إزالة الصورة من الطباعة

تطور علم أصول الفقه .. بين الشافعيّ والشاطبيّ

بحث

تطور علم أصول الفقه .. بين الشافعيّ والشاطبيّ

الجزء الأول

 

الحمد لله الذي لا يحمد سواه، المحمود على كل حال، وبكل لسان ومقال، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

(1)    العلوم، في تطوّرها، كالوليد في نشأته، أو كالنبتة في نموها، تبدأ بسيطة سهلة لا تحمل الكثير من عناصرها التي تتهيأ لها مع الوقت، والتي تشملها بالقوة لا بالفعل، ثم تنمو وتتطور، وتتسع رقعتها وتمتد مساحتها، لتكتمل على سوقها، حتى تصبح مرجعاً متكاملاً لطالبي معانيها. فمن زعم أن علماً قد وُلد متكاملاً على يد فلان، فقد أبعد النجعة وانحرف في النظر. وعلم أصول الفقه لا يخرج عن هذا المسار قيد أنملة.

وقد عزمت على أن أخرج هذا البحث الذي يتناول تطور علم أصول الفقه، منذ أن أعلن الإمام الشافعي رحمه الله ميلاده في كتابه العظيم "الرسالة"، الذي قال عنه الإمام عبد الرحمن بن مهدي[1] رحمه الله "لمّا نظرت الرسالة للشافعيّ أذهلتني لأنني رأيت كلام رجلٍ عاقل فصيح ناصح، فإني أكثر الدعاء له". إلى أن ختم الإمام الشاطبيّ رحمه الله مرحلة نضجه واستوائه على عوده في كتابه الفريد "الموافقات"، بل، في رأينا، هو مولد علم لصيقٍ به، جديدٍ في الساحة، هو علم أصول النظر والاستدلال، كما أحب أن أسميه.

(2)    وقد ساد في أقوال المحدثين ممن تناول هذا الأمر في ثنايا الحديث عن تاريخ التشريع الإسلاميّ، مثل الخضيري وعبد الوهاب خلاف ومحمد أبو زهرة ومناع قطان، وغيرهم، أمر تطور أصول الفقه. وكان بينهم شبه إجماع على أن هذا العلم قد تطور من خلال مدرستين أصوليتين، هما مدرسة الشافعية والمتكلمين، ومدرسة الأحناف[2]. ويشْتَم الباحث من حديث أولئك العلماء أنّ المدرستين مبتوتَتا الصلة ببعضهما، من حيث أحداهما وهي مدرسة الشافعية والمتكلمين، تتناول الأصول من القمة إلى القاعدة، أي تضع القواعد الأصولية أولاً، بطريق عقلي منطقي، ثم تنظر بعدها وعلى ضوئها في الفروع، بينما تفعل الأخرى عكس ذلك، فتبدأ من القاعدة إلى القمة، ناظرة في الفروع ثم بانية عليها القواعد الأصولية.

لكن الناظر في تلك الكتب، لا يجد تتبعاً تفصيلياً لتحقيق هذه الدعوى، أو على الأقل، لم أقع بنفسي على ما يدل على ذلك، رغم إنني قد نحيت هذا المنحى في كتابي "مفتاح الدخول إلى علم الأصول" فقلت ما نصه:

"وقد أُلف فيه على طريقتين:

ثم ظهرت الكتب المحدثة منها: أصول الفقه للخضري، أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف، وأصول الفقه لمحمد أبو زهرة."[3]

فأنت ترى إني أخذت بذات القول الذي أقوم بمراجعته اليوم، وهذا من طبيعة عمل البشر القاصر من ناحية، ومن طبيعة عملي في ذاك الكتاب الذي جاء محصلة ثلاثين عاماً من جمع متفرقات لم يُقصد بها إلا الاختصار والتبسيط لهذا العلم من جهة أخرى.

(3)    ومما يجب ملاحظته التفرقة بين عملية تطور العلم – خاصة علوم الشريعة - في أوساط العلماء المهتمين به، من حيث استخدامه وتطبيقه، وبين عملية تدوينه وتقييده وترتيبه في الكتب. وفي هذا الصدد تختلف العلوم الشرعية عن ألوان العلم الأخرى، من حيث إنّ المرجع الرئيس والوحيد لكلّ تلك العلوم الشرعية موجود مدوّن بالفعل، وهو كتاب الله سبحانه. ونحن نرى ذلك في العلوم الثلاثة التي وصفها العلماء بأنها محور علوم الشريعة، وأقصد بها علوم الحديث والفقه وأصول الفقه. فقد نزّل الناس الفتاوى زمنا قبل أن تبدأ عملية تدوين الفقه وتبويبه، ثم بدأ التدوين على أساس ما أفتى الناس.

ومما تناولت أعلاه، فإن الغرض من هذا البحث يتلخص في:

  1. الحديث عن تطور علم الأصول بشكلٍ عام، من عصر الشافعي رحمه الله إلى عصر الشاطبيّ رحمه الله، دون الخوض في كلّ تفاصيله والوقوف مع كلّ كتبه، فإن ذلك يخرجه من مكانة البحث إلى مكانة الكتاب.
  2. إعادة النظر في مقولة إن تدوين علم الأصول انقسم إلى المدرستين اللتين أشرنا اليهما آنفا، لنتحقق من مدى صحتها ودقتها، عن طريق مقارنة أمهات كتب العلم في المذاهب المختلفة.
  3. النظر في أقوال بعض المحدثين ممن قللوا من شأن كتاب الموافقات، فلم يوفوه حقه في مكانته من هذا العلم.
  4. إقرار خلاصة ما نراه في مسألة تدوين هذا العلم وتاريخه.

وسيكون حادينا في هذا البحث النظر في مراجع عديدة، على رأسها رسالة الشافعي رحمه الله، والمستصفي للغزالي[4] الشافعي، وأصول الكعبيّ[5] والبزدوي[6] من الأحناف، وما تجمع من أراء الإمام الصيرفي[7] الشافعي من حيث يعتبر حلقة وصلٍ هامة فيما نحن بصدده. كذلك سنعتني ببعض ما دوّن غيرهم في أصول المالكية من حيث إن الشاطبي، الذي انتهت اليه رياسة العلم، فيما نرى، مالكي المذهب. كما استعنّا فيه بكتاب كشف الظنون لحاجي خليفة[8]، وإرشاد الفحول للشوكانيّ وغير ذلك مما يأتي في محله، خلا بعض ما دوّن المحدثون في باب الأصول أو تاريخ التشريع الإسلاميّ.

(4)    أشرنا فيما سبق إلى "التفرقة بين عملية تطور العلم – خاصة علوم الشريعة - في أوساط العلماء المهتمين به، من حيث استخدامه وتطبيقه، وبين عملية تدوينه وتقييده وترتيبه في الكتب. وفي هذا الصدد تختلف العلوم الشرعوية عن ألوان العلم الأخرى، من حيث إنّ المرجع الرئيس والوحيد لكلّ تلك العلوم الشرعية موجود مدوّن بالفعل، وهو كتاب الله سبحانه. ونحن نرى ذلك في العلوم الثلاثة التي وصفها العلماء بأنها محور علوم الشريعة، وأقصد بها علم الحديث والفقه وأصول الفقه. فقد نزّل الناس الفتاوى زمنا قبل أن تبدأ عملية تدوين الفقه وتبويبه، ثم بدأ التدوين على أساس ما أفتى الناس". وعلى هذا الأساس من الفهم والتوجه سنبني بقية بحثنا إن شاء الله.

الرسالة:

(5)    كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً وافيا شافيا كاملا للقرآن، ولتعاليم الإسلام، على مستوى الفرد والجماعة، الرجل والمرأة، الاقتصاد والاجتماع والسياسة، بلا استثناء. ولم تكن حياته صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وتقريراً، أي سنته، إنشاءاً لأحكام جزئية لا غير، بل كان فيها الكثير من الكليّات نصاً، كما أن تحت جزئياتها يجتمع المنهج النبويّ الشرعيّ.

بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدرت فتاوى الصحابة، ثم التابعين، ثم تابعيهم، ومنهم أئمة الفقه والحديث. وكانت تلك الفترة تتميز بعلو شأن علم الحديث من حيث ضرورة جمعه وتصحيحه وجرح وتعديل رجاله لتصفيته من الدخيل. كما كان الفقه كذلك، إذ كانت الحاجة، ولا تزال إلى إنزال الأحكام على المناطات لتصبح فتاوى، يعيش الناس بها، حيث كانت هي "القوانين" التي تصوغ المجتمع الذي يخضع لشرع الله، حتى مع ظلم أو فسق بعض ولاته.

لكن المنهج النبويّ في التعامل مع الأحداث، الذي هو تشريع خالصٌ، كان ملهماً للفقهاء، من حيث كان حيّاً في تعاملات الصحابة، ثم التابعين وتابعيهم. ثم جاء من بعد ذلك خلفٌ ضعف فيهم ذلك الحس، كما ضعف الحس بالعربية مثلاً، فأنشأ الخليل بن أحمد الفراهيدي علم العروض، وبدأ الأسود الدؤولي علم النحو بالتشكيل ثم برز فيه الخليل، وبرز الهراء في علم الصرف.

فكانت إذن أقضيات الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم تجرى على منوال قواعدٍ مستقرة رأوها بعين العقل وشهادة النص، حتى أتي الزمن الذي احتاج فيه الناس إلى تدوين هذه القواعد، لتكون قانوناً ومنهجا يسير عليه الفقهاء في أقضياتهم وفتاويهم.

وهنا جاء الشافعي. وجاءت الرسالة. فهي إذن حصيلة عقودٍ من الممارسة للمنهج النبويّ، من خلال الفقه والحديث والفتاوى، من عدد ضخم من علماء الفقه والحديث من الرعيل الأول والثاني بعد الصحابة رضوان الله عليهم.

(6)    ولسنا بصدد مدح الرسالة ولا واضعها، فمن نحن لنتحدث ولو بإطراء، عن الشافعيّ رحمه الله! وكما قال العلامة أحمد شاكر في مقدمة تحقيقه[9] "وكفي الشافعيّ مدحاً إنه الشافعيّ، وكفي الرسالة تقريظاً إنها من تأليف الشافعيّ".  لكن قصدنا هنا هو رَصد مراحل تطور علم أصول الفقه، ورصد تطوره ونضوجه، من حيث "الرسالة" أول ما دُوّن فيه، وكلّ من كتب فيها من بعده عيال عليه فيه.

وإذا نظرنا فيما أتى به الشافعيّ رحمه الله في الرسالة، وتطلعنا في أبوابها، وجدناها قد اشتملت على بعض أبواب أصول الفقه، كما يعرفها علمه اليوم، بل كما عرفها علم الأصول في القرن الخامس الهجريّ. وهذا يثبت بلا موضع شك أو محاججة تطور هذا العلم من وراء عمل الشافعي رحمه الله.

فالرسالة قد تناولت أبواباً في الناسخ والمنسوخ من القرآن، والعام والخاص وأنواعه، والأمر والنهي وفرض العين والكفاية، واستطردت في البيان وأنواعه مع تنزيله على كثيرٍ من الفرائض، والحديث في علل الحديث، وحجية حديث الآحاد والاختلاف في أكثر من موضع[10]. كما تناولت بعض صفحاتها الحديث في الاجماع والقياس والاستحسان والاجتهاد، في الجزء الأخير من الكتاب.

ولسنا كذلك في صدد الحديث عن مذهب الشافعيّ في القياس أو نظره في الاستحسان، إذ هذا موضعه في دراسة الأصول ذاتها. كما إننا لن نخوض في الفرق بين ما سميّ بمدرستي الرأي والحديث، فإن لنا في هذا نظر سندوّنه بإذن الله، إذ هو أحد أغراض هذا البحث.

(7)    والملاحظة الأولى هي أنّ أبحاث الأصول في الرسالة لم تأتى متكاملة الجوانب كما هي في كتب الأصول من بعدها، ولم يكن هذا من الممكن بطبيعة الحال، وإن كانت قد أسست الهيكل الرئيس لما أتى من بعدها، فأنت لا ترى الكلام في سد الذرائع مثلا، ولا في الاستصحاب، ولا في المصلحة المرسلة، بل ولا في إطلاق المطلق وتقييد المقيد في أبواب البيان، رغم أنه استشهد بآيات تدل عليهما في ج2ص231، "قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير" الأنعام 145.

(8)    والأمر الثاني إننا نرى من طريقة تدوين الشافعيّ رحمه الله طابع عصره، من اهتمام بالحديث. وهذا أمر طبيعي كذلك، إذ كان هذا العصر هو بداية عصر القمة والأئمة في تدوين علم الحديث، نصاً ونقداً وجرحا وتعديلاً. وقد صنف عبيد الله بن موسى مسنده[11] ومن بعده نعيم بن حماد[12] أحد شيوخ البخاري. بل كان عصر مالك والموطأ. فلا غرو أن يكون اهتمام إمامنا الشافعيّ بالحديث على تلك الدرجة العالية في كتابته للرسالة، وهو تلميذ مالك أولاً وأخيراً.

وقد كان سائداً في ذلك الوقت انقسام الناس إلى مدرستي الرأي والحديث، وكانتا يتبارزان في الوجود. وبطبيعة الحال، كأي مدارس فكرية على سطح الأرض، فإن هناك طرفان، وبينهما أطياف لا تُحصى، ووسط أعدل. وقد زعم بعض الناس أنّ طرف الرأي انحصر في أبي حنيفة وتلامذته، كما رأي البعض أنّ مدرسة الحديث، حتى زمن أحمد لم يكن لها إمام في الفقه بعد، رغم أن ذلك خطأ في التصور وبساطة مخلة. فإن الإمام الأوزاعي[13] رحمه الله كان علماً في الحديث والفقه، وهو معاصرٌ لمالك رحمه الله، ودخل عليه ومعه سفيان الثوريّ في المدينة.

(9)    والحق أني أكره هذا التقسيم، لإطلاقه وإبهامه بين رأي وحديث. فإنه حين ينسب عالمٍ للرأي يجب أن يُحدد ما المقصود به على وجه الدقة. فمثلا قد حسب بعض المتحدثين في هذا الأمر أنّ مالكاً من أهل الرأي، وهو صاحب الموطأ، فأين موضع "الرأي" في مذهبه؟ وقد اتخذوا دليلاً مسألة ولوغ الكلب في الإناء لتقديم القياس على الخبر، ومعارضة خبر خيار المجلس للقاعدة العامة، لعل اهتمامه بالمصلحة ومراعاتها، أو تقديمه للقياس في مقابل حديث الآحاد. وهذا الأمر غير ثابت عن مالك، بل إن عبارة الشاطبي "الظني المعارض لأصل قطعي، ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال. ومن الدليل على ذلك أمران: أحدهما: أنه مخالف لأصول الشريعة. ومخالف أصولها لا يصح؛ لأنه ليس منها. وما ليس من الشريعة كيف يعد منها. والثاني: أنه ليس له ما يشهد بصحته. وما هو كذلك ساقط الاعتبار"[14] تدل على تقييد ذلك بأن تكون العلة ثابتة ثبوتا قطعيا يقينياً[15].

المهم هنا أن نثبت أنّ مالكاً كان له نظرٌ فقهيّ يقوم على الكتاب والسنة، لا على "الرأي" كما يحب المتسرعون في الحكم أن يطلقوا عليه. وقد يوافقه أئمة أخر، أو يخالفونه، فليست هذه النقطة هي مدار الحديث، لكن أنْ يقال إنهم هم أهل الحديث أو هم من توسط بين الحديث والرأي، وهم العاملون بهما، وأن مالكاً من أهل الرأي، فهذا ظلم وبهت وجهل.

انتهينا في حديثنا عن "الرسالة" إلى أن "المهم هنا أن نثبت أنّ مالكاً كان له نظرٌ فقهيّ يقوم على الكتاب والسنة، لا على "الرأي" كما يحب المتسرعون في الحكم أن يطلقوا عليه. وقد يوافقه أئمة أخر، أو يخالفونه، فليست هذه النقطة هي مدار الحديث، لكن أنْ يقال إنهم هم أهل الحديث أو هم من توسط بين الحديث والرأي، وهم العاملون بهما، وأن مالكاً من أهل الرأي، فهذا ظلم وبهت وجهل".

وخُلو "الرسالة" من بعض مواضيع الأصول أمرٌ طبيعيّ متوقع. وخروجها بالشكل التي خرجت به، من استدلال بالحديث والآيات على ما أراد الشافعيّ أن يدلل عليه من قواعد أصولية طبيعيّ أيضاً. لكنه أولاً وأخيراً، مبدأ العلم وأول خطواته. ولابد في مراحل تطوره من تعديلات وتصحيحات وإضافات. ومن الصعب أن يكون تطور من غير تبديل. ومنهج الشافعيّ في الرسالة لا يتعلق حقيقة باستدلاله بالكتاب والسنة، بل في استشفافه تلك القواعد الكليات من الأحاديث والآيات.

وقد يقول قائل، هذا والله منهج عجيب وتَصرُّفٌ في العلم لبيب، يجب أن يسير عليه الدارسون وأن يعود لشكله الباحثون. قلنا، والله إن ما قدّم الشافعيّ هو عملٌ لا شك قد تفرّد في إبداعه مما تحصل له من وسائل استخدامه. لكنّ طريقة الكتابة وشكلها هي مجرد أداة للوصول إلى الغاية المقصودة، فالمشترك العام هو الرجوع للكتاب والسنة لاستنباط القواعد الكلية، بأي كشلٍ ٍكان، سواءً بطريقة "قال تعالى .. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ... فهذا يدل على كذا (قاعدة)، فإن قيل كذا قلنا: بل قال الرسول كذا .." وهكذا، أو بطريقة "القاعدة كذا من حيث قال تعالى .. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم .. كذا وكذا". هذا شكلٌ، وذاك موضوع، هذا لبٌ وهذا لباب.

فمثلاً، في باب "كيف البيان"، وضع الشافعي قواعد البيان أولاً "والبيان اسم جامعٌ لمعاني مجتمعة الأصول متشعبة الفروع: فاقل من في تلك المعاني مجتمعة المتشعبة أنها بيانٌ لمن خوطب بها ممن نزل القرآن بلسانه، متقاربة الاستواء عنده، وإن كان  بعضها أشد تأكيدً بيانٍ من بعض. ومختلفة عند من يجهل كلام العرب"[16] لله دره، فوالله إنها كلماتٌ لا يخرج البيان عنها مثقال ذرة! ثم بيّن رحمه الله أن منها "ما أبانه لخلقه نصاً مثل جمل فراضه" أي دليل الكتاب النصي، "ومنها ما أحكم فرضه بكتابه وبين كيف هو على لسان نبيه" أي دليل السنة النبوية المبينة للكتاب، و"منه ما سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه نصّ حكم" أي السنة النبوية المنفصلة المجردة[17]، ثم جاء من السنة بأدلة على هذا النوع من الأخير البيان، ثم "ومنه ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه" وهو دليل الاجتهاد. والشافعي في هذا كله يأت بالدليل ثم يذكر آيات وأحاديث تُعضّد ما قسّم. ذلك هو منهاجه في الرسالة كلها، مع إقلال أو إكثار من الآيات الأحاديث حسب ما يستدعيه الموضع.

ما بعد "الرسالة"

(10) ثم استمر علم أصول الفقه في طريق تطوره، مع استمرار الفقه على المذاهب المختلفة، وبالتواز معه، إذ لا ينفصل الفقه عن طرق استنباطه وقواعد النظر فيه. وبدأ، حسب التقسيم الذي وضعه المحدثون لتطور علم الأصول في خطين متوازيين، ظهور مدرسة الأصول على طريقة المتكلمين والشافعية، التي تميزت، عندهم، بالمنطق، وعلى مدرسة الأحناف الذي اعتمدت على الفروع في تأصيلها. وهو ما سنناقشه فيما يأتي إن شاء الله.

علم المنطق والكلام:

ليس الغرض من بحثنا تأريخاً لعلم الكلام، أو علم المنطق، بل علاقة كلّ منهما بتطور علم الأصول، قدر الامكان، وأثرهما على وضعه وتدوينه.

ويعتبر تأسيس علم الكلام دائر بين المعتزلة والأشاعرة. فإن بدايات علم الكلام نشأت في النصف الأول من القرن الثاني، مع ظهور المعتزلة، ومؤسسا الفرقة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد. ثم تطور علم الكلام، وصعد نجم المعتزلة في أيام المأمون، حتى عصر المتوكل (ت247هـ)، الذي أنهى محنة خلق القرآن، والتي كانت قمة مأساة فكر الاعتزال في التاريخ الإسلامي. وكان عصر المتوكل هو بداية عصر انحلال القوة العباسية في العصر العباسي الثاني. ثم جاء أبو الحسن الأشعريّ (ت 324)، ليخرج على المعتزلة وينشأ المذهب الأشعري، الذي حاول فيه التوفيق بين مذهب السنة والجماعة وبين الفكر الاعتزاليّ في مسائل الخلق والوجود وإثبات وجود الله بتلك الأدلة الكلامية التي عاش العالم الإسلاميّ بعدها قرون يعتبرها فكر أهل السنة والجماعة! وبالطبع كانت مسألة الصفات على رأس تلك المسائل التي خاض فيها الأشعريّ، فأقر بسبعة منها وأوّل الباقي، بعد أن نفى المعتزلة كلّ الصفات وأولوها وعطلوها.

(11) أما علم المنطق، فإنه قد ازدهر في إبان عصر الترجمة منذ العصر الأموي[18]، وقوي في عهد هارون الرشيد، ومن بعده المأمون خاصة. وكان من أثر ذلك ترجمة المنطق الأرسطيّ وانشغال الناس به، ومحاولة إقامة التوازن بينه وبين الفكر السنيّ بعلم الكلام.

وما يخصنا في علم المنطق هنا هو القياس الأرسطيّ الذي كان لأبحاثه أثر في القياس الإسلاميّ الأصوليّ، سواء كان مما اطلع عليه الشافعي، أو لا، إذ لا نتعرض لمباحث الإلهيات في المنطق، كموضوعات الماهيات والتصورات وغيرها، فهي فاسدة لا تصلح مع إسلام وهو من عمل من أسموهم فلاسفة الإسلام وعلى رأسهم الرئيس بن سيناء، ومن بعده الفارابي وابن رشد. لكنّا سنتحدث عن موضوع القياس الأرسطيّ من حيث هو وسيلة جاء بها علم أصول الفقه، للتعرف على أحكام المثل. ولا شك أنّ هناك ما تسرّب من علم الكلام والمنطق في طريقة تناول الأصول، لكن تأثيره معروف محدود، وهو ما سنتناوله بعد إن شاء الله.

ويقوم القياس الأرسطي، باختصار شديد، على "التصور". أي تصور كنه الشئ كما يقول أرسطو في تعريفه "القول الدال على ماهية الشيء". وهو ما تقوم عليه المقدمة الكبرى أو الحد الأول في القياس المنطقيّ، ثم تأتي المقدمة الصغرى والنتيجة. ومن هذا "التصور"، جاء ضعف ذاك القياس، إذ لا أساس له إلا القضية الذهنية الذاتية. وهو ما بيّنه بن تيمية بوضوح في كتابه الفذ "الرد على المنطقيين". وقد بيّن بن تيمية أن القياس الأصولي، ومن ورائه، وأقوى منه الاستقراء بأنواعه، هو الطريق الأمثل للاستدلال، كما سنبيّن، فيما يلي دون استغراق في القضايا الأصولية إلا ما يعين على فهم تطور العلم.

تطور علم الأصول بين الشافعية والحنفية:

(12) كما ذكرنا، فإن ظهور الرسالة قد بدأ به عصر تدوين أصول الفقه، ومن ثم بدء تقعيد قواعده وتمهيد ممهداته. وهدفنا الآن هو النظر في مدونات الأصول التي تعاقبت بعد رسالة الشافعي رحمه الله، وما آل اليه التدوين في هذا العلم على مذهبي الشافعي وأبي حنيفة.

وقد جمع الإمام الزركشي الشافعي في مقدمة كتابه "البحر المحيط في أصول الفقه"[19] عدداً هائلاً من مؤلفات أصول الفقه لمن أراد مراجعتها، على كافة المذاهب. كذلك تجد ثبْت الكثير منها في حرف الألف تحت "أصول" وغيرها في كشف الطنون لحاجي خليفة.

ومن أشهر العلماء المدونين في علم أصول الفقه في القرن الثالث الهجري[20]، بعد الشافعيّ، كتاب الأصول لأصبغ[21] ت 226، داود الظاهري[22] ت 270، وكتاب إثبات القياس لعيسى ابن إبان ابن صدقة الحنفي[23]، وكتاب في الأصول لاسماعيل بن اسحق القاضي ت 282، وإن لم يصل الينا أي من هذه الكتب. أما البويطي المصري الشافعي ت 231، والمزنيّ فليس لهما كتاب معروف في الأصول، وإن كنا لا نرى كيف يصلا إلى ما وصلا اليه في إمامة مذهب الشافعي دون تبحر في هذا العلم. ثم ما كتب الحافظ ابن خزيمة الشافعي ت311 صاحب المسند في التعارض والترجيح.

أما القرن الرابع الهجري، فقد كان غنياً بالعلماء الذين شاركوا في تدوين العلم. ويلاحظ الباحث تطورا واضحا في التدوين، من حيث تنسيق الأبواب الأصولية، ومن حيث اعتماد الفروع كمرجع للقواعد بدلاً من سرد أدلتها التفصيلية من الكتاب والسنة، كما فعل الشافعيّ. ولعل طريقة الشافعي في اعتماد الأدلة التفصيلية كانت لسبب إنه أول من دوّن في العلم، ثم كانت "الفروع" على المذاهب، تطبيقاً لتلك القواعد في الفتاوى.

وأول ما وصلنا في هذه القرن عن كتابٍ جامعٍ في الأصول بعد الرسالة هو كتاب أبي بكر الصيرفيّ الشافعيّ المتوفي 330هـ، أي بعد وفاة الشافعي رحمه الله بحوالي قرن وربع قرن. وهو كتاب مفقود، يعتبر من أهم ما يبيّن تطور الفقه في القرن الثالث وبداية القرن الرابع الهجريّ. وقد قيد الله له مَنْ جمع شتات آرائه الأصولية[24]، مما جعلنا نتمكن من تحقيق منهجه في التدوين، وهو ما يهمنا في بحثنا هذا. وقريب من الصيرفي الإمام أبو علي بن إسحق الشاشي[25] الحنفي ت 344 صاحب "الخمسين في أصول الفقه"، نرى أن العلم قد نضج واستوى على ساقه، فخرج الكثير من الكتب والمدونات لكبار أعلام ذاك القرن، ومن أعلامه أبو الحسن الكرخي الحنفيّ ت 340، المنسوب لكرخ بالعراق وله كتاب مميّز في الأصول طبع بهامش أصول البزدوي، وكان فيه تعصبٌ شديد مقيت للأحناف حتى إنه قال "أصل: كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على الترجيح والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق"[26]، فسبحان الله على هذا التعصب المذهبيّ! ومعاصره الإمام أبو اسحاق المِروزي[27] الشافعي ت 340، وانتهت اليه رئاسة الشافعية بعد ابن سريج، وله كتاب "الفصول في علم الأصول". ثم منهم محمد بن سعيد القاضي ت 343، ثم أبو بكر القفال الشاشي الكبير الشافعي[28] ت 365 المعتزلي ثم الأشعري، ثم أبي بكر أحمد بن عليّ الجصاص الحنفيّ ت 370، وله تصانيف في الأصول.

(13)  والملاحظ أن كثيراً من الإئمة كتبوا في أبواب من الأصول دون أن يَستغرقوه مثل بن خزيمة، وابن المنذر ت 309 في كتابيه عن القياس والإجماع، وأبو الحسن الأشعريّ[29] ت 324 في كتبه عن إثبات القياس وفي العام والخاص[30].

وقد ضربنا الذكر صفحا عن أعلام المذهب الاعتزاليّ، مثل الجبّائي والكعبيّ وغيرهما رغم مشاركتهم في التأليف الأصولي، لما هم عليه من البدعة أصلاً، مما لا يستحب معه تناول أو تداول ما كتبوا، والمتكلمون أهوَن منهم في هذا الصدد.

أما في القرن الخامس الهجري، فعَلَمه الأكبر عبد الملك بن أبي محمد الجويني الشافعي[31] ت 478، صاحب الكثير من أنفع المؤلفات في بابها، مثل غياث الأمم في التياث الظلم" و"البرهان في أصول الفقه" وهو من عمد الكتب في هذا العلم. ومنهم الإمام أبي الحسن علي بن محمد البزدوي الحنفي[32] ت482، صاحب "كنز الوصول لمعرفة الأصول" وهو من أهم مراجع الأصول عند الأحناف، ومنهم الإمام أبو زيد الدبوسي الحنفي[33] ت 430، وله "تقويم الأدلة في أصول الفقه" الدبوسي وآخرهم هو الإمام أبو حامد الغزالي ت 505، وإنما عددناه من أعلام الأصول في القرن الخامس إذ قضى جلّ حياته فيه، وأخرج فيه "المستصفي في أصول الفقه".

وإذ انتهينا إلى هذا من سرد من رأينا ممن لهم أكبر الأثر في تدوين علم الأصول في القرون الخمسة الأولى، حتى وصل إلى مبلغه واستوى على سوقه في كتاب "المستصفى للغزاليّ" فلا نرى داعياً، في هذا البحث أن نتابع ذلك البحث التاريخي، إذ هناك كوكبة عظيمة من أكابر العلماء والأئمة ممن ساهموا بأعمق المؤلفات في هذا العلم، من الإمام العالم الفقيه أبي محمد بن قدامة المقدسي صاحب كتاب "روضة الناظر وجنة المناظر" في الأصول، حتى عصر الإمام  الشوكاني[34] ت 1250 وصاحب "إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول"، فيرجع اليها القارئ في مظانها.

وصلنا في بحثنا إلى نهاية تأريخ العصر الذهبي لتدوين الأصول ما بين رسالة الشافعيّ، ومستصفى الغزاليّ، وهو ما استغرق نيف وثلاثة قرون من الزمن.

(14)  السؤال الأول المطروح في هذا البحث هو: هل أنصف المتأخرون في وصفهم لتدوين علم أصول الفقه إنه انقسم إلى مدرستين، مدرسة الشافعية والمتكلمين، ومدرسة الحنفية؟ والاجابة  على هذا السؤال ستأتي في نهاية الجزء التالي من بحثنا في المادة المدونة في علم الأصول في الأعصر التي تحدثنا عنها، ما بين الشافعيّ والغزاليّ.

والسؤال الآخر الذي سنجيب عنه بعد، هو: ما هي الإضافة التي برز بها الإمام الشاطبيّ في القرن الثامن الهجري، وتميّز بها عن أقرانه في هذا الباب في كتابه العظيم "الموافقات في أصول الشريعة" حتى استحق ما قاله فيه الشيخ الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله "حتى جاء الشاطبيّ في الموافقات فبلغ الغاية وأوفى على الكمال"؟

مدارس التدوين بين الشَافعيّ والغَزاليّ

(15)  حين يتحدث الباحث عن "مدرسة" في تناول موضوعٍ ما، فإنه يقصد عادة إلى ما يتعلق بلب الموضوع قيد البحث، مقدماته، نتائجه، مفرداته، دلائله. فعلى سبيل المثال، فإن مدرسة جديدة في أصول الفقه قد تكون ما يقصد اليه الداعون المحدثون إلى تجديد علم الأصول، من أمثال حسن الترابي وطه جابر علواني ومحمد عابد الجابري وأحمد الريسوني وغيرهم[35]، وإن كنا نشك في قدرة أيهم على الإتيان بما لم يأت به الأوائل!

لكنّ الناظر في مباحث علم الأصول، وفي نتائجه، بين ما أسموه "مدرسة" المتكلمين و"مدرسة" الأحناف، لا يجد بينهما مساساً بجوهر العلم ولا بقواعده ولا حتى بأبوابه، بل غالبا ولا في تناوله لموضوعاته! إلا بعض توسعٍ في إيراد أدلة على القواعد المسرودة، سواء كانت من كتاب أو سنة، أو من فروع ثبتت بالكتاب والسنة حسب مذهب الأصولي الناظر. وهذا الذي قررنا سنعطي عليه شواهد وأدلة تجتمع كلها على تصحيح ما ذكرنا، من إنّ هذا التقسيم، بهذه الحدة، كان اعتسافاً من المتأخرين لأسباب سنحاول بسطها بعد أن ندلي بأدلتنا.

أولاً: تدوين أئمة الأحناف:

وسنخرج كتاب أصول الكرخيّ الحنفيّ ت 340 من حديثنا هذا إذ إننا لا نعرف كيف ينسبه أصحاب الفن إلى علم أصول الفقه! وهو كتاب ينضح كلّ ما فيه بأنه في القواعد الفقهية أصلاً، ذلك إذا نظرنا مثلاً إلى قوله "الأصل أن الظاهر يدفع الاستحقاق ولا يوجب الاستحقاق"[36] ويدلّل عليها بمسألة وضع اليد على العقار. ويقول "الأصل أن القول قول الأمين مع اليمين من غير بينة"[37]، وهكذا سائر الكتاب. فقد أخطأ من صنفوه في أصول الفقه ابتداءً. وهو وإن كان يُبيّن توجه الأحناف وقتها لتقعيد القواعد بناءً على الفروع، فإنه لا يقف دليلاً على مدرسة في أصول الفقه البتة. وقد يكون هذا هو مبدأ الخلط في موضوع "مدرسة" الأحناف الاصولية.

(16) كنز الوصول في علم الأصول: وخير ما نستدل به في تدوين أصول الفقه على يد الأحناف في هذا العصر هو كتاب "كنز الوصول" للإمام البزدويّ. ويلاحظ في كتاب البزدوي إنه قد قسم الأصول تقسيماً جميلاً في مبتدئه قال "وإنما يعرف أحكام الشرع بمعرفة أقسام النظم والمعنى وذلك أربعة أقسام فيما يرجع إلى معرفة أحكام الشرع: القسم الأول في وجوه النظم سيغة ولغة والثاني في وجوه البيان بذلك النظم، والثالث في وجوه استعمال ذلك النظم وجريانه في باب البيان والرابع في معرفة وجوه الوقوف على المراد والمعاني على حسب الوسع والامكان وأصابة التوفيق"[38]. ثم أخذ البزدويّ في بيان تلك التقسيمات بطريقة ممنهجة جميلة.

ثم إذا واصلت الاطلاع وجدت إنه قد استمر في مناقشة وبيان وتقرير القواعد في طرق البيان التي قسمها حتى ص 42 دون الدخول في فروع إلا القليل مما لابد منه. ثم يتابع البزدويّ فيقدم أبواباً تكاد أن تكون هي هي ما وصل اليه العلم من أبحاثه، وإن كان دون ترتيب متفق اتفاقا كاملا مع ترتيب من تأخر عنه مثل السرخسي، الذي أكثر من الاستدلال على أصوله بالفروع، ولعله كذلك خلط الحديث عن القواعد الفقهية بالحديث عن الأصول، كما فعل مثلا في مناقشة ثبوت الأمر بمقتضى الحال، في باب "موجب الأمر بحكم الوقت"، ومعارضته للكرخيّ في قوله "وقت الأداء ثابت بمقتضى الحال"[39]، وهي ما ورد في مناقشة ابن رجب لأمر الأداء في قواعده الفقهية[40]. وأعتقد أنّ أمر "المدرسة الحنفية" يستوجب أن يُنظر اليه من ناحية الخلك بين القواعد الفقهية وأصول الفقه، لتمييزهما، ومن ثم تحديد طريقة النظر الحنفية في الأصول، والتي أرى ألا فرق يُذكر بينها وبين طريقة الشافعية.

ونعود إلى كتاب البزدوي، فنجد إنه قد تناول دلالات الأمر والنهي، ثم العموم والخصوص، ثم السنة وحجيتها، ثم شرع من قبلنا ثم الاجماع والقياس، ثم عوارض الأهلية[41]. وفي أثناء ذلك كله، نرى البزدوي يثبت القاعدة الأصولية أو الدليل الشرعي بأنواعه في أبوابه التي نسقها، ويناقش حجيته ويدلل عليه أولاً بما هو من باب التقعيد، ثم يستدل عليه بحديث أو فرع حكميّ إن لزم الأمر. فأنت تقرأ مثلاً "باب شروط الإجماع" فتجده استدل فيه، بعد سرد قول أبي حنيفة والشافعي بحديث واحد "عليكم بالسواد الأعظم"[42]، وبفرع واحدٍ وهو صلاة الناس في قباء قبل نزول النص[43]. وهذا المنطلق والمنهج تجده سارياً في الكتاب كله. وهو دليل استقرائي قطعي، من أشهر كتبهم، على أنّ طريقة الأحناف في تدوين الأصول، على الأقل حتى القرن الرابع، تعتمد على تقعيد القواعد أصلاً، وهو ما سنرى إنه نفس ما اعتمدته علماء الشافعية في هذا المضمار.

(17) الفصول في علم الأصول: فإن  انتقلنا إلى علم آخر من أعلام الحنفية، وهو الإمام أحمد بن علي الجصّاص ت 370، في كتابه "الفصول في الأصول"، وجدنا أنّ الجصّاص وضع كتابه الفصول كتوطئة لكتابه الشهير "أحكام القرآن"، فكان من هذا التوجه، باب لمناقشة العديد من الفروع في كتاب الفصول في الأصول. وبداية الكتاب مؤشرٌ على ذلك، وإن خفت وطأة الفروع. ففي بدايته، تراه يذكر القاعدة في باب العام "في الظواهر التي يجب اعتبارها"، ثم سَرَد فروعاً بدأها بحكم الماء النجس ثم ألفاظ العموم المعطوف عليها وحكمها إن انفردت، ودلّل على ذلك بآيات العدة، وهكذا. ثم في الفصل الثاني، رجع إلى الطريقة العامة في تدوين القواعد ومناقشتها بتوسع، والتفريع عليها بذكر قواعد تتعلق بها،حيث تناول تناول اللفظ لمعنيين، وذكر قول شيخه الكرخيّ وناقشه، وسار على هذا المنوال بذكر القواعد الأصولية اللغوية في الإجمال والاشتراك، ثم أبواب العموم والخصوص، والمجمل والمتشابه، ومعاني الحروف، ثم البيان وصفاته، والأمر والنهي، وشرائع من قبلنا والاجماع والاجتهاد والتقليد، وبقية ما عليه اهل الاصول في أبواب التدوين دون نقص أو زيادة. وهو في كلّ ذا يقرر القواعد أولاً ثم يناقش حجيتها آراء السابقين لها، ويرجع في غالب أمره إلى قول شيخه الكرخيّ. وهو في هذا يقر بدور أدلة العقول. وانظر إلى مناقشته لمن يعتد بخلافهم، حيث نقل عن أبي الحسن قوله "ولا يعتد بخلاف من لم لا يعرف أصول الشريعة، ولم يرتض بطرق المقاييس ووجوه اجتهاد الرأي، كداوود الاصبهاني والكرابيسي واضرابهما من السخفاء والجهال ... إلى قوله عن داوود الظاهري "قوله إني لا أعرف الله تعالى من جهة الدلائل اعتراف منه بأنه لا يعرفه، فهو أجهل من العامي وأسقط من البهيمة"[44].

(18) تقويم الأدلة في أصول الفقه: للإمام أبي زيد الدبوسي الحنفي ت 430: وأول ما يفاجأنا، في مطالعة كتاب الدبوسيّ "الحنفي" هو ابتداءُه بمقدمات كلامية عن الحد وأنواع الحجج، وغير ذلك مما اتفقت فيه كتب الأصول على كلّ مذهب منذ القرن الرابع الهجري، في شكل مناقشة منطقية لمعنى الحجة والدليل والبرهان وحدودهم. ثم تبع ذلك بالحديث عن ثبوت الحجة في الكتاب والتواتر والاجماع والقياس[45] بأدلة عقلية وبأدلة سمعية، ناقشها بأصوله. قد ذهب بعض الباحثين إلى أن الدبوسي قد أكثر من الاستشهاد بالفروع فى رأس كل مسألة يناقشها، وهو ما لا نراه البتة، والكتاب تحت أيدينا يشهد بذلك. لنضرب مثلا بما جاء في باب "القول في أسماء الألفاظ في حق تناولها المسميات، وحكمها فيما تتناوله"، وهي ما ناقش فيها حجية العام والخاص والمؤول والمشترك، فاقرأ له الصفحتين الأولتين ص 94 و95من هذا الباب[46] ، لا تجده يذكر استدلالاً إلا بآية البقرة في القرء، وبطلان الوصية وقول الرجل لإمرأته: إن نكحتك فأنت طالق، ذلك في حديثه عن الحقيقة اللغوية في الأسماء. وقس على ذلك تناوله لبقية ما كتب، وأكثره تقريراً للقواعد، ثم استدلالاً عليها بدليل، ثم إن ذكره لفروع أخرى أتى من باب "فإن قيل" أو في معرض مناقشة أدلة غير أصحابه كما فعل مع أقوال الإمام الشافعيّ قبولا أو ردّا.

ثانيا: تدوين أئمة الشافعية:

(19) "الدلائل والأعلام" لأبي بكر الصيرفيّ الشافعيّ المتوفي 330هـ: وللإمام الصيرفي كتب أخرى في الأصول منها شرح الرسالة وكتاب الإجماع، وإن لم يصلنا منها شئ مع الأسف، وهذا مما يعزُ على طالب العلم. إلا أن المُطّلع على كتب الأصول بعده يجد الكثير منها يحمل رأيه في المسائل ويشير إليها في كثير من المواضع، حتى في بعض كتب الحديث مثل مقدمة ابن الصلاح، والتقييد والايضاح للحافظ العراقي. وكا أشرت مسبقا، قد وجدت رسالة مفيدة تجمعُ أراءه  الأصولية للباحث ابراهيم عقون، إلا إنها لا تكشف ما قصدنا الي الكشف عنه في هذا البحث، من حيث توارد آرائه الأصولية مجردة، وتقرنها بما قال غيره فيها، دون كثير دلائل واستشهادات إلا القليل مما قد يعزى لمن نقل النص عنه، لكن فيه ما يدل على استدلاله بالفروع كذلك، كما في باب "النواهي" قال الرزكشي في البحر المحيط: ترد صيغة النهي لمعان مختلفة