الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع كل الألم الذي يعتصر الفؤاد، يتحرك القلم بخطى متثاقلة بطيئة، يحاول أن يقترب من حق ضاع أو أوشك. تتطاير الكلمات من الفكر، ثم لا تستقر على الورق لخجلها من ضعف وصفها ما يحدث اليوم بما يليق، فتتلاشى وتتشتت ويدخل الفكر في مرحلة ذهول أسود.
ما حدث في مسجديّ رابعة والفتح وميدان النهضة هو بداية لسلسة من أعنف ما يمكن أن يتخيله عقل في مواجهة المسلمين في بلادنا، بل وفي بلاد المسلمين قاطبة. ما حدث الأمس واليوم يضعنا على طريق أصحاب الأخدود لا على طريق أصحاب بدر.
أبناء الحركة الإسلامية، أستغفر الله، بل المسلمون، مُقْدِمون على أيامٍ سوداء في بلادنا، يُستأصلون فيها من الجذور، فلا يسمح بالحياة إلا لعلماني ملحد أو منافق رعديد أو مسلوب العقل.
ماذا حدث؟ ولماذا؟ هل حقاً تُهِم معرفة إجابة هذه الأسئلة اليوم؟ نعم، يجب أن نتعلم من أخطاء الماضى، لعل عسى ...
الحقّ أنّ عبأ ما حدث من سقوط للحركة الإسلامية، بمعناها الواسع الذي يتعدى الحركات، يقع على عاتق كلّ من تحدث بشأنها في العقود الأخيرة، بدرجات متفاوتة، تبدأ من أشدها خللاً إلى أقلها أثراً، وما أبرأ نفسى.
الإخوان، بلا شك، كانوا، ولا زالوا، هم الأبعد أثراً والأشدّ خطأ في رسم هذا الموقف المحزن الذي نراه اليوم. ذلك بما ساد عقائدهم من خلل إرجائي، منعهم من تصور حقيقة كفر العدو الملحد. وهو الأمر الذي لا يستطيع العاميّ أن يدرك أثره ولا يفهم أصله لإنعدام علمه الشرعيّ ابتداءً، فانساقت وراءهم الجموع دون تمييز. ثم كان ما تبنّوه من منهج حركيّ مَبنيّ على هذا الخلل العقديّ، فكانت منظومة الديموقراطية الشركية، والسلمية المُتَخنّثة، وما صاحبهما من ترويجٍ لمفاهيم تضاد الإسلام، أصولاً وفروعاً، كالمواطنة والوسطية والحداثة، وما عداها. ثم تبنّيهم لسياسة إمساك العصا من النصف والتفاوض والتحاور و"المشاركة لا المغالبة" وهي الطامة الكبرى التي أنهت عهداً كان يمكن أن يكون بداية لزحفٍ إسلاميّ واسع شاملٍ، لكن قدر الله وما شاء فعل.
أما السلفية التعيسة الخائنة، فقد شاء الله أن يقودها عدد من المنافقين ممن باعوا دينهم وتجردوا من ضمائرهم، فأبحرت في لجج السياسة دون قبطان يقود سفينتها، فغرقت سريعا، وأغرقت من حولها.
ثم انحرفت بعضٌ من حركات أهل السنة، كجماعة الشيخ الشاذليّ شفاه الله، بتأييدها للإخوان ومسايرتها للديموقراطية مؤخراً، وكالجماعة الإسلامية المندحرة التي سبقت بتراجعاتها، وكأنها لم تعى درس التاريخ في تعمالها مع قوى الكفر الإلحاديّ.
أما نحن، من أهل السنة، فقد جاء خطؤنا مؤخراً، بعد عقودٍ من التصور العقدي والحركي الصحيح، حين تصورنا أن الجيش المصريّ لن ينزلق في ظلمات القتل والسحل التي يمارسها، فدعونا في تيارنا السنيّ، للحشد في مواجهته، ولم ندعو صراحة إلى الجهاد المسلح ضد الغاصب المصريّ الملحد. وقد اعتمدنا على تصور أن جيش مصر سنيّ الأصل، ليس طائفياً كجيش بشار، وعمينا عن حقيقة أنهم تربية إلحادٍ وكفر أسوأ من الطائفية. سامحنا الله فيما أخطأنا فيه.
هذه هي، بكل شفافية وصدق، خريطة الأخطاء المتراكبة، التي أدت إلى جيلٍ، وإن أحب فيه الكثير الله ورسوله وشرعه، إلا أنهم لم يكن لديهم التركيبة العقدية التي تتصدى للكفر في الوقت المناسب، وبالطريقة المناسبة، حتى أن كثيراً ممن يخرجون اليوم هاتفين ضد الكفر والقمع، كانوا بالأمس القريب يُدينون من يتلفظ بلفظة الكفر والجاهلية، ويعتبرونه متطرفاً إرهابياً!
أدى كلّ هذا إلى مواجهة غير متكافئة، نراها اليوم على الأرض، ولا تنكرها العين، وإن أنكرها القلب ومَجّتْها النفس، ونتيجتها أصبحت واضحة معروفة.
لكن كفانا اليوم من الماضى. ماذا نحن، المسلمون، فاعلون؟
تعتمد إجابة هذا السؤال على عوامل محددة ترتبط بالرؤية الواقعية للحاضر والمستقبل القريب. فلعل البعض يوافق علي ما أقول ويخالفني فيه البعض الآخر، وهي طبيعة بني آدم، أقصد الخلاف. لكن ما لا يمكن أن نختلف عليه هو أنّ "الدعوة" إلى الإسلام السنيّ الصحيح المتكامل في السنوات القادمة ستكون في غاية الصعوبة، إن لم تكن مستحيلة، لسنين عددا، ومن ثمّ فإن عملية تصحيح المفاهيم وتصحيح العقائد ستكون غاية في البطئ والخفاء.
ما يمكن اليوم هو إستمرار الحشد قدر الإمكان، وإن كنت، بصفة شخصية، لا أرى له اليوم نتيجة على الأرض يمكن أن يعوّل عليها غير إزعاجٍ لقوى الكفر. ثم العمل على تكوين خلايا مقاومة محدودة العدد، لتقوم بعملياتٍ نوعية تضرب في عمق الكيان الإلحاديّ، بشكل دائم ومنتظم.
يجب أن نتفهم حقيقة أنّ النظم القمعية والدول البوليسية، تبدأ فتية قوية، ثم يعتورها الوهن والشيخوخة، وتتباطؤ حركتها وتضعف قبضتها بعد حين. ومن ثم، يجب إعداد العدة الحركية المُسلحة للإنقضاض عليها وقتها. لقد استمر الإخوان في نبذ هذه السياسة التي تتوافق مع سنن الله وشرع الإسلام، ولم يُكوّنوا ميليشياتٍ تقف في وجه جيش الإحتلال المصري الملحد، وانشغلوا بنفي هذه التهمة التي كانت قوى الكفر ترميهم بها، عن إدراك أهميتها. ففشلوا سياسياً وحركياً.
لقد أشرت في مقال سابق لي في 18 يولية 2013، بعنوان "معالم استراتيجية على طريق الدعوة ومسار الحركة"[1]، اتبعته بمقال آخر في 28 يولية 2013، بعنوان "العقلية الإسلامية .. وما بعد المرحلة الحالية!"[2]، أنّ هناك حاجة ملحة إلى تجاوز ما نحن فيه اليوم إلى رؤية مستقبلية تتجاوز الحاضر، بما فيه من تقلباتٍ تعلو وتهبط بالنفسية المسلمة ساعة بساعة. قلت (إنّه من العبث الحركيّ أن نظل ندور في معترك الأحداث القائمة، دون أن يقوم بعضٌ من أصحاب العقول والبصيرة بتحديد ما يجب عمله في المرحلة التالية، التي بدأت تتحدد ملامحها بالفعل، كما أشرت في مقاليّ السابق ذكره، وذلك من باب قوله تعالى "فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌۭ لِّيَتَفَقَّهُوا۟ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُوا۟ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓا۟ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" التوبة 22). وهو ما أعيده اليوم وأشدّد عليه، أنْ يجب الإعداد لما يأتي.
أعرف أنّ المرحلة الآن لا يمكن فيها التخطيط بعقلٍ منتظم أو رؤيةٍ واضحة، لكن يجب أن نتلافي أخطاء الماضى، وأن ننطلق بفكرٍ سنيّ يعترف بالجهاد ولا يراه منكراً أو إرهاباً أو تكفيراً، بل مبدأ أصيلٌ في التصور الإسلامي لا يجب التغاضي عنه لا أولا ولا أخيراً.
ثم يقول الله تعالى كلمته "وَلَا تَهِنُوا۟ وَلَا تَحْزَنُوا۟ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" آل عمران 139.
[1] http://www.tariqabdelhaleem.com/new/Artical-68438