الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لاشك أن مصر، وسائر الرقعة الإسلامية، تعيش في جاهلية متمكّنة، إن اعتبرنا المعنى الحقيقيّ لكلمة "الجاهلية". فإن هذا المصطلح قد تبدّل معناه عبر القرون، كما تبدلت كثير من المصطلحات الأخرى، ليصبح دالاً على فترة تاريخية محددة، هي ما قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم. والحقّ أنّ "الجاهلية" هي حالةٌ "لاحضارية" تعيشها الأمم التي لم تأخذ بنور الوحي، ولم تسير على هدى النبوة. "الجاهلية" توجد حيث يوجد الكفر بالله، بأي صورةٍ من صُوره، سواءً جهلاً به، أو عناداً لأوامره، أو استكباراً على عبادته أو جحداً لربوبيته وألوهيته أو تكذيباً لرُسله وكتبه. ولا علاقة لهذه الحالة بالتقدم العلمي أو بالغنى والفقر أو بالقوة العسكرية أو الضعف الإقتصاديّ.
ذلك أنّ الرقيّ الإنسانيّ في معترك الحياة الدنيا يتوقف على الأخذ بأسباب وضعها الله سبحانه في الأشياء، وركّب عليها نتائج حسب سنن كونية تسرى على البرّ والفاجر، وعلى المؤمن والكافر سواءً بسواء. من أخذ بها، بأيّ طريق أخذ بها، حَصّل نتائجها المَرجوة، "وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًۭا "الأحزاب 62. أمّا ما يُفرّق بين المؤمن والكافر في الأخذ بهذه الأسباب، هو بلوغ نتائجها على أكمل وجه، وتعدي مُحصلاتها إلى خارج حدود أسبابها بفضلٍ من الله، ثم بالجائزة الأخروية التي لا يؤمن بها الكافر ابتداءً.
فالحرية في الغرب مثلاً، هي حرية جاهلية، لكن كونها من أصلٍ أقرته الفِطر، ووضعه الخالق أساساً لحياة بنى آدم، فإن الأخذ بها، بأي شكلٍ كان، أفضل من الإنقلاب عليها كما حدث ويحدث في بلاد المسلمين. وكان من جرّاء الفرق، أن بُنيت حضارة الغرب على هذا المفهوم، وإن كان ناقصاً مُتناقِضاً، فوصلت بأهله إلى نهضة علمية واقتصادية مادية، تتناسب مع الحدود المفروضة على ما يمكن أن تصل اليها أمة أخذت بالحرية كما يفهمها العقل البشري، بغير الهَدىَ الإلهي في تقدير معنى الحرية وضوابطها. هذه إذن حرية جاهلية جرّت خراباً على الكيان الأسريّ في الغرب، ونقضت عرى الأخلاق عروة عروة، وجسّمت كلّ معاني الأنانية وحبّ الذات والرغبة في المزيد، بما يتناسب مع الفهم الرأسماليّ، والمنطلق الديموقراطيّ والتصور العلمانيّ، الذي هو القاعدة لهذه الأمم "فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُوا۟ بِمَآ أُوتُوٓا۟ أَخَذْنَـٰهُم بَغْتَةًۭ فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ" الأنعام 44
أما في شرقنا، فلا حرية أصلاً، جاهلية أو غير جاهلية. المبدأ ذاته غير معروف، نتيجة قرونٍ من القهر، تلتها عقود من التحطيم المتواصل لكرامة الإنسان، التي هي أساس شعوره بالحرية. فما كان من أتباع الهديَ الغربيّ العلماني الديموقراطيّ الرأسماليّ إلا أن رَوّجوا أنْ "انظروا يا أهل الإسلام، هاكم ما تأتيكم به مفاهيم الغرب، خذوا بها، واستعملوها وتبنّوها، فإنها هي مفتاح الخروج من ضيقكم وكربكم وفقركم وجهلكم ومرضكم، وما عليكم من الإسلام، فإنه في صدوركم محفوظ، ومحبة الله ورسوله هي في القلوب منحوته، فماذا علينا إذن، دعونا نسير بما سارت به تلك الدول فنرتقى كرقيها". وسوسة شيطان مريد، لا يريد إلا الخراب والدمار لأهل الإسلام، في الدنيا والآخرة.
ويتساءل العاقل ، إنْ كنّا في الحضيض، وكان الثابت أننا ما وصلنا إلى هذا االقاع إلا بعد أن تَخلينا عن خلافتنا في الأرض والحياة بالإسلام، وأخذنا بالجاهلية، فما الذي يدعوننا اليه إذن؟ وقد كانت الأداة التي رفعت عنا الجاهلية هي تصورات الإسلام، وشرائع الإسلام، وروح الإسلام وأخلاق الإسلام.
ثم يتساءل العاقل، إن كنا في الحضيض، وبيدنا مصابيح الهدى وفي بلادنا مصادرها ومواردها بالفعل، فكيف نأخذ بالهدي الناقص ونرك الهدي الكامل الذي سوّدنا العالم عشرة قرون ويزيد؟ ولماذا نفعل ذلك؟ ألجهل بديننا؟ أن برفض له وجحد لأسلوبه في الحياة؟ أم كراهة فيه وفيما يقدّمه؟
إنّ المسلمين لم تتدهور حالهم، ولم تنخفض رايتهم، ولم يخسروا الدنيا ويتنكبوا عن طريق نهضتها بسبب تمسكهم بدينهم. تلك هي الأكذوبة الشيطانية الكبرى التي يحاول العلمانيون والليبراليون والناصريون والاشتراكيون واليساريون، وسائر أصناف كفار مصر أن يوهموا بها العامة من الناس. لكن الحقيقة العارية الواضحة وضوح الشمس هي أنّ نجم الإسلام قد ارتبط بقوة بالتمسك بتعاليمه وشرائعه كلها على مدى التاريخ، طرداً وعكساً. متى التزم المسلمون بدينهم، وتولى أمرهم أفاضلهم، صعد نجمهم، وانتصروا على قوى الصليبية التي كانت تعاديهم ولا زالت. ومتى ضعف تمسّك المسلمين بالإسلام، شرائعاً وشعائراً، أُخذت عليهم بلادهم كلّ مأخذ، واجتيحت أراضيهم واستبيحت أموالهم وأنفسهم. وعليك بالتاريخ لتعرف هذا الحق، "وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ" فاطر 14.
إنّ العلمانيين والليبراليين والناصريين والاشتراكيين واليساريين والبرادعيين، وسائر أصناف كفار مصر، يريدون أن نعيش في جاهلية الغرب، وأن نأخذ عرضهم الأدني، وأن نستبدل ما هو أدنى بما هو خير، بأن نسير على منهج الجاهلية، وطرق الجاهلية وأحكام الجاهلية وإعلام الجاهلية وقضاء الجاهلية، لنكون في نهاية الأمر مسخاً ممقوتاً لبقية الأمم الضالة، ونخسر بهذا في الدنيا وفي الآخرة. فأما خسارة الآخرة، فإن هؤلاء لا يعيرونها التفاتاً لأنهم يكفرون بها أصلاً. وأما خسارة الدنيا، فإن هؤلاء المروّجين لهذا الكفر هم رؤوس العلمانية والناصرية والاشتراكية واليسارية والبرادعية، وهم إنما يعملون لتنمية ثرواتهم الخاصة بأن يظلوا رؤوساً ينتهبون متى استطاعوا وكيف استطاعوا، وانظر إلى ما يتقاضاه كفار الإعلاميّين أو الإعلاميات من مبالغ شهرية خيالية يمكن أن تعيش عليها ألف أسرة في مصرنا. وهم لكفرهم لا يحسنون العيش إلا في ظلال الجاهلية، فلتذهب سائر الأمة إلى الجحيم إذن، وليعمل هؤلاء على أن يحصدوا جهدها وعرقها كما حصده مبارك وأمثاله من قبل، بتسمياتٍ أخرى، وفلسفات مختلقة مختلفة، لكنها تتفق في العداء للدين واللامبالاة بالناس سواءً محياهم أو مماتهم.
ذلك الذي نعيشه اليوم، والذي يسيطر على إعلامنا وتعليمنا وسياساتنا واقتصادنا، وحياتنا كلها هو "جاهلية" عمياء، لا تؤدى لرقيّ في الدنيا، ولا لنجاةٍ في الآخرة. وها هي حكومة الإخوان الديموقراطيين، تتصدى لكل محاولة لإعادة تحكيم الهديَ الإلهي في حياتنا، بأن يصرّوا على الوقوف بجانب العلمانيين والليبراليين والناصريين والاشتراكيين واليساريين والبرادعيين وسائر أصناف كفار مصر، في التلاعب بالدستور، واختراع موادٍ يظنون أنهم قد احتالوا بها على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وانهم وُفِّقوا للوسط الأعدل بين الإسلام والكفر، كما وضعوا في المادة 221. ولا يعلم هؤلاء الغِرّ المَناكيد أن لا وسط بين الإسلام والكفر، بل هو إما إسلامٌ وإما كفر، بلا وسط.
هنيئاً لمحمد مرسى الحكم في تلك الجاهلية التي يَخرّ لها ساجداً حين يتعرّض لضغطٍ من هؤلاء العلمانيين والليبراليين والناصريين والاشتراكيين واليساريين والبرادعيين وسائر أصناف كفار مصر، وكأنه لا يحكم بقية الثمانين مليوناً من المسلمين، وكأنه صاحب القول في كفر هذه الرعية وإسلامها، وكأنه الوصيّ على تقدم هذه البلاد ورقيها، الذي لن يكون إلا بالتزام الهديَ المحمدىّ كاملاً غير منقوص ولا مبتور.
ومن هنا فإن التوجّه الإسلاميّ اليوم يجب أن يتعدى هذه المَراحل التى تمرّ بها البلاد في ظلّ الحُكم الجَاهليّ، وأن يكون هدفه البيان والبنيان. بيان الإسلام للناس، وبيان الجاهلية لهم، في كلّ محفلٍ ولقاءٍ ومحاضرة وخطبة ودرس وحلقة وكتاب ومقالٍ ووعظ وبرنامج، لا يتركوا وسيلة إلا سعوا بها بين الناس، في كلّ مجال، أنْ خذوا الإسلام بقوة، واهربوا من الجاهلية كما يهرب الحمل من الذئب، فهو اليوم راعيكم وغدا آكِلكُم. ومن ثم تبدأ مرحلة البنيان. بنيان الطاقة الإسلامية الواعية التي إن زأرت حسب لها العلمانيون والليبراليون والناصريون والاشتراكيون واليساريون، وسائر أصناف كفار مصر، ألف حساب، وعرف الإخوان والسلفيون من زئيرها طعم الجُبن والتَخاذل، كما عَرفناه عنهم في مليونيات السيواريه "من 6 إلى 9"!!
لا طريق للخروج من هذه الجَاهلية التي تحيط بنا إلا بالبيان ثم البنيان، وإلا فالجهل موتٌ لا حياة معه والبيان دواؤه، والتشتت ضعفٌ لا قوة معه والبنيان علاجه، إذ هما سببُ كلّ خَراب وباب كلّ جاهلية.