الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
المتابع لحركة الإخوان في مصر خاصة، والتغيّرات التي مرت عليها عقدياً وحركياً، يمكنه أن يخرج بتحليل سريع ودقيق لمرحلتين مرت بهما تلك الحركة، أولهما، ما بدأت به، واستمرت عليه حتى أواخر السبعينيات أو أوائل الثمانينيات، وهو في مجمله "إتخاذ السياسة غطاءً للدين"، حيث كان الأوائل من الإخوان لا يزالون يتمسكون بالإسلام، كغاية نهائية وحلاً للبشرية. ثم خلف من بعده خلفٌ أضاعوا الهدف وبدلوا الغاية، وانقلب الوضع إلى أن أصبح "اتخاذ الدين غطاءً للسياسة" هو الهدف الغائيّ لحركة الإخوان.
كان الإخوان، في مرحلتهم الأولى، يتخذون من التمثيل في البرلمانات والدخول في الإنتخابات وسيلة لتحقيق أهدافٍ دينية، يعرفها من درس حركة الإخوان في تلك المرحلة، ونعنى بها مرحلة "ما قبل العريان والكتاتنيّ"، على عِوَجٍ في التصور العقديّ الذي سمح مجملاً بذلك الإنحراف النهائي الخطير. أما اليوم، فإن الإخوان يتخذون من رصيد الحركة، في مراحلها الأولى، غطاءً للوصول إلى البرلمانات والفوز في الإنتخابات، بعج أن أزاحوا الإسلام من شعارهم بالمرة، وادعوا "التكتيكية" والذكاء السياسيّ، يا الله ما أخيبهم!
ومن هنا أخطأ من أخطأ في تقويم وضع الحركة اليوم، واعتبارها امتدادا طبيعياً للأمس، خاصة من الدعاة من لا يزالوا "استخدام السياسة كغطاءٍ للدين"، حتى وإن كانت وسائلها شركية كفرية، أمرٌ لا بأس به، وهو ما يعود إلى تاريخهم الإخوانيّ الذي لوته جرثومة الإخوان، وضربه فيروس الإرجاء الإخوانيّ. خير مثال على ذلك هو الشيخ حازم أبو اسماعيل، الذي، على نقاء فطرته وحسن فهمه لمجملات الإسلام، قد أصابه الفيروس الإخوانيّ في الصميم، ولم يتمكن من الخلاص منه، فأنشأ ذلك الحزب الجديد، ليتوافق مع اتجاهه الإخوانيّ القانونيّ الذي لا ينكره، بل ويؤكد على صلابته، وبين ما يراه من عوار المنهج الإخوانيّ، وعدم جدواه، فيقول إن الحزب ليس غرضاً في ذاته، بل هو لدعم حركة شعبية. وهو جمعٌ باردٌ تلفيقيّ بين السنة والبدعة، وبين الإسلام والكفر، لولا التأويل الذي يحفظه من ظلماته.
الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الدعاة الأفاضل هو عدم فهمهم للسنن الإلهية، وتقدير قوتها من ناحية، ثم ثقتهم العجيبة في المنهج الإخوانيّ، رغم ما يرونه، بل وما يعترفون به، من خلله وعقمه. وسبحان الله الذي جعل هذا الفيروس الإخواني ابتلاءً لمن هم من الأفاضل ابتداءً!
ثم يأتي السلفيون، وما أدراك ما السلفيونّ، هؤلاء كانوا ممن لا يرى اتخاذ السياسة ابتداءً لا غطاءً ولا غيره، لأنها، في ظلّ الديموقراطية، كفر وشرك. فإذا بهم، بقدرة قادرٍ، يتحولون إلى إتخاذ السياسة غطاءً للدين، فكانت قفزتهم إلى الوراء أبعد مدى من قفزة الإخوان، وكان موقفَهُم أشد نكيراً من موقِفِهم.
والصراع بين الإخوان والسلفيين من جهة، والعلمانية المكشوفة من جهة أخرى، كان إلى أسابيعٍ مضت، صراعاً بحتاً على السلطة السياسية، بإتخاذ نفس الأسلوب الديموقراطيّ العلمانيّ، بلا فرق بينهم وبين العلمانية البحتة المكشوفة. الوسيلة واحدة، الديموقراطية والصناديق، والهدف واحد، الحصول على أكبر عدد من المقاعد، متخذين من الرأي الشركيّ بأن حكم الله سيعلو لموافقة الغالبية على ذلك غطاءً للوصول إلى السلطة.
لكن الأسابيع الماضية قد عكست المعادلة، فاتخذ العلمانيون الخط المنهجيّ الإسلاميّ، من الإصرار على المواجهة وسياسة الحسم العددي، وتنكروا للديموقراطية والصناديق. واتخذ الإخوان والسلفيون منهج الديموقراطية منهجاً أوحداً، وتمسكوا به، وتركوا المواجهة والحسم، مع أنهم الأغلبية. إنتكاسة وخذلان من الله سبحانه لمن ترك منهجه مُتسكعاً يَقتات على موائد السياسة الغربية ومناهجها ووسائلها.
والإسلاميون، من أنصار مذهب الحق، لا أثر لهم ولا تأثير في المعادلة الحالية كما قلنا من قبل. وهم قلة من الدعاة وكثير من أتباعهم، بلا عقد يجمعهم ولا نظام يرتبهم.
قد يقول قائل، فالحزب إذا هو الوعاء الذي يمكن أن يجمع هؤلاء، وأن ما يقوله حازم أبو اسماعيل وغيره له منطق ومأخذ. ونقول لا والله ولكنه قياس الشبه الزائف، الذي لا يصح عند أصحاب العقول المريضة، كما قال إخوة يوسف " قَالُوٓا۟ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌۭ لَّهُۥ مِن قَبْلُ" يوسف 77، فقاسوا قياس شبه سقيمٍ لا يستقيم. فالحزب كيانٌ رسميّ محكومٌ بالقوانين الديموقراطية المرفوضة شرعاً ابتداءً، وإن ألبسها البعض لباس الشورى، تلاعباٍ بالمفاهيم. وهو كيانٌ من كيانات متساوية أمام "القانون" العلمانيّ، تتنافس على عدد "الموافقين" للشرع، وعدد "المخالفين" له. أما التيار الشعبيّ الحركيّ، فهو تنظيمٌ يُقصد به هدفاً محدداً لا علاقة له بديموقراطية، ويجتمع أهله ابتداءً على مفهومٍ واحدٍ، هو، في وضعنا هذا، تطبيق شرع الله. ومصر لم تعرف في تاريخها الحديث معنى "التيار" بشكلٍ واضح.
لو كتب الله لحازم أبو اسماعيل الشفاء من داء الإخوان ومرض الديموقراطية، أو إن كان غيره قادراً على إقامة تنظيمٍ شعبيّ حقّ، لكان في هذا الحلّ لمشكلة الإسلاميين اليوم. لكننا وقعنا بين مطرقة العجز وسِندان الجهل، فلا حول ولا قوة إلا بالله.