إزالة الصورة من الطباعة

الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (2)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

كتبنا في مقال سابقٍ، في الأسابيع الأولى للثورة، أنْ يجب أن تُحلّ جماعة الإخوان، إذ إن وجودها في ظل دستورٍ كان مأمولاً أن يكون إسلامياً وقتها، وهو ما لم يتحقق على أرض الواقع، يُعتبر تجنياً على السلطة الحاكمة، وفصلاً بين أبناء الشعب الواحد، إلى إخوانيّ يدعى الإسلام لنفسه، وعاميّ مسلمٌ بطبيعته. كتبت هذا حين كان الأمل موجوداً ومعقوداً أن تتغير الحالة الإسلامية للدستور. ولكن هذا لم يحدث. وظلّ الدستور يشتمل على عوار شركيّ، يبرّره دين الإخوان المتنازل على الدوام.

 ومن هنا، فإننا وجدنا أنفسنا نعود لنقطة الصفر من جديد. نعود إلى حيث بدأ سيد قطب رحمه الله تعالى، منذ نصف قرن من الزمان، في الخمسينيات والستينيات، يبشّر بجماعة سنية سلفية أصيلة، تعيد للإسلام حقيقته، وتنزع عنه تلك الحُلِىّ والبَراقع المُصطنعة، التي يقصد بها أهلها أن يجعلوه مقبولاً لدى كفار مصر، وكفار العصر في كلّ مكان على الأرض.

من هنا عدنا نبشّر، مرة أخرى بذات الجماعة. مع فرق واحدٍ، هو إننا لا نرى أن البيئة المصرية، بل والإسلامية بشكلٍ عامٍ، يمكن أن تكون حاضنة لهذه الجماعة بتركيبتها الحالية. فمحاولة إيجاد هذه الجماعة، بالأوصاف التي يجب أن تكون عليها، هو ضربٌ من المستحيل اليوم، في تقديرنا على الأقل. ذلك للطبيعة المنحدرة الساقطة للإنسان المسلم في عصرنا الحاضر، وطبيعة الإنسان المسلم الملتزم التي هي ذاتها منحوتة من تلك الطبيعة. وحصاد الزارع موقوفاً على نوع البذور التي يبذرها. ولم نر يوماً زارع الفول والثوم، يجنى العِنب والقضب!

إذن، نعود مرة أخرى إلى البيئة التي نتصور أنْ تكون حاضنة لمن يمكن أن يكون مؤهلاً لمثل تلك الجماعة الموعودة. هذه البيئة، هي على العكس من كلّ ما نراه حولنا اليوم، سواءً في البيئة المصرية العامة، أو في أوساط من ينتسبون لعملٍ إسلاميّ، في غالب أمرهم.

وحتى نتفهم تلك البيئة الوسيطة، التي يمكن أن يتمخض عنها الجمع الكريم الذي يقيم الأمة من وهدتها ويقودها للنصر ، يجب أن ندرك أن الإنهيار الخلقي هو تلك السمة العامة التي ضربت سائر الحضارات وأخرجتها عن مسار التاريخ، وألقت بها وراءه ظهريا. ونظرة إلى تاريخ الدولة الرومانية يبين المقصود، حيث انتشر البغاء والظلم والفواحش والخنوثة والكذب، وساعد على ذلك موقف الكنيسة المخزى من استغلالها للوازغ الدينيّ، بدلا من تقويمه. بل ونظرة إلى الدولة الإسلامية ذاتها، يشهد على ما ذكرنا، حيث انحدت البيئة الإخلاقية منذ العهد العباسيّ الأول، شيئا فشيئاً، حتى انهارت هذه البيئة عشية غزو التتار لبغداد. وانتشرت الفواحش وضيّعت الأمانة وانقلب المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وشاع الكذب والظلم , ولعبت الصوفية دورها الخبيث في إشاعة الكسل والتواكل.

ليكن معلوما أنّ الإحياء الإسلاميّ له شروط وعليه موانع. أما الشروط فهي كثيرة من أهمها أن يكون أصحاب الإحياء هم أنفسهم أحياء، يعيشون الإسلام كاملاً، من كلّ ناحية، لا باللحية والبرقع والحوقلة والقلقلة. يحيونه جدية، ورؤية وتصرف وخلق وعلما ونشاطا، لا مؤتمراتٍ وحلقاتٍ وخطب ومواعظ. أما موانعه فهي الإستمرار على ذلك الخلق المتدني والفهم المنقوص لدين الله ولسننه العاملة في الأرض. ونبيّن هذه الجملة ما استطعنا في الجمل التالية.

خذ مثلاً، قيمة العمل. الإنسان المصريّ، المسلمون منهم، والإسلاميون خاصة، قد تراجعت لديهم قيمة العمل حتى أصبح عبئاً يتهرب منه المرء لا واجباً تكليفياً يسعى لأدائه. وقيمة العمل تأتي من حفظ ضرورات النفس والمال والنسل، ثلاثتها جميعاً. فهي إذن قيمة لها مكانتها في الشرع. وحين أقول العمل، أقصد به العمل المنتج الذي يؤثر في القوة الإقتصادية للأمة، من بيعٍ وشراء وزراعة وصناعة وعيرها من أبواب النشاط الإنسانيّ. لقد رَكِن أبناء الشعب المصري، ولا أُبعد إن قلت الشعوب الإسلامية كلها، إلى "الرضا"، وخلطوا مفهومه باليأس، واختاروا وسيلة "أقصر الطرق" إلى الربح، يعاندون بها سنن الله في الأرض. وشابههم في هذا إخوانهم من الإسلاميين، لكن بحجة أخرى وهي "الإنخراط في العمل الإسلاميّ". فتجد أحدهم طبيباً يسرح في الشوارع يبيع الكتب والشرائط "الإسلامية". وتجد جلّهم يركن إلى الخلود إلى الأرض، متعللاً بشتى التعلات، مثل كفر أجهزة الدولة، أو احتياج الناس إلى دعاة، وهو لا يحسن الكتابة إن اختبرته، ولا يجمل من قشور العلم الشرعيّ إلا أقلها!

هذا الخلل الأصيل في العقلية المصرية الحاضرة، إسلامية أو غير إسلامية، هو من أكبر الموانع التي تقف في سبيل تحقيق معنى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل". فالقوة غير رباط الخيل. رباط الخيل هو العتاد بشتى أنواعه، والقوة هي القوة البشرية والمالية والعلمية.

إنّ ظاهرة تكفّف الإسلاميين، واعتيادهم عدم العمل، واعتمادهم على مال الدعوة يعيشون على كفافه، ليست من دين الله، ليست من أصول الدعوة، ليست من وسائل النصر. وقد نجحت قيادات الإخوان في اجتياز هذه العقبة، وإن كان ذلك على حساب عقيدتهم البدعية، إلا إنها أعطت لهم زخماً ليس لأي جماعة أخرى عاملة، بلا خلاف على ذلك.

إن الحرص على العمل المنتج، وعدم التأفف من ممارسته أيّاً كان هو مفتاح من مفاتيح القوة، يجب على دعاة البيئة الإسلامية الصحية أن ينتبهوا له، ويعملوا عليه. لقد رأينا في الغرب معنى قيمة المل متجلية في أحسن صورها البشرية، إذ لا يأنف أحد أن يعمل عملاً يدوياً ليتكسب رزقه، أو لزيادة دخله، وهو محافظٌ على احترامه لنفسه ومكانته، فالبيئة كلها تقدّر قيمة العمل، ولا تزن المرء "بوظيفته" أو "رتبته". هذا ما يجب أن يكون درساً للمسلمين اليوم في حيازة القوة بمعناها العام الشامل.

ثم إلى مثالٍ آخر إن شاء الله.