الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتساءل الكثير، كيف أنّ هناك أساتذة جامعيون، ودعاة مفوهون، وعلماء ومشايخ يكتبون ويخطبون، ثم تجدهم في الفهم حقراء متخلفون، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يحسنون، ضالون مضلّون، نراهم اليوم في كلّ بقاع أرض الإسلام، في الجزيرة ومصر والشام والمغرب سواء؟ كيف يجتمع العلم الكثير مع الفهم السقيم والتصرف الأعوج، في شخصٍ واحد؟ بينما قد نرى من الناس مَنْ علمهم قليل وتحصيلهم محدود، لكنهم على الجادة، لا يحيدون عنها ولا يُفتنون؟
سؤال طرحه عليّ عدد من الإخوة مؤخراً، إجابته السهلة المباشرة هي الهدى والتوفيق من الله سبحانه. فالهدى والتوفيق ليس لهما حدّ معينٌ من العلم يرتفع بصاحبه إلى درجة الفهم والفقه عن الله سبحانه. بل الفقه والتوفيق، كما أثِرَ عن مالك رحمه الله، أنه "ملكة يقذفها الله سبحانه في قلب العبد"، لابسبب مباشر من علم أو تحصيل.
وقد رأينا مثلاً في القرآن، نعرضه هنا، لعل فيه استكشاف لما خبّأه الله في مطويات المعاني القرآنية.
فقد قرن الله سبحانه الهدى في القرآن، بالماء، ينزله الله فتحيا به الأرض بعد موتها، كما ينزل الهدى على القلوب فتحيا به النفوس بعد موتها. وقد دأب الناس أن يقولوا أنّ العلم بحرٌ واسع لم يطأ أحدٌ شاطئيه، أولم يبلغ أحد مداه.
فإذا نظرنا في ابتلاء الله سبحانه للمؤمنين من قوم موسى عليه السلام في قوله تعالى "فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍۢ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّىٓ إِلَّا مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةًۢ بِيَدِهِۦ ۚ فَشَرِبُوا۟ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًۭا مِّنْهُمْ"البقرة 249، نجد عجباً من آيات الله في هذا الشأن.
فقد ابتلى الله سبحانه المؤمنين من قوم موسى عليه السلام بنهرٍ، وجعل سبحانه الاغتراف من مائه فتنة، ففمن شرب وارتوى كان هالكاً، ومن اغترف غرفة بيده كان ناجياً. فسبحان الله، الأصل أن النجاة تحصل لمن ارتوى، والهلاك يحصل لمن لم يشرب. وفي هذا تضمينٌ لمعنى عظيم، يليق بمعاني القرآن ومفاهيمه. فإن الهدى، الذي جاء من الله سبحانه، لم يربط الشرب من النهر بهلاك أو نجاة، بل فكّ هذا الارتباك الطبيعي. فماء هذا النهر هو عطية الله، كما أنّ العلم الذي يتنزل على القلوب فتفقه عن الله عطيته، لكنّ الارتواء منه ليس مناط النجاة، بل اتباع الأمر هو مناط النجاة. ومن ثمّ فقد ينجو من يغترف غرفة من العلم، لحسن توجهه وصحة رؤيته وفطرته، وقد يرتوى منه علماءٌ ومشايخ وأساتذة، فيهلكون من حيث ظنوا أنهم الناجون.
النجاة إذن هي الطاعة في الهدى والالتزام بالأمر وترك هوى النفس لأجل الوحي، وليس كمّ الاغتراف من العلم، بل قد تكون غرفة باليد منه فيها الشفاء والكفاية لمن عقل عن الله سبحانه.
وبالله وحده التوفيق والسداد