إزالة الصورة من الطباعة

الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (3)

الحمد لله الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه سلم

انتهينا في المقال الثاني من هذه السلسلة إلى أنّ الشخصية المسلمة، أو الإسلامية إن شئت، لا تتمتع بما يجعلها جديرة بأن تشكل تلك الجماعة التي تقود الأمة، ومن ورائها البشرية، إلى دين الله سبحانه. وما ذلك إلا لتخلف غالب الشروط الموضوعية التي يجب تحققها في تلك الشخصية. وبيّنا أن سبب ذلك هو خراب البيئة التي نشأت فيها تلك الشخصية، وما افتقدته، ولا زالت، تلك البيئة من عوامل ضرورية لصياغة مثل هذه الشخصية. فجاءت الشخصيات الإسلامية الحالية، مشهورها ومغمورها، ناقصة مشوهة، تفتقد إلى العلم إن صح توجهها، وتفتقد إلى الإخلاص إن توفر لديها علم. علمها الشرعيّ منفصل عن الواقع، وواقعها مجردٌ عن العلم الشرعيّ. هي مثالٌ لما أسميناه "عكّ بشري"، يريد أن يتعلق بالإسلام، وهو لا يعرف مقاصده، وإن عرفها نظراً لم يعرف حقيقتها واقعاً.

ثم ضربنا مثالاً من "قيمة العمل" عند المسلم، بل عند الإسلاميّ، ورأينا خراب الفهم الشرعيّ لضرورة الدعوة، وشاهدنا كيف أن الكسل وخيبة الأمل ألقت بالكثير في محاضن الدعوة، لا بسبب إجادتها، بل بسبب العجز عن غيرها.

مثال آخر، أصبح علماً على الشخصية المسلمة، والإسلامية، وهي عدم إحترام الكلمة. وأقصد بذلك أنّك ترى المرء يقول ويقول، بشأن أيّ التزامٍ في أيّ اتجاه، وهو، يشهد الله، لا يقصد إنفاذ كلمة واحدة مما قال! بل إن قيمة ما وعد لا تتعدى قيمة الهواء الذي أطلقه من فِيه وهو يصدر تلك الأصوات التي صاحبت قوله! إنّ البيئة المسلمة قد أقرّت فيما بينها هذه الخصلة البشعة، التي تجعل كلمات المرء لا قيمة لها على أرض الواقع. يَعِدك أحد الناس أن سيلقاك ساعة كذا أو كذا. ثم إذا به إما أن يأتي متأخراً ساعات، أو أن لا يأتي بالمرة، ثم يتصل بك بعد يوم أو يومين ليعتذر، إن كان من أصحاب المروءة! حين وعدك هذا الشخص بالحضور، لم يكن يعرف ما يَعِد به، ولا يقصد أنه سيوفي بعهده. لم يُقَدّر هذا الشخص، حين تفوه بالوعد، أيّ التزامات أخرى قد تمنعه من الوفاء. وهذا يمثل قمة الإنحطاط في تحمل المسؤولية واحترام الذات، بله التنظيم والترتيب، بله فقدان الثقة في النفس، وتعوّد الإخلال بالإلتزامات. والعجب أنك تجد هذا الخلق البشع صفةً متواترة عند الكبير والصغير في بلادنا، الملتحين وغير الملتحين، الشباب والمشايخ، كلهم سواء. هي "ثقافة" العصر، أصبحت جزءاً من تكويننا الخُلُقيّ. وكلمة "الثقافة"culture  تعنى في مفهومها الواسع، طرق التعامل التي ترتضيها وتتصرف بحسبها جماعة بشرية فيما بينها دون أن تقصد إلى ذلك[1].

ثم أمر آخر، وهو ضعف الهمة. ولا أدرى إن كان ذلك الخلق نتيجة للبيئة المريضة أو إنه سبب فيها. لكن هذا الأمر، أمر ضعف الهمة والركون إلى الكسل واستصعاب الواجبات أصبح علماً على شباب هذه الأمة. فأنت ترى كلّ منهم يريد أن يصل في شهورٍ معدودات، إلى ما لا يصل اليه الغير من الجادّين العاملين في عقود متواليات. ترى الرجل يريد أن يمتلك بيتاً وسيارة، ويقضى عطلته، إن كان يعمل أساساً، في أماكن المترفين ومتنزهاتهم، وهو لا يزال حديث النشأة، قليل الخبرة، لم يمارس عملاً إلا بالكاد. أما في وسط الإسلاميين، فإن هذا الخلق أكثر تغوّلاً، وأشد خطراً. فترى الشاب أو الرجل، لم يحظى من العلم إلا قليله، أو حتى ولا بقليله، إذا هو يريد أن يكون شيخاً عالماً يناديه "الإخوة" بالشيخ فلان! وهو لا يصرف وقتاً ولا جهداً في قراءة أو تحصيل، إنما هي وريقات حفظها، لا يعلم ما وراءها، ثم إذا به يدلى بآراءٍ ويفتى بفتاوى في الشرع والواقع، يزيد بها الطين بلّة. وما هذا إلا لضعف همته على التحصيل، وإرادة استباق السنن، وتجاوز حدودها. وهؤلاء لا يعلمون أنهم بهذا يسيئون إلى الدين، ولا يحسنون إلى أنفسهم. إنّ المشيخة ليست اسماً يطلقه الناس على أحدٍ فيكون له حقاً ويقيم لنفسه به وزناً. فالشيخ لغة هو من تجاوز الستين من العمر، واصطلاحاً هو من قدّم للدين علماً، كانت له به سابقة فيه، فاحترمه الناس لعلمه، حين يُعرف به، كما يُحترم من تجاوز الستين، فصار شيخاً وهو دون ذلك من العمر. لكن ضعف الهمة واستباق السنة أخرج تلك الأجيال المريضة التي تعبث على "الفيس بوك" فساداً، وإذا بآلاف من "المشايخ" مصطفين على "الكيبورد"، يهنؤون أنفسهم بالمشيخة! ويتصدّرون مشهداً هم أنفسهم رواده وجمهوره. هذا نوع من التغييب العقليّ الذي ضُرِبَت به العقلية الإسلامية الحاضرة، نتيجة الإستشراف إلى مجدٍ راح وانقضى، ثم ضعفت الهمة عن أنْ تعيده حقيقة لا خيالاً.

ثم آخر، وهو الحياة في الوهم والإنقطاع عن الواقع. الواقعية هي أساس ركينٌ من أركان البيئة الصالحة التي يسعى أبناؤها إلى النهضة والتقدم، والوهم ليس إلا مرضاً عضالاً، يصيب الضعفاء فيدفع بهم إلى أحلام يقظة لا حقيقة لها. بلاد الإسلام يغزوها اليوم كل محقّرٍ من الصليبيين. فلسطين يحتلها كلاب الأرض وقردتها وخنازيرها. العراق يتنافس عليها الرافضة والصليبيون. العلمانية تضرب بجذورها في الأرض العربية المسلمة. حكام العرب وملوكها هم أخبث الخبائث في تاريخنا كله، خاصة من يسبحون في بحار النفط، ينفقون أموال الله في ملاهيهم ويدفعون بها إلى الصليبيينن يختزنونها لهم، إلى حين. جيوش العرب تدك شعوبها كما في سوريا، وفي سيناء مصر. هذا هو الواقع. هذا هو ما صرنا اليه. فلا يتوهمن أحدٌ أنّ الأمر أمر إعلان دولة خلافة عن طريق نصرة أحد من هؤلاء الشياطين، كما يتوهم غائبي العقل من أمثال منتسبي حزب التحرير. لقد كانت الصدمة من أعتى ما يكون حتى أذهلت العقلاء عن الحقيقة، والجأت الضعاف إلى الوهم والحلم.

ثم إنّ آفة التقدم والرقيّ الإستهانة بالوقت وإضاعته. وهذه الآفة مما يسرى في كيان المصريين اليوم ويجرى منهم مجرى الدم في العروق. فإن وحدة الزمن التي أصبح الناس يتعاملون بها لم تعد الساعة، بل صارت الأسبوع، إذ قد انحطّ قدر الزمن كما انحطّ قدر العملة، فصار جنيه اليوم هو قرش الأمس، وصار أسبوع اليوم هو ساعة الأمس. تجد أنّ الكلمة التي تسبق على لسان أحدهم "الأسبوع القادم إن شاء الله"، وكأنّ الأيام السبعة حتى ذلك الأسبوع هي من فضول الزمان، لا قيمة لها ولا لزوم. ويشهد الله أنه ليس فيها، عادة، مانعٌ يمنع من إنهاء المهام الموكولة، ولكنه حسّ البطء والتراخي والكسل واللامبالاة وضعف الهمة قد اجتمعت كلها لتعطي للزمن هذا الحسّ المتراخى، الذى يرى أن تأجيل عمل اليوم إلى الغد، بل إلى غداة بعد الغد، أمرٌ طبيعيّ عاديّ لم يعد مستنكراً حتى عند كبار المشايخ ممن ينتسبون إلى أهل السنة! هذا الخلق هو خلُقٌ حالقٌ لكلِ محاولة للتقدم وحيازة القوة التي يريدها الله سبحانه للجماعة المسلمة التي سيكتب لها تتسلم زمام الأمر.

إن النوعيات البشرية التي تمثل الدعوة اليوم تعيش في عالم خاص بها. وهي تعيش فيه بنفس آفات العالم العاديّ، إذ هي خريجة نفس البيئة. وأضرب مثالاً من واقع شخصي يبينّ طرفاً مما أقصد. فقد عرفت منذ عقودٍ عدة بعض الدعاة من دكاترة الشريعة، ممن اشتهر اسمهم وارتفع قدرهم بين الاسلاميين،. وصارت لهم مواقع تتحدث عنها الشباب ويرجعون لها في كثير من أمور العلم. وكانت علاقتنا أوطد من علاقة الإخوة الأشقاء. ويشهد الله إني كنت لهم خير عون في ملمات نزلت بهم في حينها. ثم وقعت كارثة ابني شريف، فكّ الله أسره، وإذا بهؤلاء ينقطعون عنى كلّ الإنقطاع، لا يتصلون ولا يسألون، بل يتبرؤون من معرفتي، خوفاً ورهبة من أن تصيبهم دائرة من الصليبيين. ولولا بقية من حِفْظِ العشرة لسَمّيتهم. فهل لهذا الخلق أيّ علاقة بما يجب أن يكون عليه المسلم، بل حتى بما كان عليه كفار قريشٍ من نصرة المظلوم، ووصل المكلوم؟ أبهذا الجيل من الدعاة الجبناء يمكن أن تقوم أمة أو تنهض حضارة؟ هذا هو نتاج البيئة التي أتحدث الي قرائنا عنها. هذا هو خِراجُها ونتاجُ زرعِها.

البيئة التي يسعى الدعاة القادرون إلى استصلاحها اليوم، بيئة قد مُلِئَت بخَشاشٍ لا يسمن ولا يغنى من جوع. هذه الثقافة المريضة التي انتشرت بيننا هي ما يجعل الإصلاح عسيراً. فما أسهل إدعاء الإصلاح، وما أصعب تحقيقه. 

وللحديث بقية إن شاء الله


[1] المعنى الأفضل الذي وجدته في أبحاث الغرب في معنى الكلمة هي ما أوردته هنا وترجمته

“Without knowing it, People Behave alike”.