوة الإسلامية، ومفهوم الولاء والبراء، الذي هو الركن الركين للتوحيد. كما أشاع مفاهيم الديموقراطية والليبرالية في مقابل الشريعة وضوابطها وقوانينها. ولغط العدو كثيراً حول مفاهيم الوسطية والتجديد في الإسلام، فأسبغ عليها معانٍ علمانية، وأشاع مفاهيم جديدة جذابة مثل "التسامح والمحبة" في مقابل تبديل فكر المقاومة وجهاد المعتدي الغاشم الصائل!

د طارق عبد الحليم

14 يناير 2020 –9 جمادي الأولى 1441

 

(3)

أدركت منذ فترة ليست ببعيدة أن محور المشكلة الإسلامية، أو المصيبة الإسلامية على وجه أدق، ليس في تخلفٍ في التكنولوجيا أو فقر في المصادر أو تخلف عقلي موروث، بل محور المصيبة هو في (قيمة) الإنسان. فالإنسان، في رفات أمتنا المسلمة اليوم عديم القيمة، ومن ثم فإن العدم، لو تراكم منه ١.٧ بليون إنسانا لظلوا عدما بلا قيمة!

والإنسان المسلم اليوم، إلا من رحم ربي، إذا نظرت حولك، وجدته، في الغالب الأعم، فاقدا لقيمه الإسلامية والإنسانية. فهو أناني كسول جبان كاذب جاهل منافق، مغتنم للفرض، نفعيّ، منطو على نفسه، حاقد على كل شئ وفي كل أمر.

وحال هذا الإنسان لم تكن ساقطة بذلك الشكل المروّع حتى عهدٍ ليس ببعيد. لكن العدو تعاهد على تدمير الشخصية المسلمة في بلادنا تدميراً تاماً، بكل وسيلة ممكنة. الفقر الذي جعل الفرد لا ينظر أبعد من لقمة عيشه الآن! الإرهاب الذي يجعل الفرد يُحرم على نفسه التفكير ابتداءً. الجهل بالقيم والثوابت والمعالم الحضارية الإسلامية، ومسخ التعليم، مع نشر أقذر ما في الحضارة الغربية من مفاهيم وتطبيقات منحطة مدمّرة. وعلى رأس كلّ تلك العوامل، تمكين أنجس وأحط نوعيات البشر لأعتلاء سدة الحم، رؤوساء أو ملوكاً، في كافة بلاد المسلمين، ليكونوا اليد المدمرة المنفذة لخطط العدو، ثم دعمهم بعسكر مصنوع على أعين العدو، حاملٌ لعقيدة الولاء لسيده الأعلى، الحاكم، أيّا كان.

ضع كلّ تلك العوامل، تعمل معاً، في شعوبٍ منهزمة عسكرياً، محتلة اقتصادياً وفكرياً، فلن يخرج لك من ذلك الخلاط الحضاريّ العفن إلا منقوع حضاريّ متآكل آسنٍ، مهزوم بكل ما تحمل الكلمة من معان.

وأكاد أسمع بعض سخفاء الرأي وسفهاء الفكر، يعترض على ما ذكرت، بأن الإنسان المسلم اليوم بخير! وأن هذا التوصيف فيه تثبيط للهمم وكسر للعزائم! أقول، وأين هي الهمم التي يثبطها هذا التوصيف الدقيق؟ وأين هي الهمم التي يكشرها هذا الحديث الواقعيّ؟ أليست مواجهة الواقع، وفهمه ودراسته على حقيقته، أولى من سياسة تغطية العيون وسد الآذان والتمنى دون أصل أو أساس!؟ من المستفيد من اعتبار أن الإنسان المسلم اليوم قويّ قادرٌ أمره كله على خير؟ السيسي؟ نعم، هذا ما يشيعه مثل هذا المجرم القاتل وإخوانه من حكام السوء، أن أمتنا بخير، وأننا نعيش في رفاه وحرية منضبطة، وأن الإنسان له قيمة (!) محفوظة، في ظل حكمهم الطاغوتي. لا يمكن أن يقروا بأنهم مسخوا الهوية والشخصية المسلمة حتى استسلمت بمثل هوان "سلمية" أو بمثل اتباع المجتمع الدوليّ أو الخضوع لسياسات دول موالية للغرب أصلاً، حتى قضوا على ما أمّلنا فيه خيراً كما في الشام مثلاً.

يجب أن يكون معلوماً مفهوماً أننا في مواجهة واجب في غاية الثقل والصعوبة، يحتاج لهمم عظام وفكر ثاقب وثبات كالجبال، فالأمر هو أولاً أمر إعادة صياغة الشخصية الإنسانية السويّة في مجتماعاتنا.

وهذا الذي حدث من مسخٍ للشخصية الإنسانية الإسلامية في بلادنا،  يعنى أن الإنسان صار مفقوداً لا رجاء فيه، فهذا هو معنى اليأس، وهو ما لا نقصده هنا، وإلا فلا يكون هناك معنى ولا قصد لما نكتب. بل يجب أن نفرّق بين وصف واقع مهما بلغت مرارته، واليأس من إصلاحه. والإنسان المسلم، إلا من اجتالته الشياطين، لا يزال فيه بقايا حسٍّ من آثار دين وحضارة دامت قروناً، ثم زالت في قرن أو بعض قرن.

د طارق عبد الحليم

14 يناير 2020 – 10 جمادي الأولى 1441

 

 

 

 

(4)

وحتى تبدأ مسيرة بناء الأمة بخطى ثابتة واثقة سديدة، فإنه يجب التعامل مع شقيّ المعادلة اللذين ذكرنا، الشق العقديّ والشقّ الأخلاقيّ.

وهنا تَفِدُ أسئلة كثيرة على خاطر الناظر، بأيهما نبدأ؟ ومن أي مستوياتهما؟ وإن كنا جميعا مصابون، بدرجات متفاوتة وبشكلٍ أو بآخر، بعرض من تلك الأمراض، فمن الذي سيقوم على تولى مهمة البناء؟ ثم ما هي خطة البناء، وأدواته؟ وهلمّ جرا.

ونحن لا نريد هنا أن نُثقل على القارئ ولا على أنفسنا، بعناءٍ لا طائل تحته، أو بالحديث عن أمور سبق أن قتلناها بحثاً من قبل، لكن، قصدنا هو أن ننظر في الأمر نظرة كلية عامة، تكون بمثابة إعادة تذكير، أو ترتيب لأمور هي لبُّ مشكلتنا الإسلامية، والإشارة إلى مكوناتها وترتيبها ووسائل العمل عليها.

فأمّا البعد العقديّ، فإننا نحسب أنّه مفتّتٌ مبعثرٌ في عقول المسلمين، لا يعرفون حدّه الحقيقيّ، و غالب مكوناته بله تفاصيله. ذلك أنه البعد الذي يحمل وزر تقويضه المسلمين أنفسهم، بما خرج فيهم من مبتدعة على مرّ القرون، ثم الغرب، الذي استثمر هذا التفرق للعبث بالعقيدة يميناً ويساراً. فصار الغرب اليوم هو من يقدّم "طبعات جديدة" للإسلام، على رأسها الإسلام الأمريكي" الذي يكان يتطابق مع بدعة الصوفية من ناحية، وبدعة الإرجاء من ناحية أخرى، في أسوأ صورهما.

وجمع هذا الشتات وضبط مفاهيم العقيدة وأصول الدين، التي لا يسع مسلماً أن يجهلها، أمر جدُّ خطير، كما أنه صعب في غاية الصعوبة. فالبدع صغيرها وكبيرها، عشّشت وباضت وفرّخت في عقول المسلمين منذ قرون، يغذيها الفكر اليوناني أولاً، ثم الهرطقة المسماة بالفلسفة الإسلامية، ثم الفكر "التنويري" المسيحيّ، بشقيه الشرقيّ الشيوعي والغربي الليبرالي، منذ قرنين.

وقد قامت محاولات للتصدي لهذا الانحراف على مدى تاريخنا، أشهرها موقف الإمام أهل السنة أحمد بن حنبل في أزمة خلق القرآن، ومن بعدها بعض جهود المتوكل، ثم أعمال الأئمة الأعلام من أهل السنة، الذين تصدوا لعلم الكلام، ثم للجهمية والخوارج، كأعم المحدثين، مثل البخاري ومسلم والترمذي وأب داود والبيهقي ومن في رتبتهم، ثم من تبعهم مثل ابن تيمية وابن القيّم وابن كثير وابن عبد الهادي والبلقيني ومن في رتبتهم، ثم محمد بن عبد الوهاب والجيل الأول من أبنائه وأحفاده، ومشايخ السنة مثل الصنعاني وحافظ حكميّ، ثم المشايخ محمد بن ابراهيم والقاسمي والأمين الشنقيطي والسعديّ وتلامذتهم، والمودودي والندوي وسيد قطب وتلامذتهم في عصرنا الحديث، رحمهم الله جميعا.

د طارق عبد الحليم

25 يناير 2020 – 21 جمادي الأولى 1441