إزالة الصورة من الطباعة

معالمٌ استراتيجية على طريق الدعوة ومسار الحركة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

بعد تداعى الأحداث المؤسفة في الأيام القليلة السابقة، والتي أعقبت أحداثاً أشدّ أسفاً، قبلها بعامٍ، عَجَزَ فيها الحكام من الإخوان أن يركّزوا دعائم حكمهم، وأن ينصروا مبادئ دينهم، فلعبوا على الحبل، ورقصوا على السُلم، بين الكفر والإسلام، ضعفٌ على ضعف.

وبعد أن أعلن الجيش الخائن، على لسان كلبه السيسيّ، إنقلاباً عسكرياً لصالح قوى العلمانية الفاجرة، أدى إلى مواجهة لا يعلم منتهى أمرها إلا الله ، فقد آن الآوان أنْ تتبنى الحركة الإسلامية السُنية استراتيجية جديدة، تتلاءم مع معالم المرحلة القادمة، والتي لا نجد أقرب اليها، في عصرنا هذا، من حقبة الستينيات، إبّان حكم الطاغية الأكبر عبد الناصر، والتي عشناها شباباً واكتوينا بنارها في نهاية الستينيات قبيل هلاك الطاغية. وهذه المرحلة، كتلك، تتميز بالفتك بالمسلمين وإغلاق منافذ الدعوة كلية، ومطاردة أصحابها، ومحاولة استئصال شأفتهم قتلاً واعتقالاً، إلى جانب الهوس في إشاعة الفواحش ونشر الفساد وتبنى وسائله الإعلامية بكافة أشكالها تحت مسمى "الفن"، أو "الإبداع" أو ماشئت من هذه الكفريات المستترة.

وبناء على أنّ الدعوة ثابتة كمبدأ لا يتغير، لكن أشكالها ووسائلها تتغير وتتبدل حسب الحاجة والواقع، فإنه يجب أن تتحدد معالم الدعوة واستراتيجياتها في مواجهة الواقع الذي كنا نستشعر قدومه، بعد أن أصبح حاضراً، حقيقة لا توقعاً. "وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمْرِهِۦ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"يوسف 21.

والدواعي الملحة لأن تتبنى الدعوة والحركة المبنية عليها استراتيجية جديدة، تنبع كذلك من حالة الفشل الذريع التي واجهته الإستراتيجية السابقة، والتي هي باختصار "اللااستراتيجية". فقد تفرقت الأقوال والمذاهِب في دائرة أهل السنة والجماعة، وخرجت علينا تراجعاتٍ من بعض القوى التي كانت تنتمى لفكر السنة والجماعة، كما ترعرعت رويبضات الإتجاهين المتطرفين، الإرجاء والتكفير، وعَزّ أتباع منهج السنة والجماعة، حتى تدهور أمرنا إلى ما نحن فيه، بما كسبت أيدينا.

تقوم الإستراجية الجديدة على ثلاثة مرتكزات:

  1. مبادئ الدين الحنيف وأحكامه المُنَزّلة على الواقع الحاضر.
  2. معطيات الواقع الحاضر من خلال منظور أهل السنة والجماعة.
  3. مراعاة أحداث الواقع المصريّ الخاص القريب والبعيد في شأن الدعوة والحركة.

المرتكز الأول: وهو الأهم والأصل في شأن الدعوة والحركة كلها، ونعنى به التوحيد. ولست أعود بأهل الدعوة إلى الوراء، حيث رأينا تداعيات الخلل والإنحراف حين تقوم دعوة التوحيد على خللٍ أصيل في فهم معطيات الواقع، وخطأ تأويله والانحراف بدوافعه، في الدعوة السلفية التي حملت العار والشنار على أهلها، حيث كان أخسّها وأحقرها الثنائي الطروب بكار وبرهاميّ، أشدهم كفراً ونفاقاً، أوكان أفضلها طريقة من ساير الديموقراطية، وإن وقف موقفاً قوياً بعد الأحداث الأخيرة مثل محمد عبد المقصود. كلّ هؤلاء دعوا إلى التوحيد يوماً، دعوة ليس لها من الحق والفهم والوعي نصيب. لكن هذا لا يغيّر حقيقة أنّ الدعوة إلى التوحيد، وتحرير مبادئه، وتنزيله على الواقع، وبيان قواعد الولاء والبراء، بلا محاورة ولا مداورة، هي لا تزال أسّ الدعوة وركنها الأصيل وبداية انطلاقها.

المرتكز الثاني: وهو أمرٌ جللٌ، وموضوعٌ جدّ خطير.  إذ منظور أهل السنة هذا يحتاج إلى أن يخرج للناس مدوّناً مكتوباَ، منقحاً مُحرراً، يُنشأ الحركة ولا تُنشِؤه الحركة، كما هو حادث اليوم. وهذا المنهج ليس مدوناً وإن تناثر في كتابات الأصول والفروق والأشباه والنظائر، غير العديد من كتابات الإئمة الأعلام كابن تيمية وبن القيم، خاصة ما دوّنه بن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل" وغيره. ونحن بصدد كتابة هذا المُدون، بعون الله وتوقيفه. وسوف نأتي في المرحلة القادمة، على تفاصيل هذا المنهج، حيث إن الإتحاد على هذا المنهج، تفصيلاً لا إجمالاً، هو الأمل المعقود في الوصول إلى إطارٍ سنيّ للحركة، مبنيّ على فهم لا تشوبه البدعة.

المرتكز الثالث: وهو الرجوع في تقدير الظروف الحركية إلى الواقع المصريّ، خاصة تلك التجربة الأخيرة، التي كشفت عن مُخَبّآت النفوس ومُشَوّهات العقائد وانحرافات التطبيق. وقد كانت التجربة، ولا تزال، على ألمها الشديد وتداعياتها المؤلمة، غنية بالعبر والمواعظ، حيث شملت فكر الإخوان وفكر السلفية النظرية، ثم ما انحرف عن النهج السنيّ بعد التزامٍ وتَحَقُق به، كجماعة الشيخ الجليل عبد المجيد الشاذليّ، وفكر التراجعات الذي أفرز طيفاً يبدأ من عاصم عبد الماجد إلى خائن دينه ناجح إبراهيم. قد أكدت هذه الظروف معانٍ ثابتة في الشريعة، كانت تلك الأطياف كلها قد أهملتها ولم تعتبرها في حركتها، كقوله تعالى "إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ" يونس 81، "فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُوا۟ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ" البقرة 194، "وَٱتَّقُوا۟ فِتْنَةًۭ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مِنكُمْ خَآصَّةًۭ" الأنفال 25. ومثل تلك الآيات البيّنات التي ترسم خطى على طريق المنهج السُنيّ السلفيّ الصحيح.

من هنا، فقد رأينا أن المرحلة توجب فكراً دعوياً محدداً، يرتكز على الحركة في تقدّمه، ولا يؤجلها لحين بعد، كما كان الإتجاه السائد دوماً. مرحلة تتبنى الإعداد العقديّ، جنباً إلى جنبٍ مع الإعداد النفسيّ والجسمانيّ، للمقاومة والتضحية في سبيل الله. مرحلة لا تعتذر عن ضعفها بقلة الإمكانات، بل تتجاوز ضعفها في قلة الإمكانات بالحلول البديلة.

ولسنا نزعم حصر معالم تلك المرحلة في هذه العجالة، لكن لاشك أن بعض معالمها ظاهرة واضحة، فهي مرحلة "أمن الدولة"، أو مرحلة "الحكم الصليبيّ"، أو مرحلة "العلمانية السافرة"، أو سمّها ما شئت، وهي تدفع، إذن، إلى العمل السريّ جزئياً، وكأن الزمن قد استدار وعادت لنا فترة الستينيات، بعُجْرِها وبُجْرِها، بأسوأ ما فيها، عشناها بتفاصيلها، وندعو الله أن لا يعيدها، وإن ظهرت بوادرها، وفاحت رائحتها في أحداث الحرس الخائن الخسيس، وسلسلة الإعتقالات التي تلتها.

من معالم الحركة الدعوية، في هذه المرحلة:

  1. اللامركزية أساس الحركة: ذلك أنّ الحركة ستكون مرصودة، ولهذا يجب تتلافي المركزية في الإدارة، حتى لا تضرب ضرب واحدة.
  2. الحركة على بينة من الأمر: وهو ما يعنى أن لا تتخذ أية خطواتٍ عشوائية غير محسوبة، بل يجب أن تكون كل خطوة على طريق سابقتها، يقويها وتمهد لما بعدها.
  3. عدم الثبات في وسائل الحركة بل في مفاهيمها وأهدافها. ذلك أنّ الحركة في مثل هذه الظروف يجب أن تكون مرنة متنوعة الأشكال من حيث الوسائل لا المقاصد.
  4. إعتماد أسلوب التفرقة بين الدعوة الظاهرة والحركة، بحيث تعمل المفاصل الدعوية والحركية كدوائر متقاطعة، وبمنهج التنظيمات الإجتماعية[1] لا البيروقراطية الهرمية[2].  والفارق بينهما جدُّ كبيرٍ لدر دارسى علم التنظيمات الإدارية.
  5. تدرس الإستثناءات في نوعية الحركة على حدة، حسب معطيات الحال، كما في حالة بعض المحافظات. وهو ما يعنى أنّ بعض الأحوال قد تتطلب تعاملاً خاصاً، كما في سيناء، لإختلاف ظروف أبنائها، ودقة مواقعها من العدو الصهيونيّ والعدو العسكري المصريّ على السواء.
  6. يجب ن تُدرس الإستثناءات في الهدي الظاهر كذلك، من حيث أنّ العدو العسكريّ المصريّ سيستهدف المسلمين بشكلٍ مكثّفٍ.
  7. لا تترك الحركة وسيلة إلا استخدمتها، عدداً وعدة، لتمهد للدعوة أن تنتشر وتثمر.

 هذه بعض روؤس أقلامٍ يأتي تحتها وصفٌ تفصيليٌّ للحركة الدعوية المستقبلية، يجب أن تتعاون على صياغته القيادات الفكرية والميدانية للشباب المُسلم السنيّ، ليصدق فينا قول الله تعالى "أَدْعُوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى"يوسف 108.


[1] Social Organization

[2] Hierarchical Organization