إزالة الصورة من الطباعة

قول الحق في تعيين الفريق الأحق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قد رشحوك لأمرٍ لو فطنت له     فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ

يتفق العقلاء على أنّ الحقّ بَيّنٌ واضح لمن عقل وفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. لكن الأمر هو طريق الاستدلال والنظر الذي يسير فيه العقل ليصل إلى الحق. الكتب موجودة والقرآن محفوظ، لكنّ هذا لم يمنع من ظهور الفرق الثلاث والسبعين، وأنّ إحداها الناجية. وقد قال تعالى "وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَـٰتُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ"البقرة213[1]. فبينت هذه الآية أمور، منها أن المختلفين وقعوا في الخلاف بعد أن جاءتهم البينات، أي والحق بين أيديهم، وهذا للبغي الذي وقع بينهم. إذن وجود الحق لا يمنع انحراف الناظر اليه، ولا وقوع البغي منه.

وسنقوم بعون الله في هذا المقال بالتحقيق النظري في موضوعه، ثم ضرب مثالٍ من واقع المتخاصمين في أرض الشام.

(1)

البعض يظنّ أنّ تعيين الحق بسيطٌ مُيسر، وهيهات هيهات، ما كان قتال المسلمين فيما بينهم، في الأربعة عشر قرناً السالفة، إلا للخطأ في تعيين الحق، سواء موضوعه، أو أصحابه.

وهناك موانع عديدة تمنع من تمييز الحق، كما أنّ هناك سبلاً كثيرة توصل إلى الحق. فالراغب في الحق، يجب أن يتحرر من الموانع عنه، وأن يتخذ الأسباب الموصلة اليه.

ومن أهم الموانع "التعصب"، والذي يختلط في أذهان الكثير من المخلصين مع مفهوم "التمسك بالحق"، والفرق بينهما شاسع. وقد كتبت في هذا الأمر فصلاً من كتاب "مقدمة في اختلاف المسلمين وتفرقهم" الصادر عام 1983، حين كنت مقيماً بانجلترا، فسأنقلها لمنع التكرار، وأحيل القارئ على الفصل كله في موضعه.

"والتعصب عند الإطلاق ظاهرة ذميمة لاتؤدي إلا إلى التفرق والتعادي، وهو من خصال أهل الكتاب التي تكون في هذه الأمة  قال تعالى "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا۟ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقًۭا لِّمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنۢبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"البقرة 91. فوصف اليهود بأنهم كانوا یعرفون الحق قبل ظهور النبي فلما جاءهم من غير طائفة یهوونها لم ینقادوا له ، وهذا یبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة في العلم أو الدین أو إلى رئيس معظم عندهم ، فأنهم لایقبلون من الدین – لافقها ولاروایة – إلا ماجاءت به طائفتهم.

ویقابل التعصب الثبات على الحق والتمسك به، وقد یتقارب المعنيان فلا یتميزا إلا في نظرالمدقق الفاحص ، وقد یخلط بينهما، فنرى البعض یمدحون التعصب على أنه دلالة قوة إیمان ورسوخ عقيدة، بينما نرى البعض الآخر یذمون المتمسك بالحق الثابت عليه ویرمونه بالجمود والتعصب، والحق أن البون شاسع بين المعنين في المنشأ والطریق والثمرة .

فمنشأ التعصب ضعف في النفس وجهل في العقل، بينما التمسك بالحق ینشأ من القناعة بالرأي ووضوح الدليل .

وطریق المتعصب هو الصد عن معرفة دليل المخالف أوالإستماع إليه أو اعتباره في النظر بأي وجه من الإعتبار .

بينما طریق المتمسك بالحق المناقشة الحرة والإستماع إلى دليل المخالف برحابة صدر واتساع أفق، والرد المشفق الذي یرجو هدى المخالف ولاینتظر سقطته .

وثمرة التعصب الإختلاف والفرقة والتباغض، وثمرة التمسك بالحق اجتماع المؤالفين عليه واتحادهم ومراجعة المخالفين لمنهاجهم، ثم نور في القلب یضيء لصاحبه الطریق ویهدیه الصراط المستقيم"[2].

إذن يجب على الناظر[3] في اختلاف الناس، أن يكون حاله حال المتمسك بالحق لا المتعصب، حتى لا يقع في شَرَك الغواية والصدّ عن الحق من حيث يظن أنه يدعو اليه.

وتعيين الحق، يكون بثلاثة درجاتٍ متتاليات، أحدها أثبت من الآخر. الأول، وهو طريق العامة، أن يميّز رجال الحق، ثم يتبعهم. والثاني أن يميّز الحق في أقوال رجال، ويتبع ما قرب منهم منه، ثم الثالث أن يميز الحق بذاته، دون الرجوع إلى الرجال، إلا استئناساً. ولا شك أنّ كل من يهتم بأمور المسلمين واقعٌ تحت واحدة من هذه الفئات الثلاثة.

فإن وقفتْ درجة الناظر عند الطريق الأول، فهو العاميّ بإطلاق. وإن كانت في الثانية، فهي من ارتفع بنفسه عن قدر الهَمَل، وارتقي ببعض علمٍ ووعي، نتحدث عنهما بعد. أما الثالثة، فهي درجة من تشبّع بعلم وعقل وعدل، لا بأحدهم دون الآخر. فالعلم ضد الجهل، والعقل ضد الانحراف، والعدل ضد الهوى. وقد يكون علما تحصيلياّ بلا عقلٍ راجحٍ، وقد يكون عقلاً دون علم شرعيّ كالعلمانيين، وقد يكون علمٍ وعقل مع هوى غالب ونفس هاوية.

فمن هذا العرض تتبين لوازم تمييز الحق وأدواته. والجدير بالتنويه هنا أنّ هذه اللوازم والأدوات تختلف طبقاتها باختلاف عدد الناظرين. وأكثر المتكلمين اليوم يقفون عند حدود الطبقة الأولى، ويجب أن يكونوا تابعين للطبقتين الثانية والثالثة، وقليل عند الثانية، ويجب أن يتبعوا الطبقة الثالثة، والثلة النادرة تصل إلى الثالثة، فتتميز وتوجّه وتقود، وإن جاز أن تختلف فيما بينها كذلك. والمصيبة تقع حين يضع مسلما نفسه في الطبقة الثانية أو الثالثة، هو في الأولى، أو من ينتمي للطبقة الثانية فيضع نفسه في مصافّ رجال الطبقة الثالثة.

ويجب هنا أن نقرر أنّ الحق يتعيّن بأمرين، أحدهما تحديد الحكم الشرعي في مثله. فإن لم يوجد نص شرعيّ أُحيل إلى القواعد العامة والكلية ليُضاف اليها. والثاني صحة تحقيق مناطه، أو بعبارة أخرى دقة المعلومات الواردة عنه لتطبيق الحكم الشرعي عليها. فالحكم الشرعي معلّق في الهواء حتى يناط بواقع محدد.

والخلل في تمييز الحق يأتي من الخلل في كلا الأمرين جميعاً. فالخلل في الأول يأتي من الجهل يالشرع. والخلل في الثاني يأتي من الجهل بالواقع، ومن الهوى ومن قدرة الناظر العقلية ودرجة ذكائه وقدرته على التحليل[4].

(2)

أمّا عن القسم الأول، وهو الحكم الشرعيّ أو القواعد العامة والكلية التي يُرجع اليها، فهذا أمر يجب على الناظر أن يتعرف عليه إن كان من الطبقة الثانية، و أن يتحقق منه إن كان من الطبقة الثالثة. أمّا من هم من العامة، فالحكم الشرعي بالنسبة لهم هو ظاهر طاعة لله وقراءة الدليل وإن لم يكن فيه كثير غناء.

ومن هنا وجب أن يكون رجال الحق، من أصحاب العلم الشرعيّ، أو المتحققين به، ممن يمكنه النظر في الحكم الشرعي سواءً في كتب الفقه وأصوله، أو من الكتاب والسنة، حسب طبقته. ومن هنا كذلك وجب أن يكون هناك معيار يُقاس به هؤلاء الرجال، إذ واجب العامي أن يحسن اختيار من يسمع له، واجتهاده هو حسن اختياره لرجال الحق، ليس إلا.

ومعيار من لديه العلم قد اختلط في زماننا، حين اختلط مفهوم التحصيل بمفهوم العلم. وساعد على ذلك في بلدان الخليج تلك الجامعات الإسلامية وخرّيجيها، ممن حصّلوا ولم يصلوا، لكن ظهرت أسماؤهم ولمعت نجومهم، وهم لا يزالوا أحداث سنّ، ورضعاء علم. فالعالم من تحقق بالعلم وخبر الكتب وعايشها، وتفحص ما قرر فقهاؤنا، ثم نضجت فطرته وصار العلم طبعاً ملازماً له، لا يصطنعه، بل به يفكر ويتحدث. لذلك ترى العلماء الأكابر تقلّ في كتاباتهم الاستشهادات، وتكثر في كتابات حديثي العهد بالعلم. وهو نتيجة انطباع العلم في النفس وارتكازه في العقل فصار حديث الرجل مُتشبعا بما هو في النقل وإن لم يثبته هنالك.

ثم إن هذا العلم، لا يكون بإجازات لا يعرف معناها وحقيقتها إلا الله، ومن أصدروها! كما لا يكون بدرجات جامعية بمجردها، إنما يكون بأثر العلم الذي لا يتأخر عنه، كأثر السبب في المُسَبَّب، وهو التدوين. فإن وجدت من يدّعى العلم، وليس له تدوين فاتهم الرجل في ادعائه. إذ التدوين للعالم كالعسل للنحل، أمرٌ مغروز في الفطرة. ولا يملك صاحب علمٍ أن لا يفرز مما علمه الله، كما تفرز النحلة عسلها. وقد جعل الله سبحانه الهدى في كتاب، ليس في شريط! فآية العالم ما كتبه، لا ما تحدث به. وليست كلّ كتابة بدليل على علم. فكم من مدوّن وضع عشرات الكتب، هي مجرّد قصّ ولصق، ونقل ومتابعة، دون جديد يُذكر أو فكرة تُضاف، أو تحليل يهدى.

ثم يجب أن يكون وعاء هذا العلم عقلٌ راجحٌ، وما أثقلها من كلمة لو فهموها. فالعقل الراجح هو العقل الذي يصل إلى راجح القول حين تختلط الأمور، وتحتاج المعطيات إلى ترجيح، لا من يجلس يتشدق بحفظ كذا وكذا من الأحاديث أو تحصيل كذا وكذا من إجازات القراءات! ثم يخبط خبطاً أعمى عند أول الملمات المشكلات. وهذا الرجحان في العقل يكون بالتحصيل الواسع، والذهن الأصيل المنطقي المرتب، الذي ننسبه الي الفطرة السليمة، ودرجة الذكاء العالية ابتداءً. وهذا المطلوب يصعب على الناظر في طبقته الأولى والثانية أن يميّزه بشكل عام. لكن هناك دلالات عليه، يمكن أن يستعين بها الناظر، مثل حاله في المناظرات، وترتيب حديثه في اللقاءات، وهذا لا يشمل تلاوته للآيات المحكمات أو سرده للأحاديث الصحيحات، فهذا يقع في جانب التحصيل، وتاريخه في النظرإلى المشكلات، تطبيقياً، أو فيما دوّن من مؤلفات.

كذلك من العلامات على توجه نظر الرجال، اعتبار البيئة التي نشأوا فيها، فالرجل ابن بيئته، وتأثير البيئة على انطباعات النفس في غاية القوة، حتى وإن خالفها، فتجده يتعاطف مع بعض مفرداتها من حين لآخر. كما تجده يستقى معلوماته وجزء من ميراثه العلمي من خلالها، وهي التي يسميها  الغرب "الثقافة" Culture.

من هنا نضع الغالب الأعم ممن يشاركون على صفحات التواصل الاجتماعي في الطبقة الأولى أو الثانية. ثم نرى عددا منهم يقول لمن هم أعلى طبقة "أخالفك في الرأي!" أو "أخطأت يا شيخ"، ومثل هذا الكلام العريض، ولا يعرف المسكين أين موقعه من إعراب العلم أو محرابه. وعلى هذا يجب أن ينتبه شبابنا، فيوجهوا الهمة لأن يرتقوا في الأسباب، وأن يحصلوا العلم حتى يكون اعتراضهم ذا قيمة فيعتبره المعتبرون.

كذلك فإن عمر الرجل قرينة على خبرته ونضجه واستواء العلم في عقله وضميره وسلوكياته، ومن ثم خططه وقراراته. ولا يعنى هذا أن لا محل لشاب في رأي، فقد يصيب شابٌ ويخطؤ شيخ، لكننا هنا نتحدث عن القاعدة العامة، التي لها شواذٌ تثبت صحتها، والتي لها قضايا أعيان لا تخرجها عن عمومها. ومن هنا قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مشايخ القوم وقادتها في عام الوفود.

(3)

فإن انتقلنا إلى الواقع وجدنا أن الوضع أشد تعقيداً وأكثر تشابكاً. فإن تحقيق مناط الواقعة، أي تحديد حقيقتها وملابساتها، ليمكن تطبيق الحكم الشرعي الملائم عليها، أو إدخالها تحت قاعدة عامة كلية لاستنباط الفتوى فيها، هو من أشد الأمور صعوبة على المفتي لأمور عدة، منها مصدر المعلومات، دقة المعلومات، مناسبة المعلومات لموضوع الفتوى.

ومصدر المعلومات، قد يكون خصماً أومحباً، وكلاهما متهمٌ، فالأفضل أن تكون المعلومة صادرة عن مصدر محايد ما أمكن، اذلك وجب التحقق من المعلومة إما ببينة ناقلها أو إنكار من تتهم.

ثم مناسبة المعلومات لموضوع الفتوى، ونعنى به أن تكون خاصة بموضوع الفتوى، فكثيراً ما يتحدث أناس بمعلومات عن واقعة، فلتكن نزاع بين زوجين، فيحكى كيف أنّه يرى الزوج يخرج مسرعاً من بيته كل صباح. وهذا أمرٌ لا علاقة له بسوء العلاقة مع زوجته، فلا ملاءمة مع موضوع الفتوى.

ثم دقة المعلومات هي أمرٌ جلل، فإن الكلمات والوقائع تتغير بعدد من يحملها إلى أذن السامع، فتزيد أو تنقص كلّ مرة تنتقل من لسانٍ إلى أذن. ومن هنا أقام علماؤنا الأجلاء علم مصطلح الحديث لتحرير ما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أنّ الرائي قد يتوهم فيما يرى، أو السامع يصحّف فيما سمع، فهذا باب كبير يجب الحذر منه.

والمشكلة تتفاقم إن كان الحديث عن واقع حرب أو نزاع مسلح، حيث الوصول إلى المصدر، والدقة والملائمة أكثر صعوبة، بل استحالة في بعض الأوقات. فإنك لا تجد هناك إلا ملابسات وقرائن أو شواهد، وتفسيرات مبنية على تلك الملابسات والقرائن والشواهد. فهي لا تمثل حقائق ومناطات محددة ثابتة، بل قرائن تميل في أيّ الإتجاهين، حسب نظر الناظر، وما استقر عليه منطقه الذي يتعامل به في حياته عادة. لذلك، يجب أن يفرق الناظر بين الحقائق التي تثبت بالدقة والإحكام والملاءمة، كما شرحنا في الفقرة السابقة، وبين القرائن والملابسات.

لكن، في بعض الأحيان، كما ذكرنا في الحروب ومواضع النزاع المُسلح في الغالب الأعم، هذه الملابسات والقرائن هي كلّ ما يملك الفقيه من متاح ليصل إلى رأي شرعيّ محدد. هنا يجب أن يكون هناك اعتبارات يسير عليها الناظر، فقيها أو غير فقيه، ليصل إلى الأقرب من الحق فيما هو بصدده.

من ذلك، قوة القرائن التي تدل على تغليب جانب على آخر، ثم تعدّد تلك القرائن الدالة عليه. ثم الأهم هو اعتبار مآلات التصرفات. ومعنى مآلاتها هو ما تؤدى اليه التصرفات. إذ هذا بابٌ يجب مراعاته إلى أقصى حدٍ مُمكن. كذلك، يجب أن تراعى أصول السياسة الشرعية، من باب المصلحة والمفسدة.

(4)

الدولة والنصرة: نموذجاً

وحتى يكون لحديثنا نَفَسٌ عمليّ، ورغم حساسية الموضوع، وإمكان فقد الأنصار من كلا الجهتين، سنتخذ من الصراع الحاليّ بين جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام مثالاً على ما وصفنا، والله المستعان.

النظر في الجهة المُستفتاة: في الساحة اليوم عدة طوائف من المنتسبين إلى العلم، يتحدثون وينصرون جهة ضد أخرى في الصراع الذي برز بين إخوة العقيدة الواحدة، فالواجب أن ينظر الناظر فيما قرّرناه أعلاه، ليجد الأقرب إلى الصواب فيهم، والأرجح في إصابة الحق.

ففرقة نعرف خلفياتها، من انتماء إلى المؤسسات الحكومية في الخليج، بشكلٍ أو بآخر، كمدرسين في جامعاتها، أو أعضاء في هيئاتها التشريعية، دون أن يكون عليهم قيد في تحركٍ أو قول، بينما نرى غيرهم ممن يخالف هذا التوجه الرسميّ، يضيّق عليه، بل ويسجن في بعض الأحيان. وهي قرينة قوية على أنّ آراء هذه الطائفة تشوبها المواقف الرسمية للحكومة التي تتبعها.

ثم، إذا نظرت إلى عدد من هؤلاء وجدت أنهم إما مبتدئين في العلم، قريبي العهد بالدرجات علمية، أو لا يزالون ينتظرون الحصول عليها، مثل الأخ عبد الله المحيسني، وإما لهم تاريخٌ في التحصيل، لكن تشوب آراؤهم قرائن أخرى مثل انتمائهم لأحزاب برلمانية، ومن ثم، ضبابية رؤيتهم للحل الإسلامي ووسائله، فهم يتحدثون عن التوحيد والجهاد نظرياً، ثم تراهم يمنعون منه ويضادونه عملياً، باتخاذهم الطريق البرلماني واعتماد الوسائل الديموقراطية، والدخول تحت تشريعات نظمهم ودولهم، ومثالهم د حاكم المطيري. ومنهم من المستقلين وظيفة، لكنهم ممن تربوا في تلك البيئة المخلطة التي ذكرنا، من خليط السلفية السلولية والإخوانية والسرورية، فتراهم في اضطراب عامٍ في آرائهم، ففيهم إنكار صريح لجدوى الجهاد، وواقع ديموقراطي مؤيد لنظم الحكم التي يعيشون في ظلها ويعلنون الولاء لحكامها.

ثم طائفة أخر، هم من أفاضل الناس علماً وسيرة وجهاداً، مثل الشيخ العلوان، والشيخ أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني، وهؤلاء لا نشك في نزاهتهم وعلمهم وفضلهم، وخلفيتهم البيئية السليمة، وعدم انتمائهم لنظم أو أطر فكرية غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه سلم. لكن قامت شبهة الأسر حائلاُ بين أقوالهم وبيت القدرة على تصحيحها، من باب "الواقع" الذي تحدثنا فيه أعلاه، أي دقة المعلومات التي تصلهم، ومصدرها، وملاءمتها لما يقع على الأرض مما يناسب الفتوى. هذا ما يجب أن يكون عاملاً عند من يريد أن يرجع إلى هؤلاء الأفاضل. والتغافل عن هذا لا يكون إلا لهوى من مجرد محبتهم بإطلاق، أو التمسك بما وصلوا اليه بلإطلاق.

ثم مستقلون، لا يتبعون جهة معينة، منهم  أبو عبد الله المحيسني و د قنيبي، لكنهم يقعوا في دائرة عدم التخصص وقلة العلم الشرعي أولاً، ثم عدم النضج العلمي أو السياسي أو الحنكة والدراية بالحياة وأساليبها، مما يغيب عنهم أبعاد اعتبار المآلات ومواضع المصالح والمفاسد.

ثم، آخرون مستقلون، لكنهم من ذوي العلم الشرعيّ والحنكة والحكمة والتخصص، وعدم التأثر بالبيئة، وصراعهم الطويل ضد الطاغوت في كل مكان، وسابقتهم في مصارعة الأنظمة المرتدة، مثل د هاني السباعي، وغيره ممن في طبقته.

(5)

فإذا انتقلنا إلى تعيين الأقرب إلى الحق عن طريق تحقيق مناط الوقائع رأينا أنّ الأهم الأوكد هنا هو معرفة مآل التصرفات من كلّ جانب. فإنه لا يشك عاقلٌ أنّ جبهة الشام إن خسرت جنود الدولة وعونها، بعد عون الله تعالى، ستتأثر دفاعاتها، وتنكمش انتصاراتها التي حققتها يوم أن كانت تابعة للدولة، لعن الله الخلاف، وقد بات ذلك واضحا بالفعل على أرض الشام من انسابت من الطرفين وتقذم لجيوش العدو في جهات عديدة كحلب. بل والاشتباكات الحالية بين أبناء العقيدة الواحدة والتوجه الواحد هي مأساة في حدّ ذاتها. ثم رمي البعض بالكفر والردة من الطرفين. هذه كلها مآلات ترتبت، دون الدخول في تفاصيل البيعة وغيرها، على انشقاق النصرة عن الدولة، مهما تحجّجت النصرة بأفعال وأخطاء الدولة، وغلوها وما إلى ذلك، فمآل فعل الانشقاق – في حدّ ذاته - مُشاهدٌ معروف على الأرض اليوم، كان من الممكن علاجه وتلافيه، بل لو بقي أمر الأخطاء والغلو المزعوم علي ما هو عليه في الدولة، وانتصرت الدولة والنصرة، لكان أفضل بكثير مما نحن فيه اليوم. فهل دولة فيها غلوّ (غير ثابتٍ إلا من كلام الخصم) أفضل أم دولة بشارٍ؟ أم دولة ديموقراطية علّوشية سلولية؟ فليتفكّر الناظر الأمين.

وهذا ما حدا الصهيوصليبية أن تتغاضى عن مهاجمة جبهة النصرة اليوم، إلى حين، فهي تعرف توجهاتها الأصلية، ولن تسكت عنها، لكن ستدعها تقاتل الدولة حتى إذا سقط أحدهما بلابد، انقضت على الباقي بجبهة علوش وإخوانه. وساعتها لا يكون أمام النصرة إلا حلا من اثنين، إما أن تقاتل العلوشية، أحلاف اليوم ضد الدولة، ومن ورائهم السلولية والصهيوصليبية، وإما أن تتنازل وتقايض على ثوابتها.  بل وقد تُنشأ "قاعدة" جديدة رخوة تناسب المرحلة المقبلة.

الأصل هنا إذن اتباع المآل، وهو لونٌ من تحقيق المصالح ودرء المفاسد، كما في حديث "حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه".

ثم الآخر، وهو الالتزام بالثوابت، وعدم اللجوء لما يخالف الشرع، فإن حاكمنا الطرفين بهذا المعيار، وجدنا أن التعاون مع أي فريق من الفجار، كجمال معروف، للهجوم أو تسهيل الهجوم على إخوة العقيدة، هو باطل من الكبائر الخطيرة، والأفعال المشينة، على أيّ وجه فصّْلته. أمّا لو نظرنا لمبررات من فعل هذا، فهي الاستيلاء على المقرات واستعادة السلاح، والقتال للتوصل إلى ذلك، فهذا ايضاً باطلٌ كبير، لكنه تأويل راجح أو مرجوح، أيا كان، والتأويل يتيح مجالاً لا يتيحه مجرد إرادة الانتصار بالتعاون مع الفجار. ولو قيل كان تعاونا محدوداً قلنا إثم هذا ليس بمحدود، فهل تتصور أن يستعين معاوية رضى الله عنه، أو يعين أحدا من الروم على قتال أو قتل أحدٍ من جند عليّ رضى الله عنه؟ لو صحت هذه الصورة في ذهنك، لاحتجت إلى أن تعيد قراءة توحيدك مرة أخرى.

فالمؤثر هنا هو، أين يقع الباطل الأكبر، وأين يقع الباطل الأقل، أو المفسدة الأعظم والمفسدة الأقل؟ هذا ما يجب أن ينظر فيه الناظر بدقة وحيادية، نظرة مستقبلية، لا ضيقة محدودة. وكل ما تبع انشقاق الجولانيّ عن الدولة، فيه باطل من كلا الطرفين بلا شك، لكن الأصل والباطل الأكبر هو ما يُحدّد المُحق من غيره.

أمرٌ آخر مفيد في الاعتبار، وهو الانتباه إلى المصطلحات. فنحن نسمع عن تكفير البعض لمن بعدم الخضوع لحكم الله. والصورة التي تمت على أرض الواقع هي رفض التحكيم. وهذا أمرٌ يعرف طالب العلم المبتدئ أنه باطلٌ محضٌ. فقبول حكم الله، غير قبول التحكيم في مسائل خلافية. ومع أنّ الأصح هو إقامة هيئة شرعية يتفق الطرفان على الالتزام بأحكامها، إلا أنّ الاشتراط في التحكيم، بل والرجوع عنه ليس فيه مخالفة شرعية البتة.

ثم أمر في غاية الأهمية، يعلمه أهل الأصول، وهو أنّ الاستشهاد بحوادث فردية وتعميم مدلولاتها، هو من فعل أهل الباطل  والبدعة، وهي الوقائع التي يسميها أهل الأصول "قضايا الأعيان وحكايات الأحوال". وهذا النظر يجعل الواقعة أو الحادثة إن كانت مفردة بعينها أو قليلة، لا يمكن أن يقوم بها عُموم يعارض ما ثبت من عمومات مثل البراءة الأصلية وخلو الذمة، إلا إن تواترت لدرجة يقوم بها عمومٌ ينقض العموم الأصلي.

لذلك يجب أن يعود الناظر في مثل هذا الواقع بما فيه من شكوك وغموض، إلى التزام ما يثبت بما أوردنا من طرق للنظر، أمّا عن القرائن الشواهد، فكما قلنا، لا يمكن في وقت حربٍ وقتالٍ أن تظهر حقيقة واضحة بما لا يدع مجالاً للشك، بل هي قرائن عليها لا أكثر ولا أقل.

(6)

مثال: كيف نتعامل مع بيان أبوعبد الله الشاميّ

ولنضرب مثلاً بما جاء في حديث أبي عبد الله الشَاميّ شرعيّ الجبهة الأخير، كيف ينظر صاحب علم متحقق بما سبق من مُمَهِداتٍ، إلى محتويات جاءت في بيانه لتُثبت وتقرر، فنرى أين نجح في التقرير وأين فشل، وكيف نتعامل معها. وسنأخذ ما قال ببعض التفصيل، حيث أنّنا لم نجد تفصيلاً أو رداً من خصومه، ونحاول أن نبين من خلال ما قال، ما يَثبُت وما يحتاج لإثبات، دون أن نصحح أو نزيف أقوال أحدٍ، فلسنا كما قلنا من قبل أبواق لأحد، بل ننشد الحق ونصرة المجاهدين أيا كانوا وأينما كانوا. كما أن هذا المقال إنما يُقصد به ضرب المثل لبيان طرق النظر والاستدلال في مثل هذه النوازل.

ونقسّم ما سيأتي من قوله إلى ثلاثة أقسامٍ، حق ثابت وإن قلّ، وباطل ثابت سنشير اليه ما عرفناه، وأخبار تحتاج لرد رسميّ من الدولة لا يمكن التقرير فيها هنا بصواب أو بطلان.

وقبل أن أبدأ في تحليل المثال هذا، أود أن أنبه على أنني أفرق بين موقف الدولة وقيادتها، وموقف أنصارها على مواقع التواصل الاجتماعي، وبين جنودها ورجالها على الأرض.

فهناك من الأقوال أو الأفعال ما يجب على الدولة أن تبيّنه قادتها وشرعييها، ولا يصح أن يُحمل موقفها بتويتات ينثرها أنصارها ومنهم المُحق والمُغالي، أو ببعض قضايا أعيان يقولها أو يفعلها جنودها على الأرض.

كذلك فإن ما يردّ به بعض أنصارالدولة من أنه "لا يلزم الدولة ردّا فهذه سفاسف أمور"، أو أن "ما يقوله الخصم كذب وافتراء"، هو مردود بل باطل محض. إذ كيف يكن سفاسفاً ويترتب عليه استباحة دماءٍ وهتك أعراض وسلب أموال، بل تخريب جهاد أمة ووأد أملها بالكلية؟ هذا العذر فيه استهانة بالوضع القائم وعدم تقدير لخطورة الوضع والثقة الزائدة بالنفس لحدّ الغرور. وهذا من عيوب بعض الأنصار ولا نحمّل الدولة عبأ هذا الكلام. كما أن الكذب والافتراء يجب بيانه لراحة المناصر، ولحسم رأي المتردد، ولبيان خسة المخالف. ولسنا بأعز من عائشة رضى الله عنها، وهي من هي، التي أنزل الله بيان تكذيب من رماها بالإفك قرآنا يُتلى.

نعلم أن عين المحبّ كليلة عن المعايب، لكننا نريد بيان الحقّ كما قال إبراهيم عليه السلام لربه "بلى ولكن ليطمئن قلبي"، فإن زعم أحدٌ أن قلبه مطمئنٌ بحب جبهة ما أكثر من اطمئنان نبيّ لله بربه، فليراجع إيمانه ابتداءً، وليراجع ما دوّنا أعلاه عن معنى التعصب الأعمى.

يمكن تلخيص النقاط التي بني عليها أبو عبد الله الشامي حديثه، بعد حذف التكرار الذي جاء في عدة نقاط، فيما يلي:

ثم أحتفظ بما أري في هذه النقاط التي تحتاج جواباً ورداً من الدولة، إذ هذا ليس محل آراء، بل ما أبتغي هنا هو مجرد بيان مثالٍ يتعرف به الناظر كيف ينظر في الوقائع والشواهد، وأن يفرزها بما فيه النصفة وابتغاء الحق.

وأدعو من يقرأ هذا المقال أن يقرأه بعين محايدة تبتغي العلم، والوصول للحق، ولا يتخذه سهماً يرمى به كاتبه بأيّ تهم عشوائية، إذ إننا والله لا نخاف إلا الله، ولا نسعى لإرضاء أحد على حساب ديننا.

والله وليّ التوفيق

د طارق عبد الحليم

@haleeminc

5 جماد أول 1435

6 مارس 2014


[1]  والآية نزلت في الكفار، ولكن للمسلمين كفلٌ منها كما هو مقرر في علمي التفسير وأصول الفقه.

[2]  "مقدمة في اختلاف المسلمين وتفرقهم" ص32، http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-4

[3]  وأقصد بالناظر هنا الباحث عن الحق

[4]  تحدثنا من قبل عن بعض هذه الأمور في مقال سابق