إزالة الصورة من الطباعة

مسائل حاسمة في العلاقة بين الدولة والنصرة – توحيد الصف 3 الحلقة الأخيرة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد،

"وَٱعْتَصِمُوا۟ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًۭا وَلَا تَفَرَّقُوا۟ ۚ وَٱذْكُرُوا۟ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءًۭ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَ‌ٰنًۭا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَ‌ ٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"آل عمران 103.

"قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّـٰتٌۭ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًۭا ۚ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا۟ عَنْهُ ۚ ذَ‌ ٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ"المائدة 119.

"يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَكُونُوا۟ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ"التوبة 33.

"وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْو‌ ٰنًا عَلَىٰ سُرُرٍۢ مُّتَقَـٰبِلِينَ"الحجر47.

"حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنۢ بَعْدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ"آل عمران 152.

اللهم اجعلنا مع الصادقين، ومع الذين تنزع من قلوبهم الغلّ فيكونوا في سرر متقابلين في جنة النعيم.

للعقلاء فقط .. أكتب

ثانياً: هل عاد لتوحيد الصف محل؟[1]

انقطع حديثنا في هذه السلسلة، التي تتناول نقاط الاشتباك العقديّ والسياسي بين "الدولة الإسلامية"، و بين "جبهة النصرة"، بتلك المداخلة التي ساقنا اليها بعض حديثٍ لم نرض عنه، من أخ فاضلٍ. ثم ما تبع ذلك من مشاغبات وخروج عن آداب الإسلام العامة، والتشبه بعادات الشبّيحة والفسقة في ردود فعل بعض من أخذته العزة بالإثم، دفاعاً عن شيخه، أو دفاعاً عن أميره، وما هو إلا محض اتباع الهوى، إذ يلزم على المحاور أن يكون عالماً بموضوع الحوار[2]، فإن كان في الشرع وجب أن يكون له فيه باعٌ وإلا كان كلابس ثوبيّ زوى، وهم الأكثرية اليوم. وإن كان سياسياً وجب عليه أن يصيف إلى العلم الشرعيّ خبرة الأيام أولاً والعلم بالواقع ثانيا، وهو يكاد يكون منعدماً عند نفس الأكثرية. فصار الحوار كحوار الطرشان، ليس فيه مستمع، بل متكلمان، احدهما بعلم والآخر بجهل! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ومن ثم آلينا أن نكتب ما نرى، كما تعودنا في الأربعين سنة الأخيرة، ولن يثنينا غليّمٌ غرٌ يقود عميان ولا جاهلٌ صِفرٌ يرعى قطعان، وإن تسمت باسماء آدمية. ثم لندع الخلق يتحاور ويتصارع حول ما كتبنا،، ويعدّل أو يجرّح، بهوى أو بعلم، كل حسب تقواه، وصدق المتنبي

أنام ملئ جفوني عن شواردها     ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ

وصلنا في نهاية المقال السابق[3] عن الاشتباكات السياسية إلى أن هناك أمورا تحتاج إلى كشفٍ وتدقيقٍ وإجابة واضحة صريحة. وقلنا إن مفتاح الموقف، في رأينا، يكمن في أربعة أمورٍ حاسمة وقعت متتالية، وأدت إلى ما نحن فيه اليوم من صراع بغيض:

والحقّ، أن الكثير من مناهج الكيانين "الدولة" "والنصرة"، قد وَضح أخيراً بدرجة كبيرة. ولا زلت على رأيّ فيهما، لكن لا زلت كذلك في غير حلّ من ذكره، أذكره في حينه إن شاء الله، وإلا فإن العدالة المفترضة في القائم على صلح، توجب ألا ينحاز بأي شكلٍ من الأشكال.

ويجب أن ننوه هنا إلى إننا، والشيخ د هاني السباعيّ قد سبق أن قدمنا مبادرة للصلح[4]، في يناير 2014 الماضى، لم تلق أي التفات من الجانبين. ثم حاولت أن اقوم بوساطاتٍ عديدة، مع مشايخ من الجبهة ومن الدولة على السواء (واحد من النصرة واثنان من الدولة). لن هذه الجهود تعثرت، وقتلت في مهدها، بعدم العناية وفقد الجدية من طرف أو من آخر، خاصة من طرف الدولة.

وإذا تركنا قول الأنصار جانباً، إذ لا تزيد مداخلاتهم الأمر إلا تعقيداً وانحرافاً والتواءً بالحقائق، وذهبنا نتحدث عما تحت أيدينا مما يمكن الركون إلى صحته، رأينا أنّ العوامل التي تقف في وجه الصلح هي:

فالواجب اليوم إذن، بناءً على ما لاحظنا، هو أن نسير خطوة لإصلاح النوايا، وخطوة لضبط الأقوال وخطوة لبدء الأعمال، تؤدي كلها إلى التوافق على الأرض بشكلٍ ما.

خطوة إصلاح النوايا:

وطريق ذلك هي الرجوع إلى الهدف الرئيس من هذه العملية كلها. لم نقاتل؟ لم نجاهد؟ لم نريد إقامة شرع الله على الأرض؟ والاجابة بسيطة واضحة، هي ابتغاء مرضاة الله، بصحيح عبادته، وطلب رضوانه ورحمته، واستحقاق جنته يوم يقوم الحساب. ليس الغرض إقامة دولة وإن تمددت، ولا خلافة وإن امتدت، ولا جبهة وإن عظمت، بل هذه كلها وسائل لا غايات، وكلها طرقٌ لا نهايات. فمن جعلها غاية فقد ضلّ الطريق، وأفسد النية الخالصة لله.

وقد والله رأينا هذه الوسائل تنقلب إلى غايات في نفسها، يسعى لها الساعي لذاتها لا لما تؤدى اليه. وما اطلاق الشعارات، ولا التعصب الأعمي للمُسمّيات إلا دليل على فساد النية. وفساد النية لا يؤدى إلا إلى فساد القول والعمل.

والمفروض اليوم، وحديثي إلى القادة وصنّاع القرار، في الجبهة والدولة، أن يقوموا لله، وأن يتذكروا فيما خرجوا، ألقيام "دولة العراق والشام"، أو "جبهة النصرة"، أو أي فصيل آخر مثلهما، أم للقضاء على النصيرية أعداء الإسلام، وتحرير الشام، وإقامة الشرع. ولا شك عندي أنّ النية بداية كانت صحيحة خالصة. ثم دخلت فيها عوامل دنيوية يقرأ آثارها كلّ ذي بصر وبصيرة. يقول المولى سبحانه وتعالى "أَنْ أَقِيمُوا۟ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِيهِ"الشورى 13. ودلالات الآية كثيرة، منها إنها في سورة الشورى، فإقامة الدين لن تتحقق إلا بالشورى، عامة بين المسلمين، من أصحاب الوجاهة والحلّ والعقد. ثم انظر، يا رعاك الله، إلى قوله تعالى " وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِيهِ" بعد قوله " أَنْ أَقِيمُوا۟ ٱلدِّينَ"، مما يحمل تحذيراً إلهيا مما شاهدناه إلى مدى تاريخ الإسلام، وما نراه اليوم أوضح من الشمس في الشام، وهو أن يتفرق الناس في أثناء سعيهم لإقامة الدين. أليس هذا ما يحدث اليوم؟ ألم تقع قيادات النصرة والدولة فيما حذّر منه المولى سبحانه؟

فتصحيح النية لله سبحانه، وتخليصها من شوائب الدنيا وحب الزعامة والرئاسة لا يسبقه أي خطوة في هذا الطريق الملئ بحجج الشيطان وهوى النفوس.

خطوة تصويب الأقوال:

وأقوال اللسان هي تعبير عمّأ يدور في الجنان، فالظاهر دليلٌ على الباطن، وقولة اللسان تهدى أو تُردى، قال الصادق المصدوق "إنَّ الرَّجُلَ ليتكلمُ بالكلمةِ مِنْ رضوان الله لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجاتٍ ، وإنَّ العبدَ ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنَّم"البخاري. فالكلمة التي تخرج من فيّ أحدكم تضعه في مكانه يوم الحساب، فإن وجد خيراً فذاك، وإن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه.

والكلمة أشدّ خطراً من العمل في بعض الأحيان، إذ العمل يستدعى جهداً وحركة، فيكون مانعا من إتمامه إلا لذوى الهمة، الصالحة أو الباطلة، ولكن الكلمة سهلة ميسورة، ورصيدها على اللسان غير محدود. ومن هنا يأتي خطرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حيث معاذ "وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"الترمذي وابن ماجة وأحمد. وهو استفهام حصري انتهى بالاستثناء بإلا، للدلالة على كثرة وقوع الأمر على هذه الصورة.

ومن هنا، فإن من أول خطوات الإصلاح، أن يتوقف سيل الاتهامات والسباب والشم والقدح، والأوصاف المخزية التي يصف الطرفان بها بعضهما بعضاً، فهذا خائن عميل، وذاك خارجيّ عفن، وأمثال ذلك من قدحٍ مستمرٍ نراه على تويتر خاصة، ليل نهار، بل جاء على لسان بعض شرعيّ الكيانين! ولا أدري كيف ينسب نفسه للشرع من قذع باللفظ وسن وشتم؟ ولن تكون هدنة إلا بتوقف هذا السيل، من الجانبين، وبتوعّد قادتهما أنصارهما بالاعلان عن نبذ من يتولى كبر الكلمة عيناً، لا ببيان عام مائعٍ يُنشر، ثم يُترك السفهاء يخربون ويصيبون، بينما يختبئ القادة وراء البيان العام بالتبرأ. هذا تكتيك تقوم به العلمانية الاعلامية، لهدم الخصم، نرتفع بقدر المجاهدين أن يستخدموها.

هذا من جانب كلمة السوء، ثم كذلك يجب أن يتوقف سيل المديح البارد الزائد، الذي لا يوّلد إلا تزمتاً وتعصباً وهوساً عند كثيرٍ من الشباب، الذين هم أصلاً مشحونون بعواطف غير منضبطة، لا أساس لها إلا كلمات وتعبيرات وتسميات، تخرج بالواقع عن حقيقته. واسمعوا كلمتى هذه، إنّ كمّ الإحباط يتناسب مع قدر المغالاة، فرفقا بأنفسكم، وترفقوا في رفع قدر من تحبون، لعلكم لا تسقطون على جذور رقابكم احباطاً إن أثبتت الأيام فشلا.

والتجرد من الألقاب والأوصاف الي تعلو بالذات عن قدرها، وتضعها في موضعٍ يصنع منها فراعنة "إسلامية"، كلقب الفاتح، والكرار، بل وأمير المؤمنين، فإنها ألقابٌ ليس لها على الأرض رصيد، إلا في قلوب وعقول محبّ جاهل، أو تابع متعصب. فالخطوة الثانية إذن، هي التحكم في الأقوال، وضبط اللسان، سواءً في الانتقاص من الخصم، أو رفع مكانة الأولياء، حتى لو رآها من رآها حقاً. ولنا في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، في صلح الحديبية حين رفع صفته كرسول لله سبحانه، وهي ثابتة بيقين، لإتمام الصلح، لكن أين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم من أغيلمة اليوم، الذين هم بلا فقه ولا سياسة ولا خلق!

خطوة تصحيح الأفعال:

وهذه الخطوة، هي التي تأتي بثمار على الأرض، سواءّ بحقن دماء المسلمين، أو بإهلاك العدو النصيري اللعين.

والأفعال المطلوبة، حسب منطق الأحداث هي:

إذن المحصلة هنا، على الأرض هي:

هذا ما يجب أن يكون عليه ترتيب الأحداث عملياً. وهذا هو ما تقوم على أساسه الدول، لا ما نراه اليوم من تقاتل بين فصائل، كلّ يدعي لنفسه حقاً، سواء بحق أو بباطل، لا يهم. بل المهم أن يكون هناك حلاً، وهذا هو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الكفار في الحديبية، فكيف بالتعامل بين المسلمين؟

أعرف أنّ أنصاراً من الطرفين، سيخرجون صارخين مولولين: أنْ ليس هذا بعدل، هذا إجحاف بحقنا، نحن الأوائل، ونحن أصحاب الحق، وكذا وكذا، وهذا وذاك، والتي واللتيا! لكن حديثي هذا ليس إلى هؤلاء، بل إلى من قرأ ما جاء أعلاه، ونهى النفس عن الهوى وجرّدها من حظها، وإن تلبس هذا الهوى وهذا الحظ بلباس الدين وأسبغ على نفسه إرادة الحق وطلبه.

هذا آخر ما يمكن أن أقدم في هذا المجال، بعد أن دونت في الأشهر الثلاثة الماضية، أحد وعشرين مقالاً، وبيانا مشتركاً، في موضوع جهاد الشام.

وقد قدّم آخرون مبادرات، منها ما يفتقد إلى الحيادية والمصداقية مثل مبادرة المحيسني الذي خرج بعد تعثرها يحرّض على قتل مجاهدي الدولة! أو المبادرة المخلصة من الشيخ الجازولي حفظه الله، وهي فيما نرى مشروع ناجح، لكنه سابقٌ لأوانه، وليس عملياً في خضم ما نحن فيه اليوم من اقتتال بين الإخوة.

وقد رُميت بالتحيز، مرة من النصرة لتحيزي للدولة، ومرات من الدولة لتحيزي للنصرة، وآخرها ما خرج به ذلك الشرلتان المُغَيْلِم الشاميّ، الذي رمانا بالعصبية المصرية، والعمالة السلولية .. الخ، من نفايات الكلام وحثالة حشو الفم! وصدق القائل

إذا ساء فعلُ المرءِ ساءت ظنونه         وصدّق ما يعتاده من توهّمِ

فمن ساء فعله، ظن أن كل  الناس من أمثاله، يفكرون بطريقته، وما قوله إلا انعكاس مرآة لنفسه، فانظر ما تقول تعرف نفسك. ويشهد الله ما نريد إلا الإصلاح ما استطعنا.

ولا نظن أن نرجع إلى هذا الأمر بعد، إلا إن بدأ قادة الطرفين في تنفيذ ما ذكرنا، أومثيله. ولعل مقالي هذا يصل إلى قيادات الطرفين.

اللهم تقبل منا عملنا، واهدنا عيوبنا، وكفّ عنا كيد خصومنا، وصحح نوايانا، وطهر ألسنتنا، واهد أعمالنا إنك على كلّ شئ قدير

د طارق عبد الحليم

26 جمادى الأولى 1435 – 27 مارس 2014

9:00am الخميس


[1]  أوصي بقرءة المقال مع مراجعة الجزء الأول منه، وكلّ ما دوّنا بالشأن الشاميّ في هذا االرابط http://www.tariqabdelhaleem.net/new/ArticalList-131

[2]  راجع مقالنا "مختصر في الحوار" http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72556

[3]  http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72557

[4]  http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72497.