إزالة الصورة من الطباعة

ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ...

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد،

غالب البشر مطبوعون على مخالفة من يأمرهم بالمصلحة ويهديهم إلى الرشاد، واتباع من يضلهم عن السبيل القويم، ويسلك بهم مسالك الضلال. هذا دأبهم منذ خلق الله الناس. قال تعالى "وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ"يوسف103 . وقال سبحانه "وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ"الأعراف17. وقال عز من قائل "وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍۢ ۖ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَـٰسِقِينَ"الأعراف 102. يقول السعدي "وما وجدنا لأكثر الأمم الذين أرسل اللّه إليهم الرسل من عهد، أي: من ثبات والتزام لوصية اللّه التي أوصى بها العالمين، ولا انقادوا لأوامره التي ساقها إليهم على ألسنة رسله".

ولهذا فقد وجهنا الله سبحانه أنْ نتعظ، بأن نأتي بما به أمر، وننتهى عما عنه زجر، فقال تعالى"وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا۟ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيْرًۭا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًۭا"النساء 66.

نعم، لو أنّ الناس استمعوا إلى ما وُعظوا به، وهو مصلحتهم في الدنيا والآخرة، لكان في ذلك خير لهم وأشد تثبيتا إيمانهم، ومن ثم، لما هم فيه من نصر في الدنيا ورفعة في الآخرة.

وألمح في هذه الآيات الجليلة، التنبيه كذلك على سوء أثر عدم سماع كلام الكبراء، ووعظ العلماء، من ورثة الأنبياء. فإنه من المعلوم أنّ ما أعطي نبي الله محمداً صلى الله عليه وسلم، من خصالٍ وأفضال، تجدها موجودة في أمته، على قدر التزامها بهديه. فهو صلى الله عليه وسلم منبع العلم والحكمة، وورثته من العلماء كذلك لهم نصيب من هذا الفيض السيال. ومن ثمّ فإن الأمة يجب عليها أن تستمع لما يوعظون به من ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك. يقول الشاطبي رواية عن بن العربي " فما من مزية أعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ما وقع استثناؤه إلا وقد أعطيت أمته منا أنموذجا فهي عامة كعموم التكاليف بل قد زعم ابن العربي أن سنة الله جرت أنه إذ أعطى الله نبيا شيئا أعطى أمته منه وأشركهم معه فيه"[1].

العلماء، ورثة الأنبياء، يعظون، وينصحون ويوجهون، فلا يُستمع لهم. هذا عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه وأرضاه، خالط جيشه الخوارج وسفهاء الناس من قتلة عثمان وأشباههم، فأفسدوا عليه الحرب، وضيعوا حكمته، وأفشلوا حملته، فهو يقول "ودت أنّ الله قد أخرجني من بين ظهرانيكم وقبضني إل رحمته من بينكم، ووالله لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرّت ندماً وورثت صدر غيظاً، وجرعتموني الموت أنفاساً"[2].

إن من الحكمة الاستماع إلى وعظ من يعظ من العلماء، فإنهم يعلمون المصلحة من حيث علمهم بالشرع، فحيثما وُجد الشرع قامت المصلحة، وحيثما عدم عدمت. لكنّ الأمر أنّ هؤلاء الذين تتحدث عنهم الآية، وتشير اليهم بالضمير في "أنهم" وأمثالهم في كلّ حين، يتبعون شرعاً موازياً، ومن ثم تترائي لهم مصالح مغايرة، زإذا المصالح الحقيقية مفاسد، وإذا المفاسد مصالح، وإذا المسلم كافرا وإذا الكافر مسلماً، وإذا العالم جاهلٌ وإذا الجاهل عالم، وإذا الأبيض أسود، والأسود أبيض. وإذا بهؤلاء، بعد أن رفضوا وعظ الواعظين، يجدون نصرهم هزيمة، وجنتهم نارا، ولا يروا الحق إلا بعد أن يهزمهم الباطل، فيعرفون أنهم كانوا يسبحون في تياره كلّ الوقت "وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا"الكهف104.

من هنا يأني معنى الدعاء "اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باظلا وارزقنا اجتنابه". فالمقام الأول تمييز الحق من الباطل، وهو الأصعب، وهو ما لا يُعرف إلا بإتباع العلماء، ورثة الأنبياء، لا بالهوى والتشهي، وإدعاء العلم والتحلى بلباسيّ الزور.

اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه

د طارق عبد الحليم

27 جمادى الأولى 1435 – 28 مارس 2014

9:00pm الجمعة          

[1]  الموافقات ج2ص249

[2]  البيان والتبيين للجاحظ ص239