الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أوضَحنا في المَقالٍ السابقٍ صلة مفهوم "الدين" في الإسلام بدولة "لا إله إلا الله"، وبيّنا أنّ الدين هو ذلك الإطار العام الشامل الذي يحتوى على نظامٍ عامٍ يحتوى الدنيا والآخرة، وينظم علاقة الناس بالله، وعلاقة بعضهم ببعض، بما يضمن لهم خيريّ الدنيا والآخرة. وسنشرع هنا في بيان موقع "الألوهية" ومفهومها في منظومة "الدين"، وما تعنيه بالنسبة للمُسلم في حياته وبعد مماته.
دولة "لا إله إلا الله" هي الدولة التي يحكمها شرع الله، وتحيا بقوانينه، وتتّبع أوامره ونواهيه، وتتخذه حاكماً أعلى في كافة شؤون حياة أبنائها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما تجعل هديه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم مصدرا وحيداً في منظومتها الخُلُقِية والتّعليمية وعلاقاتها بأقلياتها.
وهذا التصور ليس وليداً لأيديولوجية حديثة، أو ثيوقراطية كَنَسيّة قديمة، بل هو وليد التصور الإسلاميّ الذي جاء به الإسلام، صريحاً جلياً، كبيراً كبر الكون، واضحاً وضوح الشمس، لا يرائي فيه إلا ملحدٌ معاند، أو عميلٌ منافق.
وقد أوضح الله سبحانه هذا في كتابه الكريم، كلمة الله الباقية في عقب بنى آدم، الكتاب الوحيد في كوننا الذي يصحّ نسبة كلّ ما فيه لله سبحانه دون تحريف أو تبديل.
ينتتناول كلمة "أَلِهَ" في معناها اللغويّ الذي يرسم تصورات العرب عنها في زمن الوحي، ثم نرى ما تدلّ عليه الآيات الكريمة مما يثبت ويركّز هذه المعاني كلها، ويجعلها في الصميم من مفهوم التوحيد.
التحقيق اللغويّ:
مادة كلمة (الإله): الهمزة واللام والهاء، وقد جاء في معاجم اللغة من هذه المادة ما يأتي بيانه فيما يلي:([1])
[ألهتُ إلى فلان]: سكنت إليه
[ألهَ الرجل يأله]: إذا فزغ من أمرٍ نزل به فألهه أي أجاره
[ألِه الرجلُ إلى الرجل]: اتجه إليه لشدة شوقه إليه.
[اله الفصيل إلى أمه]: إذا وَلَع بأمّه
[أله الإهة والُوهَة]: أي عَبَــدَ.
]لاه يليه ليهاً]: أي احتجب فالإله مشتق منها لأنه محتجب بطبيعته.
مما سبق نستشف أن معاني كلمة الإله عند العرب تتضمن ما يلى:
- ما ينشأ في ذهن الإنسان من الحافز على العبادة والتألّه يكون من احتياج المرء لها وافتقارها اليها
- وكذلك أن اعتقاد المرء أن أحداً ما قاض للحاجات ومجيب للدعوات، يستلزم أن يعده أعلى منه منزلة وأسمى مكانة، وألا يعترف بعلوه في المنزلة فحسب، بل أن يعترف كذلك بعلوه وغلبته في القوة والأيد.
- ومن الحق كذلك أن ما تقضى به حاجات المرء غالباً حسب قانون الأسباب والمسببات في هذه الدنيا، ويقع جل عمله في قضاء الحاجات تحت سمع المرء وبصره، وفي حدود لا تخرج من دائرة علمه، لا ينشئ في نفس المرء شيئاً من النزوع إلى عبادته أبداً، خذ لذلك مثلاً أن رجلاً يحتاج إلى مال ينفقه في بعض حاجته، فيأتي رجلاً آخر يطلب منه عملاً أو وظيفة فيجيبه الرجل إلى طلبه ويقلده عملاً، ثم يأجره على عمله، فإن الرجل لا يخطر له ببال أصلاً – فضلاً عن أن يعتقد – أن الرجل يستحق العبادة من قبله، لما علم بل رأى بأمّ عينه كل المنهاج الذي بلغ به غايته وعرف الطريقة التي اتخذها الرجل لقضاء حاجته.
- ورابع الأربعة أنه من الأمور الطبيعية التي لا مندوحة عنها أن يتجه الإنسان في شوق وولع إلى من يظن فيه أنه قادر على أن يقضي حاجته إذا احتاج، وعلى أن يؤويه إذا نابته النوائب، ويهدئ أعصابه عند القلق.
فتبين من ذلك كله أن التصورات التي قد أطلقت من أجلها كلمة (الإله) على المعبود هي: قضاء الحاجة والإجارة والتهدئة والتعالي والهيمنة وتملك القوى التي يرجى بها أن يكون المعبود قاضياً للحاجات مجيراً في النوازل وأن يكون متوارياً عن الأنظار يكاد يكون سرّاً من الأسرار لا يدركه الناس، وأن يفزع إليه الإنسان ويولع به.
معنى الألوهية في القرآن:
ويجدر بنا بعد هذا التحقيق اللغوي أن ننظر ماذا كانت تصورّات العرب والأمم القديمة في باب الألوهية التي جاء القرآن بإبطالها.
يقول سبحانه وتعالى:
(وَٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةًۭ لِّيَكُونُوا۟ لَهُمْ عِزًّۭا) (مريم:81)
(وَٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةًۭ لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ) (يس: 74)
يتبين من هاتين الآيتين الكريمتين أن الذين كان يحسبهم أهل الجاهلية آلهة لأنفسهم كانوا يظنون بهم أنهم أولياؤهم وحماتهم في النوائب والشدائد وأنهم يكونون بمأمن من الخوف والنقض إذا احتموا بجوارهم.
ثم تبيّن الآيات التاليات معنى يتناسق مع كون الإله هو الذي يفزع المرء له في النوازل بالدعاء، كما في الفقرة 2 السابقة:
(فَمَآ أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ ٱلَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍۢ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ ربك) (هود: 101)
(وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْـًۭٔا وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَٰتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍۢ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
إلهُكم إلهٌ واحدٌ) (النحل: 20-22)
(وَلَا تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ ۘ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُۥ ۚ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ([2])) (القصص: 88)
(وَمَا يَتَّبِعُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُرَكَآءَ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (يونس: 66)
وتتجلى من هذه الآيات بضعة أمور:
أحدها أن الذين كان أهل الجاهلية يتخذونهم آلهة لهم كانوا يدعونهم عند الشدائد ويستغيثون بهم.
الثاني: أن آلهتهم أولئك لم يكونوا من الجن أو الملائكة أو الأصنام فحسب، بل كانوا كذلك أفراداً من البشر قد ماتوا من قبل، كما يدل عليه قوله تعالى: "أمواتٌ غير أحياء وما يشعرون أيان يُبعثون" دلالة واضحة.
الثالث: أنهم كانوا يزعمون أن آلهتهم هذه يسمعون دعاءهم ويقدرون على نصرهم.
"ولابد للقارئ في هذا المقام من أن يكون على ذكر من مفهوم الدعاء، ومن وضعية النصرة التي يرجوها الإنسان من الإله فالمرء إذا كان أصابه العطش مثلاً فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء أو إذا أصيب بمرض فدعا الطبيب لمداواته، ولا يصحّ أن يطلق على طلب الرجل للخادم أو للطبيب حكم "الدعاء" وكذلك ليس من معناه أن الرجل قد اتخذ الخادم أو الطبيب إلهاً له. وذلك أن كل ما فعله الرجل جار على قانون العلل والأسباب ولا يخرج عن دائرة حكمه. ولكنه إذا استغاث بولي أو وثن – وقد أجهده العطش أو المرض- بدلاً من أن يدعو الخادم أو الطبيب، فلا شك أنه دعاه لتفريج الكربة واتخذه إلهاً. فإنه دعا ولياً قد ثوى في قبر يبعد عنه بمئات من الأميال، فكأني له يراه سميعاً بصيراً ويزعم أن له نوعاً من السلطة على عالم الأسباب مما يجعله قادراً على أن يقوم بإبلاغه الماء أو شفائه من المرض، وكذلك إذا دعا وثناً في مثل هذه الحال يلتمس منه الماء أو الشفاء، فكأنه يعتقد أن الوثن حكمه نافذ على الماء أو الصحة أو المرض، مما يقدر به أن يتصرف في الأسباب لقضاء حاجته تصرفاً غيبياً خارجاً عن قوانين الطبيعة".
ثم دعونا ننظر إلى معنى "الإله" في الآيات التالية:
(ٱتَّخَذُوٓا۟ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَابًۭا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوٓا۟ إِلَّا لِيَعْبُدُوٓا۟ إِلَـٰهًۭا وَٰحِدًۭا ۖ لَّآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَـٰنَهُۥ عَمَّا يُشْرِكُون" (التوبة: 31)
(أَرَءَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) (الفرقان: 43)
(وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍۢ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ) (الأنعام: 137)
(أَمْ لَهُمْ شُرَكَـٰٓؤُا۟ شَرَعُوا۟ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ ۚ) (الشورى: 21)
"وفي الآيات يقف المتأمل على معنى آخر لكلمة (الإله) يختلف كل الاختلاف عن كل ما تقدم ذكره من معانيها، فليس ههنا شيء من تصور السلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة، فالذي اتّخذ إلهاً هو إما واحد من البشر أو نفس الإنسان نفسه، ولم يتخذ ذلك إلهاً من حيث أن الناس يدعونه أو يعتقدون فيه أنه يضرهم وينفعهم، أو أنه يستجار به، بل قد اتخذوه إلهاً من حيث تلقوا أمره شرعاً لهم، وائتمروا بأمره وانتهوا عما نهى عنه، واتبعوه فيما حلله وحرمه، وزعموا ان له الحق في أن يأمر وينهى بنفسه، وليس فوقه سلطة قاهرة يحتاج إلى الرجوع والاستناد إليها. فالآية الأولى تبين لنا كيف اتخذت اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أرباباً وآلهة من دون الله، كما بين ذلك الحديث النبوي الشريف فيما رواه الإمام الترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه "أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقه صليب من ذهب وهو يقرأ هذه الآية، قال، فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم".
ومن ثمّ، يثبت هذا القدر من الذكر الحكيم أمر رابع في هذه المنظومة، أنهم كانوا من البشر الأحياء كذلك، ليس من الموتى فقط، كنا قد يتوهم البعض.
"إن جميع ما تقدم ذكره من المعاني المختلفة لكلمة (الإله) يوجد فيما بينها ارتباط منطقي لا يخفى على المتأمل المستبصر. فالذي يتخذ كائناً ما ولياً له ونصيراً وكاشفاً عنه السوء، وقاضياً لحاجته ومستجيباً لدعائه وقادراً على أن ينفعه ويضره، كل ذلك بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية، يكون السبب لاعتقاده ذلك هو ظَنه فيه أن له نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم. وكذلك من يخاف أحداً ويتقيه ويرى أن سخطه يجر عليه الضرر ومرضاته تجلب له المنفعة، لا يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إلا ما يكون في ذهنه من تصوّر أن له نوعاً من السلطة على هذا الكون. ثم أن الذي يدعو غير الله ويفزع إليه في حاجاته بعد إيمانه بالله العلي الأعلى، فلا يبعثه على ذلك إلا اعتقاده فيه أن له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الألوهية. وعلى غرار ذلك من يتخذ حكم أحد من دون الله قانوناً ويتلقى أوامره ونواهيه شريعة متبعة فإنه أيضاً يعترف بسلطته القاهرة.
فخلاصة القول أن أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة سواء أكان يعتقدها الناس من حيث أن حكمها على هذا العالم حكم مهيمن على قوانين الطبيعة، أو من حيث أن الإنسان في حياته الدنيا مُطيع لأمرها وتابع لإرشادها، وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والإذعان".
ملاك الأمر إذن في باب الألوهية هي السلطة، السلطة سواءً كانت من الغيب المكنون، أو من الحاضر المشهود.
نتبيّن من هذا الإيضاح أنّ تحقيق معنى "الألوهية"، كما رسمها القرآن مستعملاً في ذلك الفهم العربيّ الصيل للكلمة، وصرفها لله وحده دون شركاء، يقوم في شقّ أصيل من جوانبه، وهو شقّ السلطة وإسناد الأمر اليه سبحانه، على إقامة دولة "لا إله إلا الله"، والتي دونها يكون كلّ دولة عداها، وكلّ مرجعية سواها، هي مرجعية شركيةٌ، والتوحيد لا يحتمل شركاً، بل يسقط بتعدد الآلهة، سواءً آلهة يدعوهم المرء رغباً ورهباً، أو تقرباً وتزلفاً، أو طاعة وإتباعاً.
وللحديث بقية إن شاء الله..
([1]) انظر تفسير ابن كثير 1/19-20، وتفسير النيسابوري بحاشية تفسير الطبري 1-65 – 66.
([2]) مما ينبغي أن يلاحظ في هذا المقام أن كلمة (الإله) جاء استعمالها في القرآن بمعنيين اثنين، أحدهما المعبود الذي يعبده الناس في الواقع، حقاً كان ذلك المعبود أم باطلاً، لا عبرة بذلك، وثانيهما المعبود الذي يستحق في حقيقة الأمر أن يعبد. وفي هذه الآية قد استعملت كلمة (الإله) في الموضعين منها بهذين المعنيين المختلفين.