الحمد لله الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه سلم
أريد أن أبيّن هنا، قبل أن أمضى في الحديث، أنّ هناك من المسلمين، المجاهدين الصابرين العاملين، ما يفخر به الإسلام، وترتفع به آمال المسلمين. نراه في كلّ مكان، في العراق وسوريا والجزائر وسيناء والشيشان والصومال ومالي وكافة أقطار بلاد المسلمين، تدافعون عن دين الله، ويدفععون حياتهم ثمنا لإيمانهم، صدقوا الله فصدقهم الله، وصحّ فيهم قول المولى جلّ وعلا "مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌۭ صَدَقُوا۟ مَا عَـٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا۟ تَبْدِيلًۭا"الأحزاب 23. هؤلاء رجالٌ قد اقتطعوا أنفسهم من تلك البيئة التي نتحدث عنها هنا في مقالنا. هؤلاء قد خرجوا عن منظومة الفساد والتشويه ليمارسوا أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، ألا وهو الجهاد في سبيله، حقّ الجهاد. لكن الأمر أن، هذه الجماعات المباركة، بما هي عليه الآن، وبحساباتنا الأرضية التي لا نملك إلا سواها إلا ما شاء الله، لن تتمكن من إزالة العدوان الجائر الظالم الكافر الذي تتعرض له بلاد المسلمين في كلّ مكان. قد نوّهنا من قبل أنّ الواقعية هي صفةٌ لازمة لتكامل الشخصية الإسلامية. ومن هذه الواقعية أن نرى العدو على ما هو عليه دون تضخيمٍ أو تصغير. الواقع أنّ هذا العدو، سواءً منهم الصهيو-صليبيين، أو المنافقين من كفرة حكام العرب وملوكهم، قد بيّتوا النية أن لا يتوانوا في القضاء على أية بوادر إسلامية مهما كان الثمن الذي يدفعونه في هذا الصدد. وها هم أمراء الخليج يعادون مصر عداءً سافراً رغم أنهم يتعرضون لهجمة صفوية شرسة قد يحتاجون فيها لمصر دفاعاً عنهم. لكن الصفوية عند هؤلاء أخفّ وطأة من حكم الله السنيّ الشرعيّ. بل هاهم يقدمون الدعم الماديّ لفرنسا الداعرة للقضاء على مسلمي مالي، قاتلهم الله أنيّ يؤفكون.
هذا الجهاد مطلوبٌ مبروكٌ، فهو شوكة في حلوق الطغاة المستبدين، يؤرقهم وينغص عليهم فرح النصر على الإسلام. لكن مسألتنا هنا ليست بصدد شوكة في حلق، بل هي بصدد رصاصة في قلب. نحن نتحث عن دعوة تقضى ابتداءً على مصادر الكفر في بلادنا، ولا علينا أن يكون الكفر في بلاد الغرب، فهذا قدرهم وما خلقوا إلا له. هذا لا يكون إلا بمناهج في غاية التقدم والتخطيط والتكتيك والمثابرة. ولن يكون هذا بخطباء يهزون المنابر، بل يكون بعقولٍ وهِمَم ومقومات شخصية تحيّ موتي النفوس والقلوب والعقول.
وهذه النظرة ليست تشاؤماً، ولا غضّاً من قيمة الجهاد والمجاهدين، وإنما هي تقديرٌ دقيقٌ للمعطيات الحاضرة التي تعمل فيها الدعوة الإسلامية المرتقبة، والعوامل التي يجب أن تأخذها في حسبانها، والشروط التي يجب توافرها لتحقيق مرادها. إن التوكل على الله سبحانه دون أخذ كافة الأسباب المؤدية للنصر، أو حتى جلّها، هو إلى التواكل أقرب، وهو ما يقترب فيه منتسبي أهل السنة مع الصوفية دون قصد. فهؤلاء يدخلون الصحراء دون زادٍ إدعاءً منهم أن الرازق سيرزقهم في البرّ كما يرزقهم في الحضر! وأولئك يقيمون دعوة للتغيير والإنقلاب على العلمانية بعدتها وعتادها دون إعداد الوسائل البشرية والبيئية والمادية الكفيلة بالنصر! كلاهما صوفيّ المنهج، واأسفاه.
ونحن نعلم أنّ هناك من الشخصيات التي ظهرت في قرون الخلف المتأخرة، بل وفي العقود السالفة، ما يعتبرها البعض من فتوحات الإسلام، وأحدثها سيد قطب والمودودي وأسامة بن لادن وبقية أعلام المجاهدين في هذا العصر. لكنّ هذا هو الإستثناء الذي يثبت صحة القاعدة. فإنّ ظهور تلك الشخصيات، متناثرة على خريطة الزمان والمكان، لا يغيّر من حقيقة ما قدّمنا شيئاً، إذ لسنا بصدد مناقشة ظواهر فردية، وإن عظم قدرها، بل نحن بصدد مناقشة ظاهرة إجتماعية تلقي بثقلها على مجتمعً بأكمله. مجتمع فشل في أن يحقق الشروط الخُلقية والمادية التي تكفل له نهضة، لا أقول النهضة. إن أوروبا حين تجردت من ثياب المسيحية البالية، وظهر فيها رجال يقيمون لها منظومة أخلاقية وعقلية، تكون لهم مرجعاً عقدياً بديلاً عن الدين، من أمثال كانْت وديكارت وبيكون وتوماس مور وغيرهم، اتبع أبناؤها هؤلاء الرجال والتزموا بتعاليمهم، وأقاموا صرح حضارتهم المادية عليها. لكننا نحن المسلمين، في المقابل، تخلينا عن كل عقيدة، ونبذنا تعاليم الأفراد الأفذاذ الذين منّ الله بهم علينا، وفقدنا حتى أخلاق الجاهلية الأولى. فالأمر ليس أمر ظهور شخصياتٍ فرادى، بل أمر مجتمع يحتضن ما يقولون، ويأتمر بما يعلمون.
وللحديث بقية إن شاء الله