إزالة الصورة من الطباعة

كمال حبيب .. وجماعة التراجع!

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

بعد سقطة صديقه ورفيقه جمال سلطان، في مقاله الذي كتبنا عنه منذ أيام[1]، ظهر كمال حبيب، "المفكر" الإسلاميّ، في مقابلة على الجزيرة مباشر، منذ أيامٍ قليلة، في ثوب العالم الباحث الذي ينفصل عن الواقع، وينأى بنفسه عن الأحداث، ليكون علمانيّ التحليل، لا دين لتحليلاته، ولا ظاهر لإنتمائه، بل هو على نهج طه حسين الأدبيّ، في السياسة، وذلك في حديث على الهواء، تناول قضية مدينة نصر وما أسماه جهاز أمن الدولة الإخوانية، المعروف بجهاز "أمن الدولة"، قضية "خلية مدينة نصر"، والذي ألقى القبض فيها على أبرياء مثل الشيخ عادل شحتو، وعلى ضابط جيش أراد أن يسافر إلى سوريا لدعم المقاومة، وانتهى الأمرُ إلى حيازتهم بعض الكتب[2]! وعن التيار الذي أطلق عليه أمن الدولة "السلفية الجهادية".

بالطبع فإن الأخ كمال، صال وجال في مجال تحليل الحركات الإسلامية، وما كانت عليه وما آلت اليه، مما يحمل بعض الحق، مُغلفاً بكثيرٍ من الباطل. لكن ليست هذه قضية هذا المقال، بل هي قضية التخاذل الذي ضرب تسعة وتسعين بالمائة من الذين عهدناهم ينتمون للتيار الإسلاميّ.

بدلاً من أن يدافع الرجل عن هؤلاء المظلومين، ويطالب بأن تَتم التحقيقات أولاً، وأن يتم إخراج الأحراز، قبل أن تصبغ وسائل الإعلام المجرمة، التي تستضيفه كثيراً! إسم الإرهاب وصفة الخلايا، إذا به جالس لا يدفعها، بل يأسف لمثل هذه الأحداث، كما أسف من قبل صديقه ورفيقه جمال سلطان، وكأنهم لا يعرفون أمن الدولة وتلفيقاتها، وإذا به يتحدث عنها كأنها حقٌ مثل ما ينطق، وكأن هؤلاء المناكيد من الضباط تغيّروا أو استبدلوا!

ثم يتفلسف كمال حبيب، فيحاول أن يثبت عليهم إسم "السلفية الجهادية"، رغم إنكارهم لها كما قال الشيخ داود خيرت الداعية الإسلاميّ، بأن قرّر، مخطئاً، أنّ الإسم إذا تداولته الناس صار عَلَماً مقبولاً! وهي فكرة غوغائية باطلة، فإن أنبياء الله قد شاع في أوساط أقوامهم أنهم "مجانين" أو "سحرة"، فهل يا ترى يصح أن يُطلق هذا الإسم عليهم، حتى في عهدهم وبين قومهم، لأن الغوغاء وأصحاب المصالح أطلقوه عليهم، وكررته أجهزة إعلام مغرضة فاسدة باغية؟ أي فلسفة هذه يا سيد حبيب؟ يا إسلاميّ "سابقاً"؟  

لقد دافع حبيب عن الفكرة الديموقراطية، وأنّ الشواذ من بقايا أصحاب الفكر "الإرهابيّ" القديم، الخارج من عباءة سيد قطب والمودودى رحمهما الله، سيعودون إلى رحاب الديموقراطية قريباً بعد أن يكتشفوا خطأ انحيازهم بعيداً عنها، وأنّ حاملي هذا الفكر ليسوا من الناشئة والحمد لله، بل هم من الجيل القديم الذي يريد أن يجد لنفسه موضع قدم في الساحة السياسية الجديدة!

هراء في هراء في هراء. فإن الديموقراطية ليس آلية منفصلة عن مضمونها كما بيّنا من قبل، وإنما يحْسَب ذلك من يأخذ من العِلم طَرفاً وتغيب عنه أطراف. وهذه الفكرة هي التي ابتلي بها كثير من أنصاف المتعلمين في مصر بعد فتنة الديموقراطية.

ثم إنه، وإن كان حبيب قد قصد إلى أنّ ليس للفكر الجهاديّ ركيزة بين الشَباب، وأنّ ذلك واقعٌ عند القدامي من الجيل الجهاديّ السابق. فنسأل فضيلته، كيف تأكدت من أنّ القدامي لم يتبيّن لهم فكر عملي جديد، وإنْ كان يغاير فكرك المتهافت في التجربة الديموقراطية، فلا يرى الديموقراطية طريقاً، إلا إنه كذلك فكر عمليّ لا يرى القتل وسفك الدماء في مصر وسيلة للإصلاح؟ أكلّ من لم يتبن الديموقراطية عند فضيلتك، يحمل فكراً أسميتومه قديماً "جهادياً" كالفكر الخاطئ المُرْتبك الذي كنت تحمله أنت ومن معك من قبل؟ أليس هناك فكر سنيّ وسطٌ يرفض الديموقراطية الغربية شكلاً وموضوعاً، ولا يلقى بنفسه في أحضان الحكم الإخواني الديموقراطيّ، مدعياً أنّ هذه هي طبيعة المرحلة السياسية التي لا يدركها إلا المتعمق الواعى المتفلسف أمثالكم وأمثال جمال سلطان؟

نبشّرك أخي كمال، أنّ هذا الفكر السنيّ الوسط موجود قائمٌ محفوظٌ بحفظ الله له، وهو ليس سارياً بين مشايخ الحركة القدامي كما زعمت، بل وبين أكثرية من الشباب الذين لم تخدعهم خطط الإخوان وحيلهم وأحابيلهم، ولم يقعوا في شَرَك التراجعات التي قدتها ومن معك من أبناء الجماعة الإسلامية المخذولة.

ثم، يصف الأخ المُحَلل (بكسر اللام!) الكتب التي تحمل فكراً طفولياً ويطلع عليها أصحاب الفكر الطفوليّ، الذين لم ينكشف عنهم حِجاب المعرفة الشرعية في مجالها الرحب من أمثاله وأمثال جمال سلطان، ككتاب ملة إبراهيم للشيخ أبو محمد المقدسي، نعم والله صار الحديث عن التوحيد وملة إبراهيم حديث أطفال لم ينضجوا بعد!!

ثم يهاجم الأخ المُحَلل (بكسر اللام!) قول من قال إنّ محمد مرسى ليس ولياً للأمر، وأنّ هذا قائم على أفكارٍ مُتخلفة تريد أن تتبع ما جاء في كتب السياسة الشرعية التي عفى عليها الزمن، وصارت لا تناسب حركة المجتمعات المليونية، إذ كيف نختار أهل الحلّ والعقد في مدينة تعدادها عشرين مليوناً؟ اعذرني أخى كمال، ولكن هذا غاية في الإسفاف الفكرى والبساطة التحليلية! إذ كيف إذن يمكن أن تختار هذه الملايين ممثليها في البرلمان؟ ألا يمكن، في عقليتك الواسعة الشاملة، أن تجرى ترشيحات موازية، لا يكون العدد هو مقياسها، بل الكفاءة وشهادة أكابر الأحياء، مع شُروط مقررة من اتساع الشُهرة والتاريخ الدعويّ، والإنتاج العِلميّ؟ أهذا مُعجزٌ يا فضيلة المُحَلل (بكسر اللام!) في رأيكم الكريم؟ أم إن هذا تخَلّفٌ ورجوع إلى الوراء وعدم مسايرة للفكر السياسيّ الحديث الذي حصلت فيه على "الدكتوراه" من أساتذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة، ومنهم عمرو حمزاوى؟!

لقد بيّنا من قبل أنّ مرسى ليس ولياً شرعياً، بل هو رئيس للجمهورية، وذلك ليس بسبب الشكل الإنتخابيّ، بل بسبب أنّ من انتخبه هم مواطنو مصر، من مسلميهم وكفارهم ، صليبييهم وعلمانييهم، على أساس المواطنة والعلمانية الفكرية، فمتى في تاريخنا الإسلاميّ، فكراً وعملاً، كانت المواطنة هي التي تحكم اختيار إمام المسلمين؟ ولماذا لا يشارك المسلمون في اختيار بابا الكنيسة إذن؟ بالله عليكم، هؤلاء الصليبيون لا يسمحون حتى لنِسائهم أن يصوتن على أبيهم الذي في الأرض، مندوب أبيهم الذي في السماء!

يروّج الأخ كمال بأن هذه "الأفكار" وليدة فكر جهاديّ مرفوض، سيعفى عليه الزمن قريباً بعد أن يقضى هؤلاء المشايخ من القدامى، ولا يعود هناك شبيبة تنصره! عجيبٌ أمر هؤلاء الإخوة أصحاب التراجعات، وكأنهم والله يلعبون دور المُحَلل (بشد اللام وفتحها) بين السلطة شبه الإسلامية الحالية، وبين العلمانية اللادينية، في تبرير الفكر الديموقراطيّ وتثبيت دعائمه. ونسأل الله ألا يكون فكر هؤلاء المتراجعين يحرّم الجهاد في سوريا وأفغانستان والعراق، ضد أمريكا والغرب، فهذه نقلة نوعية في الدين كله، تُسقِط قائلها فيما لا نُحِبُ حتى للمتراجعين المتخاذلين أن يقعوا فيها.

نبشّرك مرة أخرى يا أخ كمال، أن الكثير يؤمن بعكس ما تؤمن به، مما تحولت اليه. وإنى لا ازال انصر فكرة اسميتها قانون البندول، ومختصرها أنّ صاحب البدعة لا يمكن أن يعود من تطرفه في جهةٍ ما إلى الوسط الأعدل، فإن هذا مستحيلٌ عقليّ بناءً على قوانين الفيزياء، بل تراه ينحرف إلى الجهة الأخرى، كما ترى البندول يتأرجح من طرفٍ إلى طرف، ومن إفراطٍ إلى تفريط، لا يقف على الوسط. هذا ما أراه في حالة التراجعيين الذين تأرجحوا من طرف جهاديّ غير منضبطٍ ولا مُقعّدٍ، إلى طرفٍ إرجائيّ ديموقراطيّ منحرف في الغاية المقابلة.

كنا ننتظر منك يا كمال حبيب أن تنصر إخوانك الذي لفق لهم أمن الدولة قضايا تصفية لحسابٍ، وإثبات لمرسى وربعه أنهم ساهرون على حراسته وحكمه، ليترك لهم الحبل على الغارب، يستحلون دماء وأعراض الإخوة المسلمين، كما كان عهدهم من قبل.

إن حقيقة حديثنا الى الأخ كمال وصديقه جمال، تفصح أننا لا نزال نرى أنّ هناك أملاً في أن يستعيد هؤلاء وعيهم، وأن يقدموا دينهم على المصالح القريبة، أو الأفكار الغريبة، إذ نحن لا نخاطب أمثال عمرو حمزاوى ومحمد البرادعيّ، فهؤلاء صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون.

لقد خيّبت أملنا يا أخ كمال حبيب، ولا يشفع لك ارتداء رداء العلمانية المحايدة في التحليل، فإن ذلك الموقف له اسم آخر في قاموس الإسلام، هو الولاء لأعداء الله، والبراء من المسلمين.

 

[1] http://www.tariqabdelhaleem.com/new/Artical-54993

[2] http://www.tariqabdelhaleem.com/new/Artical-55422