إزالة الصورة من الطباعة

أحداث أمن الدولة ودلالاتها .. الصديق والعدو

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قد لا يكون لتلك التظاهرة التي قامت بها جموغٌ من الإسلاميين المستقلين أمام مبني أمن الدولة المجرم، نتائج آنية ملموسة، لكنها بلا شك، تحمل دلالات كثيرة على تحليل "الواقع"، وفهم الأطراف المتنافسة فيه، ومن ثمّ تمييز العدوّ من الصديق، وتحديد المخالف من الرفيق.

لقد انقسم الشارع الإسلاميّ قبل 25 يناير، إلى قوتين رئيستين، الإخوان والسلفيون. اعتمدت الإخوان على العمق التاريخيّ لجماعتها، والذي يقرب من تسعين عاماً، أحسن فيها بعض المنتمين اليهم، وأساء أكثرهم. وانتهي أمرهم، بأن أصبحوا أشبه ما يكون بحزب الوفد من كل جهة، البعد التاريخيّ، والفراغ العقديّ والقيادة المائعة، والجماهيرية الفوضوية العشوائية. تعرف السيد البدويّ، فتعرف الكتاتني والعريان. فهم سواء.

واعتمد السلفيون على رصيدٍ تاريخيّ يزيد على أربعين عاماً منذ السبعينيات، أول ظهورهم في الإسكندرية، وأعانهم على أن يكونوا ملجأً للعديد من الشباب، رغم سلبيتهم المستمرة، وتسرّب الإرجائية إلى مواقفهم وإن لم تظهر في عقائدهم كما ظهرت في حالة الإخوان، أنهم اعتمدوا على صفاء حديثهم عن دين الله، وصحة رؤيتهم العقدية النظرية، وكثرة استشهادهم بالحديث النبويّ الصحيح، ومحاربتهم للبدع على الخصوص. لكن كانت كلها تأصيلات نظرية لم تختبر على الأرض إلا بُعَيْد 25 يناير 2011، أي أربعين عاماً من إنشائها، هي عمرها كله!

ثم تلك التجمعات الأخرى، التي نحت منحى الجهاد في تاريخها الأسبق، والتي كانت قياداتها في السجون، تراوح بين التمسك بالحقّ، أو التراجع عنه والتسليم للباطل. وقد ثبت منهم من ثَبُت، كمحمد الظواهريّ وإخوانه فجزاؤهم عند الله، وانحرف وراجع فتراجع وصدمته يد الشيطان على أمّ رأسه كغالب قيادات الجماعة الإسلامية، وانضموا إلى ركب الخاسرين، وفرحوا بما أوتوا من مهادنة أمن الدولة بعد أن شكلتهم على أعينها في السنوات الأخيرة من إعتقالهم، وعقدت الصفقات على التزامهم وولائهم فيما يستجد من أحداث.

انضم الشباب إلى تلك التجمعات، سواءً قبل 25 يناير أو بعدها، أملاً في أن يكون فيها الخير للأمة. ويجب هنا أن نؤكد على أن مقاييس الإختيار التي حسمت الخيارات في نفوس العديد من هؤلاء الشباب لم تكن مبنية على فهم حقيقي للعقيدة، أو تحليل دقيق لمعطيات الواقع السياسيّ، قبل يناير وبعده. إنما هي في غالب أمرها حميّة عاطفية مصحوبة بقدر كبيرٍ من الجهل الشرعيّ، وإرادة التمسك بأذيال "شيخٍ" تستريح له الأذن، ويظهر أنه صاحب علم وفقه. لا أكثر ولا أقل. وهكذا كان حال العوام على مدى التاريخ. كما أنه من الواجب أن نفرّق بين المتبعين للمشايخ والجماعات بعامة، وبين طلاب العلم. وهو فارق أضخم من أن تهمله القيادات الشابة الواعدة. فأتباع الجماعات الإسلامية، عوامٌ من العوام، ودهماء من الدهماء. وطالب العلم، هو من يحاول أن يرتقي بنفسه فوق حمأة التقليد، فإما أن يهيده الله فيرى الحق ويميز الباطل، أو أن تتغلب عليه صفة التقليد فيظل يطلب عِلماً في حيّز شيخه لا يخرج عنه، ما وافقه كان الحق، وما خالفه كان الباطل.

والشاهد هنا أنّ تلك التظاهرة قد بيّنت أنّ هناك في الشارع المصريّ فئة مستقلة لا يستهان بها، ممن لا يتبعون السلفية المنزلية الحضيضية، ولا الإخوان المجرمون، ولا الجماعة الإسلامية المرتكسة، ولا حازم أبو اسماعيل، الظاهرة التي بهتت قبل أن تلمع. بل هي فئة مستقلة، أدْرَكَتَ أن كلّ هؤلاء إما لا يعملون للإسلام، أو لا يعرفون ما يريد الإسلام أن يعملوا.

وتلك القيادات الصاعدة، التي تقود هذا التيار المستقل اليوم، إن صحّ أن له قيادة، يجب أن تنتبه إلى أمرين، أن لا تتنابز فيما بينها، كما سمعنا عن حديث مؤسف صَدر عن واحدة منها للأخرى. والأمر الثاني هو إن إتحادكم، بعد عون الله، هو قوتكم اليوم، والمجرمون أسعد الناس أن يروكم تنتمون لتجمعات شتى، ليوقعوا بكم فرادى، هو أسهل لهم. ولعل مكتب إرشاد موحدٍ، أو هيئة تشريعية تضم بعضاً من قدامي شيوخ الدعوة الثابتين على الحق، أن يكون حلاً ممكنا للترشيد والتوجيه. أعلم أن في هذا ضغط على النفس البشرية التي تحب الاستئثار بالأمر كله تحت دعاوى عريضة، لا حقيقة لها، إذ "الأنا" ليست سهل قيادها، وهي مختبؤة هنالك في جانب خفيّ من الضمير، تفسد عليه بعض حسناته. لكن "الأنا" هي في حقيقتها قوة فطرية كامنة "للدفاع عن النفس"، ديناميكية فطرية إن شئت. تطغى إنْ مُكّنت فتفسد على المرء كل حاله، وتصغر إن أحكم الإخلاص سياجها حتى تكون عوناً لا عدواً، لكنها في كلّ الأحوال لا تختفي، وإن إدعى أناس غير ذلك. فالتقوى والنظرة المخلصة للمصلحة العامة قد تعين عليها لمن أراد الله به الخير، مع ضمان عدم تعدى إحداها على الأخرى.

وصدق شوقي

تَطغى إذا مُكِّنَت من لذةٍ وهوى            طَغيُ الجياد إذا عَضّتْ على الشُكُمِ

لذلك فإنه من الضروري اللازم أن يقاوم هؤلاء القادة الميدانيون "أناهم"، وأن ينشؤوا مظلة، أيّا كان توصيفها، تلتقي على الولاء لله على منهج رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الولاء فيما بينها، لا تستأثر أحدها بفصيل ضمته، بل هي كلها عناصر في جيش الله. ولا يعنى هذا أن يتنازل كل منهم عن قيادته لفصائله، لا، فما هذا بأفضل طريق، إذ أبناء كل فصيل لن يزالوا يروا في قائدهم الحنكة والفهم أكثر من غيره، بحق أو بباطل. فأتباع وليد ليسوا بالضرورة أتباع خالد، وأتباع خالد ليسوا بالضرورة أتباع محمد، وهكذا. لكن على مستوى القادة، فالقرار إما أن يكون استراتيجياً وهي قرارات محسومة بين تلك الفئة بالفعل، أو تكتيكياً، من ناحية مدى التطبيق، أو يكون خاصاً أو عاماً من ناحية اتساع رقعته. فالمشاركة في القرارات العامة، والتكتيكية لابد منه، كالخروج في تظاهرات، وحشد الجماهير، والندوات العامة والإستنكار العمليّ، والمراقبة لقوى الشرّ أن تنال من أحدها دون علم الأخرى. لابد من أن يكون لهؤلاء مرجعية تنسق وتخطط، ومن ورائها خبرات علمية وحركية عركتها الأحداث عقود عدداً. ومن العبث أن يقال أن من هو من أبناء الدعوة منذ عقدٍ من الزمان، له من الرؤية والنظر كمن يعانيها منذ أربعة عقود. هذا قول "الأنا" بلا خلاف.

إن مصر اليوم لا تحكمها حكومة مركزية لها سيطرة فعلية على الأمور. إنما هي محكومة بجهات متعددة، تنحصر في الجهات ذات القوة المسلحة، كالحرس الجمهوري والداخلية والجيش. هؤلاء هم الحكام الحقيقيون لمصر اليوم. ولذلك فإن التغيير لن يكون إلا بمجابهة تلك القوى، كما حدث في يناير، حين كان الطوفان أعتى من أية قوة مسلحة في البلاد. ولذلك فإن القضاء الفاسد والإعلام العاهر والفوضى والتخريب، ستظل في مصر طالما تلك القوى الثلاثة هي التي تملك زمام الأمر.

وقد كتبت في العام الماضى، عقب تولي محمد مرسى للحكم، أنّ هناك نافذة زمنية بين ستة أشهرٍ وسنة، هي كل المتاح للإسلاميين أن يتحركوا فيها قبل أن تدور عليهم الدوائر. وقد كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وها هي الأيام تثبت صحة ما ذهبنا اليه. ها هو أمن الدولة الملحد، يتحرك بأموال مبارك للقضاء على الإسلاميين، وما جمال صابر وعبد الله بدر وأبو إسلام بل وحتى عريان الإخوان، إلا مقدمة للطوفان، الذي يظن ياسر برهامي وعبد القصود ومحمد حسان أنهم بخيانتهم للقضية قد لجئوا إلى الجبل يعصمهم منه! وهيهات.

لقد بدأ هذا العد التنازلي بالفعل. وإن لم يتحرك الإسلاميون اليوم، بل الساعة، حركة مدروسة متناسقة قوية ، فسوف تنتهي بهم الأحداث الى ما لا يحمد عقباه.