الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
من أهم عوامل نجاح دعوة الداعية أنْ يكون على وعي تامٍ ودراية كاملة بالوسط المحيط الذي ينشر فيه دعوته، وبالظروف المحيطة بذلك الوسط، كما أنّ الزارع لابد من أن يعرف طبيعة الأرض التي يلقى فيها بِحَبهِ، وأن يعرف أحوال الطقس والبيئة المحيطة، ليخرج له نباته مُثمراً يَنِعاً.
لهذا السبب، فإن من البديهيات أن ننظر في نوعيات المَدعوين، كافتهم، لنرى ما هي تلك النوعيات، وما يمكن أن نتوقع منها، حسب ما هي عليه ابتداءً، وحسب ما نلمس فيها من قدرة وإرادة على التعرف على الحق، وما هو باقٍ فيها على الفطرة السوية وما انحرف عنها بلا رجوع.
وشعوبنا العربية في هذا الشأن متساوية متشابهة، لتقارب ظروفها الإجتماعية تقارباً شديداً، وإن اختلفت في بعض مكوناتها، وعوامل نشأة أهلها. فمصر على سبيل المثال بلد زراعية أصلاً، لا تحب الثورة ولا تشجع عليها، رغم ما نراه اليوم أفعال ليست بثورة، ولكنها تصرفات جياعٍ بلا عملٍ أتاح لهم أصحاب المال من الفلول والغرب ودول الخليج الملحدة مالاً ليعيثوا في الآرض فساداً. أما ثورة شعبها في 25 يناير فقد كانت صرخة مكبوتٍ غلى بها القِدْرُ ستين عاماً كاملة، بلا مُتنفَسٍ على الإطلاق. أما الشام والعراق، فنجد أهلها أكثر تعوداً على الثورات والعنف، مما مر ّبها في تاريخها القديم والحديث. ثم إن أهل فلسطين، أعنف وأحدّ من غيرهم لما يعانون من تشردٍ وضياعٍ فرضته عليهم خيانات العرب المُحدثين، الذين اشتروا عروشهم وكراسيهم وأموالهم بالأرض والعرض. ثم تجد أهل المغرب العربيّ، فيهم طبائع مختلطة بالطابع الإيطاليّ والفرنسيّ، حسب ألسنتهم التي فرضها عليهم الإستعمار. وهذا إجمال يحتاج إلى تفصيل، لسنا بصدده في هذا المقال.
كذلك ترى أنّ عادات شعوبنا، وبعدهم بها عن الإسلام يختلف باختلاف شراسة الهجمة التغريبية التي قادها المستعمر منذ قرنين من الزمان. وقد كانت هذه الهجمة أشد ضراوة على مصر منها على أيّ دولة أخرى، لموقعها وحجمها، فإن سقطت مصر سقط العرب.
أنا إن قَّــدر الإله مماتـــي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
وقد رأينا كيف أن مصر قد صدّرت الصالح والطالح إلى جيرانها العرب، فكان المصريون أساتذة الأجيال المتعددة في المدارس والجامعات، كما أنهم خرّبوا أجيال العرب بأغانيهم وأفلامهم و"فنّهم" الداعر. ثم تلتهم في ذلك الشام، ثمّ تربعت على عرش الدعارة اليوم إمارات الخليج، وفازت دُبيّ بقصب السبق في هذا المجال، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أما دول المغرب العربيّ، فقد تساوت مع دول الشرق لتأثير الفرنسة واليهود في تلك البلاد.
كذلك فقد تقاربت دول الشرق والغرب العربيّ، إلا الخليجيين منهم. ذلك أن حكام الخليج قد أفاضوا بعضاً من فوائد عائدات البترول على شعوبهم، وجعلوهم يتوهمون أنهم فوق البشر العربيّ، وإن كانوا أحقر شعوب الأرض أمام طوائف الروم، إلا من صلح منهم، وآمن بالله.
من هنا، فإنك تجد النماذج البشرية متقاربة متدانية في أنواعها. تعرف المصريّ فتكاد أن تعرف المغربيّ والشاميّ، وتحاجِج السودانيّ، فكأنك حاجَجْتَ الجزائريّ أو التونسيّ. ومن هنا فإن هذا الحديث يصلح لكلّ دعاة الإسلام، أينما كانوا.
(2)
الناس، العوام، رجل الشارع العاديّ، هم مادة هذه الدعوة، سواء المسلم منهم أو الكافر. والناس، العوام، قد غاب عن الكثير منهم من أمور دينهم شئ كثير. وهذا الجهل، لا يرفع عن أفرادهم أصل الإسلام الذي ولدوا عليه[1]، إلا إن ظهر ما يدل على كفر المعين منهم بلا خلاف على ذلك، كأن ينكر وجود الله سبحانه، أو ملائكته[2] أو كتبه، أو الرسالة عامة أو يردّ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، كلها أو بعضها، بلا فرق، أو أن يعلن أنّ الشريعة لا تصلح لزماننا هذا، أو أنها كانت للأوائل فقط، أو أن فيها ما لا يصلح، أو أن غيرها أفضل منها، مهما كان تعليله أو تأويله، أو أن يوالي الكفار، سواء كفار العلمانية المتسمين بأسماء المسلمين أو كفار الصليبية والصهيونية، بأن يقف في صفهم أو يدخل أحزابهم لنصرة مناهجهم، أو أن يوالي الصليبيين الأقباط، بأن يحضر كنائسهم، ويعينهم على شركهم، ويعظمهم بالقول أو بالفعل[3]. وأنت ترى أن كفر هؤلاء متعدد الجوانب، فإنه عادة تجد أنّ من كفر من باب، انفتحت له أبواب الظلمات كلها، وأشرب من هواه في كلّ إتجاه.
والنموذج الأول من هذه النماذج، هم أولئك الذين يُحبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويصلون فروضهم، وترتدى نساؤهم الحجاب، ولا يقبلون إلا الشرع وإن كانوا على جهل تام بضوابط التوحيد، وبكثير من الأحكام المتعلقة بالفقه كأحكام الربا وغيرها مما أصبح من أحكام النوازل. بل إن منهم من يرتكب المعاصى ويصرّ عليها ويبررها بالعادة، والتيسير في الدين وما إلى ذلك، وهؤلاء هم الأصل في الدعوة، وهم الأمل في التغيير، إذ ليس فيهم رفض تامٌ للشرع من ناحية المبدأ، وإنما عدم التزامٍ وركون إلى حكم العادات[4]. لكن ليحذر الداعية، فإن من هؤلاء من لا يقبلون إلا ما هم عليه، لا بنقص ولا بزيادة، من قبيل "إنا وجدنا آباءنا على أمة"، فإن حكم العادة والتقليد أقوى من السحر في نفوس بعض الناس. لذلك يجب أن يترفق بهم الداعية، ويمهلهم رويداً، ولا يعجل عليهم في الإجابة أو يوغل في إيراد المندوبات عليهم. فإن تلك النفوس قد اعتادت ما هي عليه، وقد يقبل المرء بلسانه، ويرفض بفعله.
ثم النموذج الثاني، وهو كثير من الناس، ممن لا يزال فيه محبة لدين الإسلام جملة، بلا قيود مضروبة على تصرفاته وأفعاله. فتجده يرتكب المحرمات، ويترك كثيراً من الواجبات، لا إنكاراً، بل كسلاً وتراخياً. وأكثر هؤلاء قد ضربتهم جرثومة الإرجاء، فتجد أحدهم، يشير إلى قلبه بيده، حين تذكّره بالله، ويقول "قلبي صافٍ ومعمور بحب لله"ّ! ويعلم الله وحده معنى هذه الكلمات، كما يقول الشاعر
تعصى الإله وأنت تظهِر حبه هذا لعمرى في الكلامِ بديـع
إن كان حُبك صــادقاً لأطعتَه إنّ المُحبّ لمن يُحبُ مطيع
وهذا النموذج شائعٌ مستفيض أكثر من النموذج الأول، ويجب أن يكون الداعية صلباً حاسماً في وجه هؤلاء، لا مجاملة ولا تهاون في الحديث. وليتجنب التكفير، فإن التكفير، وياللأسف، أصبح غايةً مقصودةً لذاتها عند عدد ممن ينسب نفسه لهذه الدعوة. لكن التكفير له أصول وقواعد، لا يتجرؤ عليه إلا من عنده الحصيلة العلمية والفهم الدقيق والإخلاص لله.
ثم النموذج الثالث، وهو ما أصبح شائعاً منتشراً في مصر، وأنحاء بلاد الإسلام، وهو نموذج من ولد لعائلة مسلمة، وتسمى باسمٍ مسلمٍ، ثم أصاب قلبه المرض، فأصبح غلفاً، لا يحب الدين ابتداءً، ويراه من تصرفات المتخلفين، وبقية جهل السابقين الأولين. وهؤلاء قد تجد منهم من ارتدى لباس العلمانية بجهل أو بغير جهل، وتراه يرددّ تلك الأقاويل عن فضل القوانين الغربية، ومثالية الحياة الغربية، وتقدم دولهم وسبق مجتمعاتهم، كأن الإسلام هو سبب تخلف البشر هنا، وكأن جهله وغباءه وكسله وقعوده عن العمل، ورغبته في الكسب السريع "بالشطارة" ليس سبباً فيما فيه بلادنا اليوم. وهؤلاء تجدهم تاركين للصلاة، لا يقرؤن قرآناً ولا يستمعون له، إن حضر أحدهم صلاة جمعة، فلأنّ صاحبه اضطره لذلك اضطراراً. تجد أحدهم يتحدث عن آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم باستهزاءٍ، يردّ منها ما يردّ، وكأنه ملك ناصية العلم، وهو أجهل من دواب الأرض وحميرها. وتجد كثيراً من أمثال هؤلاء الناس في المهاجرين إلى الغرب، الذين انبهروا بأضواءه كما ينبهر الفلاح الساذج بأنوار المدينة ومن ثم، ينكرون الإسلام، وبل ويتسمون بأسماءٍ غربية تبرءأ من أسمائهم الأصلية العربية، وكأن هذا سيجعل لهم مكانة في دنيا الغرب، ويعلم الله أنّ أمثال هؤلاء مُحقرون فاشلون لا دين لهم ولا دنيا.
ويجب على الدعاة أن يكونوا على بينة من كفر أمثال هؤلاء، فإنهم يصرّحون بأقوال الكفر عالمين بمآلها، وإن ادّعوا أنهم لا يزالوا على دين الإسلام، فقولهم مردود عليهم، إذ لا يجتمع كفر ولإسلام في قلب واحد. ويجب على الدعاة أن تفضح أمثال هؤلاء، وأن تكشف زيفهم، بل يجب عل من يُعاشروهم أن يبادروا بمقاطعتِهم، وأن يفرق بينهم وبين زوجاتهم إن كنّ من المسلمات، أو أن يهجرهن الزوج إن كانت إمراته من هؤلاء العاهرات المشركات، قال تعالى"ولا تمسكوا بعصم الكوافر" الممتحنة 7، وهي عامة للرجل يتزوج الكافرة أو المسلمة تتزوج كافراً. قال ابن العربيّ في أحكام القرآن "وقد كان الكفار يتزوجون المسلمات، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ الله ذلك في هذه الآية وغيرها. وكان ذلك نسخ الإقرار على الأفعال بالأقوال". وإجماع الفقهاء على أن يفرق وليّ الأمر بين الكافر وزوجته المسلمة دون حاجة لإيقاعه يمين الطلاق، لعدم إسلامه إبتداءً. وهذا النموذج هو الأسوأ والأعم، وهو الذي نراه في شوارع مصر اليوم، يبيع دينه بجنيهات قليلة ويسير في ركب العلمانية، وهو واقعٌ في الكفر وإن لم يشعر بذلك.
ثم النموذج الرابع، وهم رؤوس النموذج السابق، وقادتهم وأئمتهم، وهؤلاء يجب أن يتصدى لهم الدعاة بلا رفق، يكشفون ضلالاتهم ويعرّفون الناس بإنحرافاتهم، لا تأخذهم في هذا لومة لائم، فإن الكثير من مزيفي الدعوة ومخانيثها سيرمونهم بالتكفير والخروج، وما شابه من تهم حفظناها ومللناها.
نعم، الأصل في حجاج من أخطأ من علماء أهل الملة هو الرفق والرحمة، خاصة دعاتها، وأن يقوّم سراً لا علناً ما أمكن، لكن الأمر اليوم ليس أمر داعية أخطأ فيقوّم، بل هو أمر أمة يُسحَب دينها من تحت قدميها، وتسير كالمعيز وراء دعاة ضلوا طريق النجاة. ولا علينا مما في قلوبهم ومقاصدهم، فهذا أمر بينهم بين ربهم يحاسبهم عليه، إما خيراً فخير أو شراً فشر. لكننا هنا على الأرض، وفي ظل هذه الفتنة التي تركت حلماءَ منها حيارى يتخبطون ويبدِّلون، لا نملك إلا التعنيف وكشف البلاء بكل قوة عسى أن يقوّم أحدهم إنحرافه، أو يبدّل منهاج نظره، وإلا فقد أدّينا ما علينا كاملاً، وعليهم وزر إضلال الأمة، قال تعالي "معذرة إلى ربكم ولعلم يتقون" الأعراف 164
وبين هذه النماذج الأربعة، تجد نماذج يأخذ بعضها من ذلك الأنموذج طرفاً ومن غيره طرفاً. فهي إذن نماذج كثيرة متعددة، لا يكاد يحصيها المرء، إذ البشر يتفنّنون في أقوالهم وأفعالهم، ولا يسيرون على منهاجٍ واضح أبداً، إلا من عصم الله، وقليلٌ ما هم. وعلى دعاة الإسلام أن يميزوا ذلك فيمن يخاطبون، وأن يشكّلوا خطابهم حسب من يحادثون، لتتم الفائدة، وتثمر الجهود، وإلا كنّا كمن يحرث في ماء، أو يزرع في هواء.
[1] ودع عنك تلك الفئات من الغرّ المجاهيل الذين يقولون بأوهام التوقف أو التكفير، إلى أن يثبت العكس، فالأصل في المسلم ممن ولد عليه أنّ لا يتغيّر حكمه إلا بيقين.
[2] كأن يقول أن الملائكة هي قصص خرافيّ مان قبل أن يتقدم الإنسان ويعرف الطيران، وقد سمعت من يقول بهذا ثم يزعم أنه مسلم!!
[3] وهؤلاء عامة العلمانيين مثل البرادعي والصباحيّ والبدوى وابراهام عيسى ومحمد ابو حامد، ولميس الحريريّ وبقية عصابة الكفر
[4] وقد سمعنا عن نساء محجباتٍ يجتمعن ليدخّن الأرجيلة! عجيب والله، ما أسوأ حال هؤلاء، بل منهم من "يوضب الأرجيلة" لها ولزوجها!