الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
خلصت في مقال سابق إلى أن "قيام جماعة إسلامية تعيد الإسلام الى مسرح الأحداث ليس ضرباً من المستحيل، لكنه يحتاج الى ظروف تاريخية مناسبة ومواتية، لا أظن أنّ حاضرنا اليوم يُظِلّها. بل أظن أن دورنا اليوم لن يتعدى الإعداد لها، ومحاولة تهيئة الفرصة لِنَبْتَتَها أن تنمو وتُثمر في المُستقبل الأقرب، لا الأبعد بإذن الله". وقد وعدنا أن نعود لهذه الجملة لنبيّن ما قصدنا اليه.
بعد إعدام سيد قطب رحمه الله وتقبله عنده في الشهداء، في الستينيات، اتخذت فكرة الجماعة الإسلامية التي تعمل على تغيير نظام الحكم، بعداً لم يكن موجوداً من قبل، وهو البعد العقديّ الذي لم يكن مطروحا قبلها، خاصة في فكر الجماعة الكبرى في ذلك الوقت، ونعنى بها جماعة الإخوان. ذلك أنّ جماعة الإخوان كانت جماعة إصلاحية ابتداءً، لا تلتزم بإتجاه عقديّ محدد، طالما يجتمع أفرادها على التلفظ بالشهادة. ومن ثم، أعطى هذا البعد زخماً كبيراً للحركات الوليدة، وإن صاحب ذلك قصورٌ معيب، بل مهلكٌ في بعض الأحيان، نتيجة ضعف الرؤية الواقعية، وخلل الفهم الشرعيّ على السواء.
أتذكّر في السبعينيات من القرن الماضى، حين كانت الجماعات الإسلامية تنشأ وتختفي في أسابيع أو أقل. كانت تلك "تجمعاتٍ" أكثر منها جماعات. وكانت فكرة التغيير عندها مشوّشة للغاية، وكان رصيد منتسبيها لا يزيد على الإخلاص للفكرة الإسلامية، دون تحقيق لأبعادها، ولا دراية بالواقع وارتباطه بالتاريخ الضارب في عمق الوجود الإسلاميّ على أرضنا. وكان من نتيجة ذلك أنْ فشلت تلك الجماعات في أن تكتسب أرضاً للإستمرار، ومن ثم للتأثير. ولم تترك إلا بَصماتٍ، ضَررها أكبر من نفعها، كما حدث من الجماعة الإسلامية المتخاذلة في أوائل الثمانينيات.
يجب أن يكون مفهوماً أنّ الغَرض من أي تجمع إسلاميّ ليس مجرد الإنتساب "لجماعة"، وإرضاء ذلك الوازع الخفيّ، الذي هو أقرب للهاجس منه للوازع، بل الغرض هو تحقيق هدفٍ لا يمكن تحقيقه بالعمل الفرديّ. ومن ثمّ فإنّ ذلك يَستدعى أوصاف معينة في ذلك التجمّع، لا يصلح إلا إنْ اجتمعَت فيه، أو أكثرها.
كما إنه يجب أن يكون مفهوماً أنّ هذا التجمّع لنْ، أكرّر وأقرّر، لن ينشأ إلّا في مَحضن بيئة معينة تُعين على وجوده، وهذه هي البيئة التي نتحدث عنها وعن أوصافها.
هناك وهمٌ عند الكثير من المصريين البسطاء، الذين لا يزالون يرون الإسلام هو الإخوان، وأنّ الإخوان هم المسلمون. هذا الوهم هو العائق الرئيس أمام الإسلام السنيّ الصحيح أن يعود ويَحكُم. وهي مسألة ليست ببساطة الكلمات التي تعبر عنها. بل هي مسألة إقامة الدعوة من رماد، إذ البعث من الجهل كالبعث من الموت، وصدق أمير الشعراء
والجهل موتٌ فإن أوتيت معجزة فابعث من الجهل أو فابعث من الرَجمِ (القبر)
ما يجب أن تبدأ به الدعوة الآن، هو نشر مفهوم التوحيد، بشكلٍ واسعٍ واضحٍ صريح، لا لبس فيه. يجب أن تتحرر الدعوة من فكرة إقامة جماعة بالمفهوم التقليلديّ، إذ لا سبب يدعو لهذا اليوم. بل الأولى هو العمل الدعويّ الخيريّ، من خلال جمعياتٍ تقوم بنشر العلم، وتقديم الخدمات العينية للمواطن، والعمل على الإرتقاء بقدراته التي أصبحت تحت الصفر في كل مجال. وقد رأيت بعينيّ بعض عيناتٍ من خطِ بعض المسلمين من خريجي الجامعات، ولا ابالغ إن قلت إنها أدني مما كان يكتب تلميذ الثالثة الإبتدائي في زماننا السابق! هكذا دمّر مبارك أعوانه الجيل كاملاً.
ثم إنّ المنظومة الأخلاقية التي تقوم عليها خلايا المجتمع اليوم، هي منظومة خربة لا تصلح أن ينشأ منها جماعة تقود، أو تجمعٌ يسود. لا أقول بسبب الفواحش الخلفية التي يروج لها الإعلام الكافر فقط، بل أقول تلك المنظومة الإخلاقية التي تسود بين الناس، حتى بين الإسلاميين أنفسهم. فكثير منهم، كغالب أبناء الشعب، كسالى، متواكلون، لا يحفظون موعداً، ولا يحافظون على كلمة، متعالمون بلا علم، لا يجيدون صنعة يصنعونها، ولا يهتمون بجودة ما يفعلون عامة.
ولا أريد والله هنا أن أثبط عزما، بل أريد أن أواجه واقعاً قد تجاهلناه كثيراً، ثم ظللنا نتسائل، لم يتأخر النصر؟ هذا هو السبب. أن العجينة التي نريد أن نخبز منها غير صالحة، قد ضرب فيها العفن من حيث لا يدرى خَبّازُها.
الواجب على الدعاة بحقٍ اليوم أن يركزوا جهدهم على إحياء الخلق الإسلاميّ، الخلق الأساسيّ، الخلق الذي كانت تتمتع به العرب، حين اختارها الله لتكون محضن دعوته. الخلق الذي بدونه لا يكون الرجل رجلاً، مسلماً أو جاهلياً. لقد إختار الله بيئة العرب في ذاك الوقت مع كلّ ما كان فيهم من عاداتٍ جاهلية، كالأنكحة الفاسدة، والمفاهيم الخائبة، لأنّ مجموعة الأخلاق الأساسية التي يجب أن يتمتع بها البشر حين يريدون الفلاح، كانت متوفرة فيهم على أكمل وجه، من كرمٍ وشهامة ورجولة وحفظ للعهد ونصرة للضعيف، ونخوة، وحياء، وإقدام في روية، وإحجامٍ في شجاعة. تلك هي منظومة الأخلاق الأساسية التي نفتقدها اليوم في هذه البيئة التي نريد أن ننشأ منها "جماعة"، تقوم بالحق وتهدى إلى الصدق وتصل إلى النصر... وهيهات هيهات.
إن تكوين جماعة من وسط هذا "العكّ" البشريّ، وسامحوني في التعبير، لن يجدى نفعاً، كما رأينا في العقود الماضية كلها. إن الجهد اليوم يجب أن ينصرف كلية إلى الإرتفاع بمستوى البيئة الخلقية التي يعيشها الدعاة أنفسهم، ومن حولهم، بنشر الوعي الخلقيّ جنبا لجنبٍ مع فكرة التوحيد السويّ. من هذا المزيج، يمكن أن نبدأ. يمكن أن تتحسن البيئة، وتصلح الأرض لزراعة بذور الجماعة التي يمكن أن يستخلفها الله في الأرض.
أما الآن، فهو حرث في الماء، أو زرع في الهواء.
وللحديث بقية .. إن شاء الله