إزالة الصورة من الطباعة

هل الأصل في بلاد المسلمين اليوم الكفر .. أم الإسلام؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

وصلتني رسالة من أحد القراء الأحباء يقول فيها "نفع الله بكم ونجاكم والى كل خير وفقكم وسدد خطاكم. ذكرتم فى الملاحظة الأولى أن (الأصل في المسلم ممن ولد عليه أنّ لا يتغيّر حكمه إلا بيقين)، فنعم والمشهور عن  العلمانية التي نحيا فيه و الناس من زمن و زمان أنها دين الهوى فتارة مع الدين و تارة ضده فهي لا تثبت على حال يمسي المرء مؤمناً و يصبح و العياذ بالله كافراً غير أن الظاهر المعروف أناس يقولون لا إله إلا الله و يتخذون القبور و أهواءهم قوانين يعبدونها من دون الله .. و السؤال . العذر بالجهل في إنفاذ العقاب و ليس فى إطلاق اللفظ و الألقاب .. لفظ الكفر و ألقابه .. هذه العبارة خطأ أم صواب؟". وقد رأيت أن أنشر جواباً فيه بعض التفصيل، لتتم به الفائدة إن شاء الله. وما أرى إلا أنّ السؤال ينقسم إلى قسمين، أولهما عن قضية التكفير، وثانيهما عن قضية العذر بالجهل.

أما عن القسم الأول، وهو ما عُرف بقضية التكفير، فإنّ التكفيرَ حكم شرعيّ، تجري عليه كافة القواعد الشرعية التي تجرى في أبواب الفقه. ومن المعلوم المستفيض أنّ الناس في بلادنا، الذين يعيشون فيما يسمى بالرقعة الإسلامية، ظلوا على دين الإسلام منذ 13 قرنا على الأقل. فالأصل فيهم أنّهم على الإسلام. ثم عرض في هذا الزمان، في المائة عام الأخيرة، عارض العلمانية، وما يتبعها من أقوال الديموقراطية وغيرها، مما جعل شبهة أن عامة الناس قد تحولوا عن دين الإسلام قائمة في عقول بعض من منتسبي العلم، أو صغار طلابه.

ويجب، في هذا الشأن، أن نبيّن أنّ ما عرض على المجتمع إنما هو شبهة دخلت على كثيرٍ من الناس، أنّ الديموقراطية هي حكم الشورى، وأنها لا تنافر الإسلام ولا تتعارض معه. وهذه الشبهة قد دخلت على الكثير من القيادات، بل ومن ينسبون أنفسهم للعلم في بعض الحالات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والشاهد هنا أمورٌ ثلاثة يجب التحقق منها، قبل الشروع في تطبيق الأحكام الشرعية.

أولاً: هل دخلت هذه الشبهة على غالب سكان البلاد، حتى قلبت الأصل فيها بيقين لا خلاف عليه، فأصبح غالبها علمانيين؟

ثانياً: هل يصحّ تكفير المعيّن، بناء على شبهةٍ تعرض للمجتمع قبل أن تثبُت عليه عيناً؟

ثالثاً: هل هذه الشبهة من باب المسائل الظاهرة أم من المسائل الخفية؟

وللإجابة على هذه الأسئلة، نقول وبالله التوفيق، إنّ دعوى أنّ غالب المجتمع قد أصبح علمانيّ يدين بالعلمانية، ويعلم معارضتها للإسلام، هي دعوى عريضة لا تصحُ بحالٍ من الأحوال. إن هؤلاء الذين يدعون أنفسهم "نشطاء"، وأتباع الأحزاب العلمانية كلها معاً، من المخلصين لفكرتها، والبلطجية الذين لا دين لهم أصلاً، لا يزيدون عن مليونين على أكثر تقديرٍ، ثم أضف الي هؤلاء منتسبي الجامعات الأمريكية والخاصة، من أهل المال والجاه، ثم أضف لهؤلاء حول خمسة ملايين صليبي قبطي، تجدك وصلت إلى رقم الثمانية ملايين الذين انتخبوا أحمد شفيق لعنه الله، وهؤلاء لا يمثلون أكثر من 10% من شعب مصر. فالمبالغة إذن في قول أن غالب الشعب قد انقلب إلى العلمانية قولٌ لا يصح بوجه معقول على الإطلاق، إلا عند من اتبع هواه وصار التكفير فطرة يحيا بها.

فإن صحّ ما قلنا، وهو صحيح، فإنّ القاعدة هي "بقاء الأمر على ما هو عليه" أو "اليقين لا يغير إلا بيقين مثله"، وهي قواعد كلية في الشريعة، لا يحيد عنها صاحب عقل وعلم[1]، أما أن يُطلق القول على عواهنه بلا ضابطٍ فهذا ليس من شأن العلماء.

ولنضرب مثالاً على ما قلنا. هبك خرجت في يوم من الأيام تطلب حاجة لك، فقابلت رجلاً يسير إلى جوارك، فسلم عليك بتحية الإسلام، ثم قال لك "اسمي محمد عبد السميع"، ثم مررتما بمسجدٍ فدخل معك وتوضأ للصلاة، ودفع به المصلون للإمامة، فهل ترى، يا صاحب العقل الشرعيّ الرشيد، أنه لا يصح أن تصلى وراءه، وتتوقف في أمره، لأنه "قد" يكون ممن ينصر الديموقراطية؟ أو ترى أنه كافرٌ بالفعل، لأن الأصل قد انقلب في المجتمع فصار المرء كافراً أصالة إلى أن يثبت العكس؟ وكلا القولين خطأ محض وجهل مركبٌ لا يصدر عن عالم بما يقول، إلا أن يصدر عن طويلب علم رويبضة، أخذ من العلم رشفات، لا تُحي عقلاً ولا تقوّم رأياً، فهي رشفاتٌ موهمة لا مُعلمة. فالقاعدة الشرعية الكبرى، التي هي قاعدة القواعد في دين الإسلام، كما قال الشاطبيّ[2] أن "العمل بالظاهر". فما ظهر من المرء هو ما يعامل به، إلى أن يأتي ظاهر آخرٌ أقوى من الأول، فيؤول اليه الأمر. وظاهر هذا الرجل الإسلام، لم ترى منه ما يدلّ على غيره، فلا يثبت له إلا عقد الإسلام فإذا انتهى من الصلاة، وإذا به يقوم في المسجد يدعو إلى الإنضمام لحزبٍ من الأحزاب، فساعتها تقوم اليه، وتعلمه أنّ هذا الأمر مخالف لحدّ التوحيد، وأنه بذلك يفعل فعلاً مكفراً لا يصح، فإن قال لا والله، فالديموقراطية هي الشورى في الإسلام، وهي محاسبة الحاكم، فقد وقع في فعلٍ مكفرٍ، لكنه ليس في فعل من المقاصد، بل في فعل من الوسائل، إذ ليس قوله كفراً في ذاته، بل هو كفرٌ لأنه يؤول إلى أنّ القائل يقول بأنّ حكم الشعب للشعب هو أفضل من حكم الله للشعب، لكنّ القائل لا يقول بهذا، بل بقول بالأخذ بوسيلة في الحكم، ومآل قوله إلى ذاك القول المُكفّر. والإجماع من قول علماء أهل السنة هو عدم التكفير بمآل القول. فإن قال قائلٌ، فإن البرادعيّ والصباحيّ وأضراهما يقولون لا إله إلا الله، قلنا: هو ظاهرٌ عارضته ظواهر عديدة تدل على الكفر الصريح، فهو ما يصرحون به في كل ساعة من عدم جدوى الشريعة وأنّ الديموقراطية الغربية أفضل منها، بلا مواربة، وهو مدار عملهم ومبدأ أحزابهم. فهذان ظاهران تعارضا، والإسلام والكفر لا يجتمعان، ويكون الحكم هو كفر القائل. هذا خلاف أن النطق بالشهادين لا يثبت به عقد الإسلام، إلا بعد الإختبار، كنا نص العلماء، بل تثبت به عصمة الدم، كما في حديث أسامة بن زيد[3].

أما عن الأمر الثاني، فإنه كما قلنا، لا يصح أن يرمى معينٌ بكفر لإحتمال أو شبهة اعترت المجتمع، فإن تكفير المعين، كما أوضحنا في المثال السابق، له ضوابط، منها أن يكون قوله كفراً حالاً لا مآلاً، وأن يكون عالماً بمآل قوله، لا أعنى أن يكون عالماً بأنّ قوله قول كفرٍ، فإنه لا يقصد أحدٌ الكفر أبداً كما قال شيخ الإسلام بن تيمية في الصارم المسلول. وتواضرس عابد الصليب لا يقر على نفسه بكفر، ولا البرادعي ولا الصباحيّ، ولكن أن يكون عالماً بأن مآل قوله أن "حكم الشعب للشعب أفضل من حكم الله للشعب"، فإن عرف ذلك فقد كفر، وإن لم يعرف أن قوله ذلك يجعله كافراً، فهذا هو القدر من الجهل هو الذي لا عذر فيه.

أما الأمر الثالث، فإن مسألة حقيقة الديموقراطية ليست من المسائل الظاهرة المستفيضة في شعب مصر، الذي ترتفع فيه الأمية إلى 60%. والمسائل الخفية قد تكون في الأمور العقدية أو غيرها. ومن أبرز وأشهر الأمثلة على ما نقول هو حديث "الرجل الذي زر رماد جسده"، وهو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات ، فأحرقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين . فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم . فأمر الله البر فجمع ما فيه ، ثم قال : لِمَ فعلت هذا ؟ قال من خشيتك يا رب ، وأنت أعلم .فغفر له". ولقد أشكل هذا الحديث بظاهره على بعض الناس فقالوا : هذا رجل جهل صفة من صفات الله اللازمة لكمال ربوبيته ، ومع هذا فقد غفر الله له ، فيكون قد عذر بجهله! إلا أنّ بن تيمية شيخ الإسلام قد أدرجه في باب المسائل الخفية في مجموعة الرسائل والمسائل. وخلاصة قوله أنّ إدراك الصفة على كمالها لا يقدح في العلم بالموصوف[4]. والشاهد هنا أنّ العلماء اعتبروا مثل هذه المسألة، وهي من مسائل العقائد البحتة، من المسائل الخفية لا الظاهرة، مع أنها، بالنسبة للكثير اليوم، ظاهرة واضحة، وقد غفرها الله لقائلها بلا خلاف. فهل تكون مسألة اشتباه الديموقراطية بالشورى وعدم التمييز بينهما، وهي من مسائل الوسائل لا المقاصد العقدية، من المسائل الخفية التي تكون مانعاً من تكفير قائلها بمجرد القول؟ هذا ما ننصره في هذا الموضع.

إنّ الواقع الذي تعيشه بلادنا وتحيا فيه مجتمعاتنا هو بلا شك واقعٌ جاهليّ، ونظمه كافرة بلا خلاف، من حيث أنها ترتضى العلمانية وتتوشح بوشاح الديموقراطية، تفتخر بها، وتدعو اليها. أما عن كفر العاملين في تقوية هذا النظام ودعمه،  فهم إمّا من القائلين بحسنه وأفضليته على الشرع، كأمثال البرادعي والصبّاحي وبقية تلك القمامة البشرية من أهل الإعلام الملحد، فهؤلاء كفارٌ بلا خلاف في ذلك. وهؤلاء هم رؤوس الكفر، والداعين إلى جهنم، وإما هم ممن دخلت عليهم شبه الإرجاء المتطرف من أتباع الإخوان والسلفيين الجدد، أو السلفيين المُبدلين، أو المُتجدّدين، أي الأسماء شئت أن تطلق عليهم، فهؤلاء ضالعون في الديموقراطية والحزبية، وكثير منهم يقول بالمواطنة، فهم، من ثم، يقولون ويفعلون أفعال الكفر ولا شك، لكن حكمهم على قولين، أولهما أنّ هؤلاء لا يكفرون لأنهم يصرحون بأفضلية الشريعة، وأن هذه وسائل توصل إلي التحاكم اليها، ومن ثمّ فتدرأ هذه الشبهة عنهم الكفر، وإن كان فعلهم كفراً، والحدود تدرأ بالشبهات، والردة حكمٌ شرعيّ يترتب عليه حدها، فيقع تحت هذه القاعدة بلا خلاف. والقول الثاني أن هؤلاء يقولون ويفعلون الكفر، عالمين به، وبتعارضه مع أصل الدين، فهم كفارٌ بذلك. والقول الأول أقوى حُجة فيما أرى.

هذا بشأن الرؤوس والقيادات التي تعلم الحجة وتفهمها على القطع، أما العامة، الذي وقع عليهم السؤال، فهم ليسوا من هذا النوع ولا قريبٌ منه، بل هم قد وقعوا في شبهة تدرأ التكفير، وقالوا بقول كفرٍ في مسألة خفية، تحتاج إلى تفصيل.

أما عن جملة القارئ العزيز "العذر بالجهل في إنفاذ العقاب و ليس فى إطلاق اللفظ و الألقاب .. لفظ الكفر و ألقابه .. هذه العبارة خطأ أم صواب؟" فأعتقد أنه يقصد أنّ الإعذار بالجهل هو أمرٌ من أمور الآخرة، لا من أمور الدنيا. فإن كان هذا هو ما قصده، فنقول وبالله التوفيق، إنه إن كان مقصوداً أنّ الحكم على المُعَين من الناس بالكفر هو حكم من أحكام الدنيا، ثم مردّه إلى الله، هو سبحانه صاحب القول الفصل في هذا الشأن، فهذه جملة صحيحة، وقد بيّناها في كتابنا "الجواب المفيد". وأما إن كان يقصد أنه يجب أن نترك هذا الأمر، أمر النظر في عارض الجهل، فلا نصف المُعَيّن بما هو صفة له، سواءً بإسلامٍ أو بكفرٍ[5]، فهذا أمر لم يقل به أحدٌ من السابقين الأولين من الصحابة التابعين والعلماء أجمعين، بل كانوا يَعْرِفون الناس ويُعرّفون بهم، وينزلون الأحكام عليهم، إسلاماً وكفراً، وبدعة اليوم من أنه لا يكفر أحد، وإن كان كافراً هي بدعة يُقصد بها نشر الإلحاد مع ضمان السلامة والأمان للداعين له.

إن الصفة المميزة لأهل السنة والجماعة هي الإنصاف والإعتدال والوسطية الحقة، لا وسطية القرضاوى أو العوا. فإن أهل السنو لا يتورعون عن إطلاق الحكم الشرعي بالكفر على من يثبت كفره بالدليل ايقيني القاطع، كما أنهم لا يكفرون بالجملة، ويرمون الناس بالكفر وهم برءاء منه. ذلك دين القيّمة.

والله تعالى أعلم.


[1]  فإنه قد يكون المرء صاحب عقل ولا علم، أو صاحب علمٍ ولا عقل، والأمثل على هذين صارت شائعة مستفيضة في الوسط العلماني والإسلاميّ على حدٍ سواء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

[2]  راجع في هذا الشأن كتاب الموافقات للشاطبيّ وكتاب أنواء البروق للقرافي، فهما أصلان لا يستغني عنهما طالب علم في هذا الشأن.

[3]  راجع كتابنا "فتح المنان في بيان حقيقة الإيمان" لتفصيل هذا الأمر.

[4]  أولا ً : فقد تأول العلماء هذا الحديث وصرفوه على غير ظاهره

ـ فذهب البعض إلى أن قول الرجل إنما هو من مجاز كلام العرب وبديع استعمالها ، الذي صورته مزج الشك باليقين ، وهو يسمى "تجاهل العارف" . كقوله تعالى "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" سبأ 24 ، فصورته صورة الشك ، والمراد اليقين .

ـ وذهبت طائفة إلى أن الرجل إنما وصى بذلك تحقيرًا لنفسه وعقوبة لها ، لعصيانها وإسرافها ، رجاء أن يرحمه الله تعالى ، مع العلم بأن ذلك ليس جائزًا في شريعة الإسلام

ـ وقالت طائفة : لا يصح حمل هذا على أنه نفي قدرة الله ، فإن الشاك في قدرة الله تعالى كافر ، وقد قال في آخر الحديث : إنه إنما فعل هذا من خشية الله تعالى ، والكافر لا يخشى الله تعالى ، ولا يغفر له .

قال هؤلاء : فيكون له تأويلان : أحدهما : أن معناه لئن قدر علي العذاب ، أي قضاه يقال له قدر بالتخفيف ، وقدر بالتشديد بمعنى واحد .

والثاني : أن قدر هنا بمعنى ضيق . قال تعالى "فقدر عليه رزقه" الفجر 16 ، وقال تعالى "فظن أن لن نقدر عليه" الأنبياء 87 ، أي لن نضيق عليه .

ثانيًا : وقالت طائفة اللفظ على ظاهره ، ولكن هذا الرجل قاله وهو غير ضابط لكلامه ، ولا قاصد لحقيقة معناه ولا معتقد لها ، بل قاله وهو في حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف وشدة الجزع ، بحيث ذهب تيقظه وتدبر ما يقوله ، فصار في معنى الغافل والذاهل والناسي ، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته "أنت عبدي وأنا ربك" ، فلم يكفر بذلك ، للدهش والغلبة والسهو.

ثالثًا : وذهب البعض إلى الأخذ بظاهر الحديث دون تأويل وقالوا: إن هذا الرجل جهل صفة من صفات الله تعالى ؛ ونحن نعلم أن العلماء اختلفوا في تكفير جاهل الصفة ، فقال القاضي: وممن كفره ابن جرير الطبري وقاله أبو الحسن الأشعري أولاً. وقال آخرون: لا يكفر بجهل الصفة ، ولا يخرج عن اسم الإيمان ، بخلاف من جحدها . وإليه رجع أبو الحسن الأشعري، وعليه استقر قوله ، لأنه لم يعتقد ذلك اعتقادًا يقطع بصوابه ويراه دينًا وشرعًا ، وإنما يكفر من اعتقد أن مقاله حق .

فنقول : هل الجهل المقصود هنا هو محل الخلاف ، هو الجهل بأية صفة من صفات الله تعالى . أم الجهل ببعض الصفات التي لا تثبت إلا بالشرع عند طائفة من العلماء ؟

الواضح طبعًا أن الخلاف المقصود إنما هو في جهل بعض الصفات ، وليس أياً منها بإطلاق وإلا فهل يعذر مثلا ً من جهل أن الله حي أو أنه واحد أحد أو أنه خالق أو عالم ؟ فأي إله يعبد إذن؟!

فإن قيل : هذا الرجل جهل صفة القدرة ، فعذر بجهله. قلنا : فما الذي دفع العلماء إذن إلى صرف الحديث عن ظاهره و اللجوء إلى تأويله ، إذا كان الأمر عندهم بهذه البساطة ؟ ألا يكفي أن يقولوا مثلاً : هو جاهل فعذر بجهله؟ وما كانت بهم حاجة إلى كل هذه التأويلات ؟ إلا أن يكون العلماء قد رأوا أن هذه "قضية عين" لا تقوى على معارضة قواعد كلية ثابتة و أدلة مستفيضة ، سبق أن تقررت عندهم في صورة أصل كلي ، مما أوجب أن تتنزل هذه القضية على مقتضى هذا الأصل . وخاصة أن الحديث نفسه يحتمل أوجهاً كثيرة غير هذا الوجه الذي يعارض الأصل المقرر.

وأخيراً : نقول : إنه حتى لو ثبت خطأ الرجل و ظنه أن الله لن يعيده إذا فعل في نفسه ما فعل. فالواضح من النصوص أن الرجل لم يكن مشركاً ؛ فلم يتلبس الرجل بالشرك جاهلاً أن الله هو المستحق للعبادة وحده ، فعذر بذلك ! بل كان الرجل على التوحيد ، فلم يعبد أحداً مع الله بأية صورة من صور العبادة ، ثم عذره الله بجهله في الشرك بالله!!

قالت طائفة من العلماء "كان هذا الرجل في فترة حين ينفع مجرد التوحيد ، ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح" اهـ . فالجهل بإحدى الصفات شئ ، و الجهل بالموصوف شئ آخر.

يقول العز بن عبد السلام "و قد رجع الأشعري رحمه الله عند موته عن تكفير أهل القبلة ، لأن الجهل بالصفات ليس جهلاً بالموصوفات، وقد اختلف في عبارات و المشار إليه واحد.

وقد مثل رحمه الله ما ذكره ، بمن كتب إلى عبيده يأمرهم بأشياء، وينهاهم عن أشياء ، فاختلفوا في صفاته مع اتفاقهم على أنه سيدهم. فقال بعضهم: هو أكحل العينين ، وقال آخرون : هو أزرق العينين، وقال بعضهم: هو أدعج العينين، وقال بعضهم هو ربعة ، وقال آخرون: بل هو طوال ، وكذلك اختلفوا في لونه أبيض أو أسود أو أسمر أو أحمر، فلا يجوز أن يقال: إن اختلافهم في صفته اختلاف في كونه سيدهم المستحق لطاعتهم وعبادتهم . فكذلك لا يكون اختلاف المسلمين في صفات الإله اختلافاً في كونه خالقهم وسيدهم المستحق لطاعتهم و عبادتهم. وكذلك اختلف قوم في صفات أبيهم مع اتفاقهم على أنه أصلهم الذي خلقوا من مائه و لا يكون اختلافهم في أوصافه اختلافاً في كونه نشئوا عنه وخلقوا منه) اهـ . الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد ص 59، دار ريم للطباعة والنشر، 2012.

 

[5]  على أن يكون المتحدث في هذا الأمر عالماً لا طويلب علم رويبضة.