إزالة الصورة من الطباعة

مسوح الخلافة

الحمد لله الذي لا يحمد سواه، المحمود على كل حال، وبكل لسان ومقال، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

مر ما يقرب من عامين على إعلان تنظيم دولة العراق والشام بقيادة إبراهيم بن عواد السامرائي العراقي، وما يقرب من عام على إعلان "الخلافة"، وتنصيب ذات الرجل خليفة على المسلمين!

ولا نبالغ إذ نقول أن هذا الإعلان كان من أكبر الخدع السياسية في تاريخ الإسلام، على الأقل في العصر الحديث. بل لا نبالغ إن قلنا إنه يعدل في سوء أثره وتخريبه كبار المصائب التي مني بها المسلمون مثل سقوط الخلافة العثمانية وإعلان قيام الكيان الصهيونيّ.

وقد قابل العالم الإسلامي سقوط الخلافة العثمانية بحالة من التيه والارتباك، أعقبتها محاولات قام بها بعض حكام "الدول" التي فتّتتها سايكس بيكو، مثل محاولة الملك فؤاد في مصر. ثم كان أن فقد المسلمون الأمل في خلافة بعد أن الحرب العالمية الثانية، وتكوين ما أسموه "جامعة الدول العربية"، التي كرّست التقسيم الاستعماريّ للمنطقة، وسلّمت أجزاءها لجمع من الطغاة البغاة المرتدين من حكام وملوك.

عاشت الخلافة حلماً وردياً في قلوب المسلمين، وتنظيرات الإسلاميين، كما ظلت كابوساً مرعباً في عقول الطغاة البغاة المرتدين من حكام وملوك. ذلك أن الخلافة في التصور الإسلاميّ هي تحقيق سياسيّ لمقصد الشارع الحكيم، من تمكين المسلمين في الأرض، أرضهم قبل أي أرضٍ أخرى. وهذا المقصد يقوم علي إحياء الأمة عقدياً، واستنفار طاقاتها، وتحرير إرادتها وثرواتها، وإعادة الثقة بين أبنائها، وإيقاف الغزو الثقافي والعلماني وإشاعة الفسق بين طبقاتها.

وقد انحدر الحال بأمة الإسلام إلى حد أنها باتت غير ذات وجود حقيقي على الأرض، بل تحولت إلى طائفة متناثرة، تحمل دين الحق، وتسير به بين الناس، ممن هم مسلمون، لكن دون أيّ صلة بالاسلام. وصدق شوقي

شعوبٌ[1] في شرق البلاد وغربها   كأصحاب كهفٍ في عميق ثبات

وقد أدرك المحققون من أبنائها أن ذلك الغرض ليس كلمات تقال أو إعلانات تصدر أو وثائق تُنشر! إنما هو أمر أشبه بإحياء الموات، إذ هو ما تصدت له أنبياء الله، خلفاءه الأُول في أرضه. فهو أمرٌ جلل عظيم، يحتاج إلى أن تكون الأمة ذاتها مستعدة لحمله، أمانة تتحقق ووعد ينفذ.

كما أدرك المحققون أنّ هناك قدرٌ من تلك الأمانة يجب أن يتم وأن يُنسج غزله وينبت أصله قبل أن تتوفر أيّة إمكانية حقيقية لتحقيق الهدف وإدراك مقصد الشارع من الخلافة، ثم يكون تمددها وتوسعها في بقية أرض المسلمين أمرٌ مقبولٌ عقلاً مُحتملٌ واقعاً.

من هنا، من هذا المنطلق، جاءت أهمية الجهاد الشاميّ ضد النصيرية. فالشعب السوري كان في حالة من الغضب والمرارة ما حمله على تقديم كثيرٍ من أبنائه للحركة الجهادية ضد بشار، وللمقاومة بشكلٍ عام.

وقد كان الجهاد وقتها بقيادة جبهة النصرة، وأحرار الشام وعدد من الفصائل الأخرى، إن تركنا جانباً المقاومة التي لم تعلن الإنتماء للنهج الإسلامي ابتداء، وإن كان لها أثر في الحركة ضد بشار بوجه عام. وكانت العوامل المطلوبة للوصول إلى موقف يمكن أن تكون بداية لسلسلة إجراءات محسوبة تصل بالمسلمين إلى دمشق، خاصة مع الشعبية الهائلة لجبهة النصرة، وبقية الفصائل، وكره العالم كله، ولو ظاهراً، لبشار. فإن وصل المسلمون إلى دمشق، كانت لهم مركزية ووجود تمكين، في عاصمة الخلافة الأموية، يجعل أمر التفاوض مع القوى العالمية،التي لا ينكر وجودها إلى أحمق أو جاهل أو مكير عميل، أمراً ممكنا على قدم المساواة.

ماذا حدث من وقتها؟ عرف الغرب أنّ نصرة النصرة في الشام سينشأ عنها ما وصفنا. فإن للغرب مراكز أبحاث في غاية التخصص، منها راند المعروف، ومركز أبحاث وست بوينت، وغيرها كثير. فكان لابد أن يُطوّر خطة للتدخل غير المباشر، باستعمال قوى محلية، بعد أن أصبح من الصعب التدخل المباشر بعد ما حدث بالعراق.

استبقت القوى العالمية الأحداث، واستغلت وجود رجلٍ لا ضمير له ولا خلق، سقطٌ في الوسط العلميّ، مشبوه مجهول في الوسط الجهادي آنذاك، طموح بلا نهاية، محب للنفس بلا حدود، اسمه إبراهيم بن عواد السامرائي. فكان أنّ صقلته في سجنها شهوراً، ومهدت له سبل التواصل مع البعث، لا بطريق مباشر، بل بأن تركت له الفرصة متاحة والطريق ممهد، وهي طريقة الغرب في التعامل مع الكثير من العملاء.

اخترق ابن عواد صفوف دولة العراق الإسلامية، وتمكن من الصعود إلى قمة السلم القيادي بعد أبي عمر البغدادي، بمعونة البعثيين، ولا نستبعد تآمره مع البعثيين لقتل أبي عمر وأبي حمزة رحمهما الله. وتم تأييد اختياره من أمراء القاعدة، وهي من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها قيادة القاعدة آنذاك.

ثم جاء وقت حرق النصرة، وبقية الفصائل في الشام. وتواكب ذلك مع هدف البعث العواديّ من أن يجد لنفسه قدماً في الشام، كملاذ آمن من العراق، وكمصدر للثروة والسلطة معا. ولم يكن يعنى البعث العوادي قتل أي من المجاهدين السوريين، إذ قيادته بعثية عراقية لا يمكن أن تواجه أهل العراق بمثل هذه البشاعة في القتل والاغتيال. وأمر هذه العنصرية في غاية الوضوح، ومن تجاهلها أو قلل من حقيقتها، لم يقرأ الأحداث بشكل صحيح، ومن أنكر علينا إعلانها فسيرجع اليه عقله بعد حين.

ثم جاء وقت حرق الجهاد الشاميّ لصالح الكيان البعثي العوادي. ولم يكن هناك أفضل من المذهب الحروري عقيدة يتبناها، من حيث هو مبرر ديني للقتل، وحافز للجهلة الأغبياء من شباب ضالٍ تائه فقد ثقته وثروته وكرامته وأمته، فبات يبحث عن مخدّرٍ ديني. وإذا بابن عواد يخرج لهم من كمّ جلبابه أو قاع عمامته "مسوح الخلافة".

غزا ابن عواد، بعد أن لبس مسوح الخلافة لباس زور، الشام. قتل واعتدى ومسخ الجهاد إلى قتال بين السنة والحرورية، ونفّذ ما تعهد مع النظام، ليصل إلى اقتسام السلطة يوم يأتي وقت التفاوض. والثمن، قتل المجاهدين ورؤوسهم حتى ينتهي الجهاد ضد بشار، وتبقى الساحة موزعة بين البعثية الحرورية والنصيرية. ساعتها يكون ابن عواد حقق نصره المؤزر. قتل المجاهدين المعارضين لسلطته البعثية التي تلبس مسوح الخلافة، وتخلط به الخلطة الحرورية اللعينة. الاستحواذ على أرض واسعة غنية بالشام، تكون مهرباً له ولقياداته البعثية العراقية.

والخلافة التي شرفها الله سبحانه بأن ذكرها منسوبة اليه في القرآن، وجعلها أمانة في عنق الإنسان، ليست هي الخلافة السياسية التي نتحدث عنها اليوم، إذ تلك خلافة كونية خلقها الله ووكل أمرها لبني آدم بلا فعل منهم. وهذه خلافة شرعية تكون على يد المسلمين من أتباع الحق من بنى آدم باختيارهم وبتحقق شروطها وانتفاء موانعها، وتخضع لأشكال وطرق تطبيق تناسب زمنها. والخدعة التي اعتمدها ملعون سامراء هي الخلط بينهما، فجعل الخلافة الكونية خلافة شرعية، ومن ثمّ كان مسوح خلافته أقرب إلى البابوية الكاثوليكية، بل هي بابوية كاثوليكية تتلبس بإسلام.

"مسوح الخلافة" ليست بخلافة، ولن يكون. وابن عواد مجرم بعثي يتمسح بمسوح ليس لمثله أن يدعيه، ولا أن يكون حتى خادما في بلاطه. وعلى السنة أن تخلع عنه هذا المسوح، بعد أن انكشفت خططه لكل ذي عينين.

د طارق عبد الحليم

22 مايو 2015 – 5 شعبان 1436


[1]  استبدلنا "شعوبك" بكلمة "شعوبٌ" تأدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم