الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
المقال[1] من "القول"، فهو قولٌ منسوب لقائله. وقد انتشرت المقالات في أيامنا هذه نتيجة وجود النت من ناحية، وما لاءم ذلك في طبيعة الناس من رغبة في الحديث وإبداء الرأي، إما إثباتاً لفائدة أو إعجاباً بنفس، كلّ حسب قصده ونيته.
وفنّ الكتابة ينقسم إلى أقسامٍ حسب الغرض منها، ومن ثمّ طولها ومدى استغراقها لموضوعها. فهناك الكتاب، وهناك البحث، وهناك المقال.
الكتاب عملٌ متكاملٌ يتناول، عادة، موضوعاً مستقلاً مُفرداً، يستوعبه، ويحيط به من كلّ جوانبه، ويقدّم علي فكرته الأساسية دلائل متشعبة، وإن لم يكن من الضروريّ فيه أن ينتهى إلى نتيجة محددة، أو قولٍ فَصْل. بل في كثير من الأحيان يكون الكتاب عرضاً شاملاً لموضوعه، يضعه صاحبه بين يديّ القارئ ليرسم معالم هذا الموضوع، تتفاعل في نفس القارئ، وتدْفعه دفعاً إلى التفكير والمُحاورة الذاتية، والبحث الأعمق في موضوعه. والكاتب هنا، يبذل جهداً شاقاً، عادة إلا كان موضوع الكتاب تجميعيّ لا إنشائيّ، يستوعب فيه تاريخ الموضوع وملابساته، وما سبق فيه من أعمالٍ، ثم ينتقل إلى خطته في الكتاب، وما يقصد إلى إضافته في كتابه، ويستطرد بعدها في موضوعه، من جوانبه التي قرر الخوض فيها، حسب سعة التناول التي انتهى اليها نظره فيه.
أما البحث، فهو بين فنّ "المقال" و"الكتاب". فالبحث يتناول موضوعاً أساسياً كالكتاب، لكن يختلف عنه في أنه يقدّم فكرة مفردة، أو عدة أفكارٍ محددة، عن هذا الموضوع، فيبحثه من عدة جوانب رئيسية، بإختصارٍ غير مخل، ويأتي بالأدلة التي تؤيد فكرته الأساسية، ويقيم عليها الدليل، لا يخرج عن سياقها إلى السياق العام الذي يحيط بها إلا قدر ما يوضّح فكرته. وعادة ما يكون وسطاً في الطول بين الكتاب والمقال. كذلك فإن البحث يؤدى إلى نتيجة محددة، يخرج بها صاحبه، يعرضها على القارئ في نتيجة بحثه، قد يتفق القارئ فيها مع ما ذهب اليه الكاتب، أو يختلف معه. ومن ثم فالبحث أقل درجة في المشقة من الكتاب، وأسرع إلى نتائجه منه، وأليق في بعض المسائل من أن يدون فيها كتابٌ كامل. وصاحب البحث، لا يجب أن يكون محيطاً بكافة جوانب موضوعه، بل يكفى أن يكون مستوعباً لجوانبها، مُلِمّاً بشواهدها، محيطاً بما قيل فيها، وبما ينقدها أو ينقضها.
ويستحضرنا في هذا المقام الفرق بين المجتهد المطلق ومجتهد المَسألة في علوم الشريعة، أو كصاحب رسالة الدكتوراة، التي هي كتاب في ذاتها، وصاحب البحث العلمي، في العلوم الوضعية. فصاحب الكتاب أو الرسالة كالمجتهد المطلق في موضوعه وصاحب البحث كمجتهد المسألة، يعرفها ويحققها، ويعرف أدلتها وما يردُ عليها من شواغب، لكنه لا يستطيع إدعاء تحقيق كلّ ما يتصل بها من مسائل أخرى.
ثم يأتي المقال في أسفل درجات سلم التدوين. والمقال، كما ذكرنا، هو قول لصاحبه، لا يتجاوز عادة عدة صفحات قليلة، تتناول فكرة واحدة لا أكثر، لا يلزم في تقديمها كثير أدلة، بل هي قولٌ عادة ما يستند إل رأيٍ بحتٍ غير مدعومٍ بدليل، شرعيّ أو وضعيّ، إلا ما يراه الكاتب ملائماً لفكرته. وصاحب المقال في أمور الشرع، إمأ أن يكون ممن ليس لديه علم شرعي يستند اليه القول، هو ضربٌ في عماية، وحديث بالهوى والتمنى، وإما أن يكون ممن له باعٌ في أمور الشريعة، فقوله حينئذ يمكن الرجوع اليه والاعتماد عليه، حسب درجة علمه الشرعيّ.
وعادة ما يقدم أصحاب العلم، الشرعيّ أو الوضعيّ، كتباً، ثم أبحاثاً، ثم مقالات[2]، حسب هذا الترتيب، لا العكس، كما نرى في أيامنا النحسات هذه.
وقد اتّبعت هذا النَهج في حياتي العلمية، الشرعية والوضعية، في الترتيب الذي ذكرت، فأخرجت رسالتيّ الماجستير والدكتوراه، ثم نشرت عدداً من الأبحاث، ثم الأوراق في دورياتٍ علمية متخصصة، والتي قبلتها الجهات المختصة لكون صاحبها من حاملي الدكتوراه، أي ممن له مؤلفات وكتب في موضوعها.
ثم، بدأت مسيرتي العلمية في جانب الشرع، بالدّرس المُتعمق المتواصل الدؤوب، والذي تتوّج في عام 1978 بإصدار كتاب "الجواب المفيد"، وتبعته بكتاب "حقيقة الإيمان" في عام 1979، ثم سلسلة الفرق، في الثمانينيات. ثم بدأت بعدها في كتابة أبحاثٍ كبحث "مفهوم السببية"، وغيره. ثم دوّنت بعدها عدة مقالات في مواضيع تتعلق بالعلوم الشرعية والاجتماعية والتاريخية والأصولية، في الثمانينيات والتسعينيات. ثم أصدرت سائر الكتب في الأصول وغيرها بعد ذلك في العقد الأول من هذا القرن.
ثم أتت حركة 25 يناير 2011، فدفعتني دفعاً إلى كتابة المقال، لأواكب التغييرات اليومية على الأرض، فأصدرنا ما يربو على خمسمائة وخمسة وأربعين مقالاً حول الأوضاع السياسية والحركية، منها ما يقوم مقام "البحث"، وأكثرها ما هو من قبيل "المقال". ويعلم الله أنّ هذا اللون من الكتابة، أقصد المقال، لم يكن يوماً مما أهوى، بل إن مجالي هو البحث العلميّ لا كتابة المقالات، التي أراها كالوجبات السريعة[3]، تَسدّ جوعاً لكن لا تقيم أوداً ولا تُقَوّم بها صِحّة.
وما أسرد هذا الحديث المُمِلّ للقارئ العزيز إلا دليلاً على متابعتي الذاتية لما ذهبت اليه في أساليب تناول القلم، سواء في مقالٍ أو بحث أو كتاب. فإن ما أراه اليوم من انتشار "المقالات" على النت، دون أن يكون لأصحابها باعٌ فيما يتعرّضون له، هو أمر خطيرٌ، قد يكون له بعض منافع، لكنه كالخمر، ضرّه أكبر من نفعه. إذ إنّ خلاصة ما يقول هؤلاء، من غير المؤهلين، قد تصيب حقاً بالصدفة المحضة، لكنها كثيراً ما تصيب باطلاً فتؤذى وتُضل.
فعلي أولئك الذين يستبقون الخطى، ويتعجّلون الثمرة، أن يسيروا على النهج الأمثل، فما وصل أحدٌ لهدفٍ صالحٍ إلا من وجهه الصحيح، وإلا فهو إلى أُفولٍ قبل وصول.
(كُتِب هذا المقال منذ أأسابيع عدة)
[1] أرى أنّ فن الخطابة ينتمى بدرجة من الدرجات لمفهوم "المقال"، فله أحكامه.
[2] فالطالب في العلوم الوضعية مثلاً، يقدم كتابيّ الماجستير والدكتوراه، ثم ينشر أبحاثاً Research و أوراقاً Papers بعدها، لا العكس، وذلك حتى يكون بحثه أو ورقته، التي هي مقال في العادة، مقبولة إذ تأتي من صاحب خبرة ثابتة، لا من هواء وفراغ.
[3] Fast Food!