الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد
رابعا: من معهم ومن عليهم
اتفق عقلاء المسلمين، ومفسريهم وأهل العلم فيهم أن الأصل هو اتباع أهل الذكر من العلماء. ومن هذا الأصل، ينشأ تصور لازم، هو من هم أهل العلم والذكر تحقيقاً لا إدعاءً؟ وقد ادعى كثير النبوة، حتى يصل عددهم إلى ثلاثين، كما في الحديث، كما ادعت طوائف لا تحصى من البشر العلم، والتصقت باسمه دون صفته، وهم من أشار اليهم الحديث "اتخذوا رؤوسا جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"رواه البخاري، والحديث "المتشبع بما ليس فيه كلابس ثوبيّ زور"رواه مسلم. فإنه من المعروف أن الدعوى لا بد أن يقام عليها دليل، كما في الحديث "لو يعطى الناس .. ".
فشهادة العلماء هي أصل دليل العامة، كما أجمع علماء الأصول، خاصة في مُعمّيات كهذه، تدع الحليم حيراناً.
فإذا اعتبرنا هذه المقاييس، وجب أن نتحرى عمّن وافق هذا التنظيم على ما ذهبوا اليه، ومن خالفهم. فإذا وجدنا كلّ من لهم باع في العلم خالفوهم، وكل من هم من صعاليكه وصغاره ومجاهيله وافقوهم، فلابد أن ينشأ عند المنصف المتحرى للحقيقة شكّ عظيم، بل يقين بباطل ما هم عليه. فالحق لابد من رجالٍ يدلون عليه، فإن الله سبحانه أرسل الرسل ليدلوا الناس على الحق، ولو قالت لهم أقوامهم، نعرف الرجال بالحق، رغم صدقها في محلها، لفسدت الديانات وانهارت النبوات! وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم صحة دعواه أنه أهل لأن يُستمع اليه، حتى لا يرميه قومه بهذا القول، أن ذكّرهم بسالف عهده بينهم، وأنه كان فيهم أميناً مُصدقاَ، قبل أن يخبرهم بما أخبرهم به، ففي البخاري عن بن عباس رضي الله عنهما قال "لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب".
إذن، فإن النظر الصحيح إلى قولة "الرجال يُعرفون بالحق"، يحتاج إلى تحقيق وتدقيق، فإن من يُعرّف الناس بالحق هم رجال، لكنهم رجال "سبق" للناس إقرارهم بمعرفة الحق، أو بالتأهل لذلك.
أما وقد أصّلنا لهذه النقطة، فإننا ننتقل إلى تنظيم "الدولة" وعلماء الأمة.
المعارضون لتنظيم "الدولة" الحرورية:
عارض هذا التنظيم مشايخ الزمن وعلماءه الربانيين، وعلى رأسهم الشيخ الحكيم د أيمن الظواهري، ومن طبقته العالم المجاهد أبو محمد المقدسيّ، والعالم المجاهد أبو قتادة المقدسيّ، والعالم المجاهد د هاني السباعي، والعالم المجاهد سليمان العلوان، وغيرهم أفاضل كثر.
ثم ننظر مَن مِن الساحة يتابع هذا التنظيم ويشهد له، فإذا هم عبد المجيد الهتاري اليمني، والجزولي السوداني، وتركي البنعليّ البحريني، ثم زيدان، وأحمد بوادي من الأردن[1]. هؤلاء أعلام مؤيدي "تنظيم الدولة"!
وحسب ما قررنا من قبل، فإنّ المنصف يعرف مَنْ هؤلاء المشايخ العلماء الذين عارضوا التنظيم، وقدحوا في شرعيته، ورموه ومن ينتمى اليه بالغلو والحرورية، واللؤم وخبث الطوية، وسائر ما جاء في كلماتهم عن التنظيم والقائمين عليه.
هؤلاء، كلهم بلا استثناء، قد تحققت فيهم شروط من يَعرف الحق، ويتأهل لتعريف الناس به، وأن يكون طريقاً لهم إليه وعيناً لهم عليه. فكلهم ممن عرفه الناس عقودا طويلة، جهاداً وعلماً، وأقروا لهم بالسيادة في العلم وفي الجهاد،. وقد عرفت لهم كتباً وخراجاً علمياً لم يماحك فيه أحد من قبل واقعة التنظيم الخبيث. وهم كافة في عقدهم السادس أو السابع من العمر، مما يشهد لهم بالخبرة والتطبع بالعلم.
ففضيلة الشيخ الدكتور أيمن الظواهري، أكبر من أن نعرّف به، سبقاً في الجهاد على مدى أربعين عاماً، حتى أصبح عدو الصهيو-صليبية الأول. ولو لم يكن له إلا فضل إنشائه القاعدة، مع الشيخ الإمام أسامة بن لادن لكان كافيا وزيادة، حتى حق أن يقال فيه "أن كُرهه أو الحقد عليه والقدح فيه علامة نفاق في الدين". ثم له خراج علمي مثل كتابه العظيم "الحصاد المرّ"، و"الولاء والبراء" و "فرسان تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم"، وغيرهم من الكتب العلمية القيمة، التي تضيف للأمة في وعيها رصيداً مشهوداً.
وفضيلة الشيخ أبو محمد المقدسي، له تاريخ عريض مشهود له فيه بالصدع بالحق دون مواربة، حتى قضي في السجن سنوات عديدة، لا يخرج منه إلا ليعود اليه. وله من المؤلفات الشهيرة "ملة إبراهيم"، و"الرسالة الثلاثينة في التحذير من الغلو في التكفير" و "إمتاع النظر في كشف شبهات العصر"، وكثير غيرها يعرفها الناس، قبل أن يظهر ما يسمى بتنظيم الدولة السرطاني، بل قبل أن يبلغ متحدثهم الحُلم!
ثم فضيلة الشيخ أبو قتادة الفلسطيني، كسابقيه، ممن عرفه الناس وأقروا بمكانته منذ سنين طوال، وابتلي بالسجن إلى يومنا هذا. وهو حاصل على ماجستير في أصول الفقه، مما أكسبه قدرة على التنظير والتقعيد أكثر من غيره. ومن كتبه "الرد الأثري المفيد على البيجوري في شرح جوهرة التوحيد"، "تحقيق معارج القبول في شرح سلم الوصول للشيخ حافظ حكمي"، "الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة"، "الجهاد والاجتهاد تأملات في المنهج" و"بين منهاجين"، "معالم الطائفة المنصورة"، ثم تحقيق عدد من كتب بن القيم والبرقعي وغيرهما.
ثم فضيلة الشيخ الدكتور هاني السباعي، الحاصل على بكالوريوس المحاماة، ثم على شهادة ماجستير في القصاص في الشريعة الإسلامية، وشهادة الدكتوراة في إثبات جريمة قتل العمد في الشريعة الإسلامية. والشيخ السباعي معروف منذ السبعينيات، بوقوفه في وجه الطغاة، وفي محاكم مصر يدافع عن الجماعات الجهادية، ثم اعتقاله، ثم تلفيق قضية العائدين من ألبانيا والحكم عليه بالمؤبد، وتيسير الله له بالذهاب إلى انجلترا حيث سجن، ثم ألزمه قرار مجلس الأمن بالبقاء تحت الرقابة في لندن، بلا جنسية أو أوراق البتة إلى يومنا هذا. وللشيخ السباعي خراج علميّ متين، منه كتاب "القصاص في الشريعة الإسلامية"، و"إثبات جريمة القتل العمد في الشريعة"، "دور رفاعة الطهطاوي في تخريب الهوية الإسلامية"، "الصراع بين المؤسسات الدينية والأنظمة الحاكمة"، وهو كتاب خطير في بابه، "مصادر السيرة النبوية"، وغير ذلك من الكتب. ثم للشيخ نتاج هائل من التسجيلات والخطب التي تزيد على 500 خطبة، جلّها في شرح كتاب الله المجيد، وفي مسئل الإيمان والقضاء.
ثم فضيلة الشيخ سليمان العلوان، الصادع بالحق في أرض آل سلول، وقد درس وحفط من المؤلفات على أيدي مشايخ العلم في أرض الحرمين مثل الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي وفضيلة الشيخ المحدث عبد الله الدويش، وفضيلة الشيخ عبد الله محمد الحسين أبا الخيل، وفضيلة الشيخمحمد بن سليمان العليط، وفضيلة الشيخ محمد بن فهد الرشودي، وفضيلة الشيخ أحمد بن ناصر العلوان حيث درس وحفظ على أيديهم عشرات من أمهات الكتب، مثل كتاب التوحيد وعمدة وبلوغ المرام إلى كتاب النكاح والعقيدة الواسطية، والفتوى الحموية، والآجرومية ونخبة الفكر، والبيقونية، والفتوى الحموية، والرحبية، وبلوغ المرام، وقرأ شرح الطحاوية، وجامع الأصول لابن الأثير، وصحيح البخاري وسنن أبي داود، والأصول الثلاثة، وبعض زاد المستقنع، وسلم الأصول لحافظ حكمي، وفضل الإسلام لمحمد بن عبد الوهاب ، وقرأ جامع العلوم والحكم لابن رجب، وزاد المعاد لابن القيم وغيرها كثير. ثم أخرج نتاجا علمياً قوياً مثل "تنبيه الأخيار على عدم فناء النار" و "الأمالي المكية على المنظومة البيقونية" و"التبيان في شرح نواقض الإسلام" و" شرح بلوغ المرام" و" تنبيه الأمة على وجوب الأخذ بالكتاب والسنة، و"التوكيد في وجوب الاعتناء بالتوحيد، و"إتحاف أهل الفضل والإنصاف بنقض كتاب ابن الجوزي وغير ذلك كثير تجده في سيرته.
ولم أقصد هنا إلى استقصاء أعمال هؤلاء الجهابذة، فهي معروفة منذ سنوات بل عقود، لكن أردت أن أبيّن القيمة العلمية والسيرة الجهادية لهؤلاء العلماء، حتى يتبين الفرق بينهم وبين مناصري "تنظيم الدولة"، وبضدها تعرف الأشياء.
المؤيدون لتنظيم "الدولة" الحرورية:
ووالله لا أستطيع أن أصف أيهم بكلمة الشيخ، لا ذماً ولا قدحاً فيهم، بل أكون بلك مدلساً أمام الله والناس، قد كتبت من قبل أقول "الشيخ: اصطلاحاً صاحب العلم والتآليف التي عرفها أهل العلم من طبقته، وأقروا بها، ولغة هو من تجاوز الستين من العمر، وقد يجتمعا. فإن أطلق اللقب فقد يعنى أحدهما أو كلاهما حسب الحال. وإن قُيّد بقيد فيحمل على المقيد، كما لو قيل شيخ المعرة فيكون لانتمائه الي القرية، أو شيخ الجهاد، فيكون لسابقة فيه، وهكذا إذا أطلق مقيداً بقيد معيب، انصرف له لا لغيره، كشيخ السوء أو شيخ الحرورية، أو مثل ذلك. فإذا أطلق على من ليس بأهل له علماً أو سناً فإطلاقه تدليس وزور.
ومصيبة هذا الزمان، هي رفع قدر الخسيس وخفض قدر الرفيع، لما ابتلينا به من مواقع التواصل هذه، فاستشرت كلمات العامة، بل وطغت على كلام المشايخ بإطلاق، وصاروا هم من ينصبون الشيخ شيخا اطلاقا وتقييدا. فاختلط الحابل بالنابل. وكما قلنا سابقاً تحروا عمن تلقبون شيخاً، وانظروا قدره بمكيال العلم والخراج العلمي، لا الهوى واتباعه وتأييده لما ترون جهلاً، فالعاميّ ليس من ذوى الصفة ليؤهل أو ليجرح أو يعدل. هذه مصيبة هذا الواقع. من هنا يصدق الحديث "اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".
فلعل الله أن يجعل في هذه الكلمات مفتاحاً لعقول انغلقت على فهم منحرف، وقلوباً تشربت بوهمٍ متخالف. وما قصدت بها طعنا والله، بل كما ذكرت وكررت، هو مقام تحديد مقامات ومقارنة قامات، تماما كما هو مشروع من ذكر الآخرين عند الحاجة، كالتعريف بحالهم عند الخِطبة وغيرها. وقد ذكر النووي في "رياض الصالحين"، ستة أسباب يباح فيها ذكر مثالب الآخرين، منها الاستعانة على تغيير المنكر، وتحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم. وهذا ما قصنا اليه، إذ إن هؤلاء الدعاة قاموا مقام العلماء، وموّهوا على العوام أمرهم في حقيقة لا يصح الحديث فيها إلا لعالم متحقق، وسهلوا عليهم نصر تنظيم حروري بدعي يقتل المسلمين ويترك المشركين، فوجب بيان حالهم، وطبقتهم، ليتجنبهم العاقل، وتقوم الحجة على من يتابعهم بعد ذلك البيان.
د طارق عبد الحليم
16 رجب 1435 – 15 مايو 2014
[1] لم أذكر الحايك إذ الرجل أخوف من أن يعترف بتأييده للتنظيم! انظر مقالنا "حين يتحدث الرويبضة .. صعلوك علم" http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72611
[2] وقد وضعت فيه مقالا، أذب فيه عن العالم الشيخ أبو قتادة الذي تعرض له صعلوك العلم البنعلي تحت عنوان "لن يصير الضبع أسداَ .. يا بنعلي" http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72596
[3] وقد عانيت شخصياً من قريب لي قال إليس ظهور ترجمة له في التوحيد والجهاد بدليل على رفعة قدره؟ قلت والله هذا حال العوام، فإن المنبر يضع ترجمة لكلّ من له صلة بمشايخ فيه، ومن لهم كتابات شرعية عظمت أوصغرت، كتبا أومقالات، فليس كل من له صفحة على المنبر بعالم! فقط انظر بنفسك في هذه السيرة لتعلم قدر صاحبها.
[4] ولعله تقصير بحث منى، فليخبرني من وجدها فضلاً
[5] واستبق بالقول، قبل أن يعلق حاقد، أني قد أعرضت عن ذكر شخصى في أي مقامٍ بين جهابذ المعاضين لأهل البدعة الحرورية، حتى لا أكيل بمكيالين، فقد كنت في الظل طوال أربعة عقود من العمل بالدعوة، معروفا لدي جمع من المتخصصين لا غير، وإن كان لي من المشاركات العلمية بالكتب المتخصصة والتدريس، ما يقف شاهقاً أمام عمل هؤلاء المؤيدين، مجتمعين! انظر http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Video-330