الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
عجبت لأمر هؤلاء الإخوة "الطيبين" الذين يتحدثون عن تطبيق الشريعة وضرورته ومراحله ولوازمه وإمكانه، كأنهم لم يدرسوا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم البتة، ولم يقرؤوها ولم يفقهوا منها حديثا!
الأمر الذي نغالب فيه اليوم، كما بيّناه من قبل في عشرات المقالات، وفي آلاف الكلمات، وكما بيّنَه عظماءُ فقهائنا وعلمائنا الأجلاء من أهل السنة والجماعة، لا يرتبط بتطبيق الشريعة تنفيذاً، بل يرتبط أولاً وقبل كل شئ، بمبدأ قبول والتزام تطبيق شرع الله كحدّ للتوحيد، وقبول للدخول في الطاعة التامة غير المشروطة ولا المخلوطة. الأمر هو أمر لا إله إلا الله التي جهر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، منذ اليوم الأول لبعثته، دون تريثٍ أو مداهنةٍ أو مرحلية أو تفصيل. بل هو الإعلان المُجمل للدخول في عبادة الله التي هي "طاعته" بإعلان العزم على إتباع أمره متى جاء، أيا كان هذا الأمر، وهو الذي يسميه بن تيمية "الإيمان المُجمل"، الذى هو لبّ التوحيد، وأصل دين الله الذي اجتمعت عليه الأنبياء كلها كما في حديث "وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ "البخاري، فدينهم الواحد هو الإطباق على كلمة التوحيد، وهو الكلمة التي جاءت بها آيات القرآن الكريم في قوله تعالى "قُلْ يَـٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْا۟ إِلَىٰ كَلِمَةٍۢ سَوَآءٍۭ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَيْـًۭٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًۭا مِّن دُونِ ٱللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا۟ فَقُولُوا۟ ٱشْهَدُوا۟ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"آل عمران 64، فهى الكلمة التي أطبق على الدعوة اليها كافة أنبياء الله.
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَكّة لهذه الكلمة ثلاثة عشر عاما، لم يُفرَض فيها أية أحكام تفصيلية شرعية، لا صلاة ولا صيام ولا قيام ولا حدود ولا أوامر ولا نواهى، إلا هذه الكلمة، التي ليست هي مجرد كلمة تنطق باللسان، ولكنها التزام كاملٌ بالطاعة التامة لله ورسوله والدخول فيها بإجمال، حتى يأتي التفصيل. فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، واستقر مبدأ الطّاعة المُجملة في نفوس المسلمين، وتكوّنت أول دولة مسلمة، كان دستورها وشعارها ولواؤها الطاعة لله، إذ استقرّ هذا المبدأ من قبل، وحانَ أوانُ تفصيل هذه الطاعة، وتقنينها إلى أوامر ونواهى، وحدود وقيود، وشروط وموانع، وسائر الأحكام الشرعية التفصيلية.
ثم في المدينة، حيث استقر مبدأ الطاعة، كعقد اجتماعيّ يحيا عليه الناس، ويتمثل في لا إله إلا الله كمادة الدستور الأولى بلا خلاف، بدأت الأحكام التشريعية التفصيلية في التنزّل، وقال تعالي حينها "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱدْخُلُوا۟ فِى ٱلسِّلْمِ كَآفَّةًۭ"البقرة، أي في كافة السّلم، الذي هو الإسلام بكل أحكامه، بعد أن قبلتموه جملة وعلى الغيب، وصدقتم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمراً وخبراً جملة وعلى الغيب. ساعتها جاءت الأحكام بما يناسب الفترة والفطرة، ولم تُعتَسف في تطبيقها وإلزام المسلمين بها. بل كانت لهم مجرد تفصيلٍ لمجمل، هو توحيدهم وطاعتهم.
الأمر اليوم عاد كما بدأ أول مرة. دول لا تُقر في عقدها الإجتماعيّ، كمجتمعٍ، أنّ الطاعة لله وحده، وأنه هو وحده مصدر الأحكام، وصاحب المرجعية، لا غيره. وتتمحك بأنّ هذا ما يدين به أفرادها كلّ على حدة، ومنهم ما لا يدين بها، من اليهود والنصارى وغيرهم، لكن يجمعهم كبشرٍ يحيون في مجتمعٌ، جامع "المواطنة" الذي استبدلوا الإسلام به، حتى يخلص لهم ما أرادوا. ثمّ إذا "بالإسلاميين" ينضمون إلى طابور المخدوعين البسطاء "الطيبين"، فيتحدثوا عن صلاحية الزمان والمكان لتطبيق الشريعة، وكأنها هي ما نتناطح فيه مع النظم الكفرية، وإذا بهم يقررون معهم، بكل سذاجة، بل وبلاهة في بعض الأحيان، أنّ الوقت لم يحن لتطبيقالشريعة، أو الحدود، وأن التدرج مطلوبٌ، وأن الشريعة قد نزلت منجّمة متدرجة، ومثل هذا الكلام الذي لا محل له من إعراب فيما نحن فيه هنا.
ليس الأمر أمر تطبيق الشريعة، يا إخواننا المشايخ الفقهاء والخطباء والدعاة، ممن يتحدث عن الظروف والمواءمات. ليس الأمر أن نقطع يد السارق اليوم أو غداً، لكنّ الأمر هو "من سيكون له الحكم في مصر اليوم؟" أهو الله وحده؟ أم الله بشكل رئيسيّ، بمبادئ شريعته لا أحكامها، ومعه بعض آلهة أخرى صغيرة، "غير رئيسية"، يؤخذ منها كذلك، حتى نتخلص منها إلها إلها، تدريجياً، ونعلن ساعتها طاعتنا لله وحده حقاً، وأن لا إله إلا الله صدقاً. وساعتها كذلك يكون المجتمع قد تخلّص من الفساد، ومن الفواحش، ومن الإجرام،ومن الفقر والجهل، وأصبح مستعداً لتقبل تحكيم الشريعة عقيدة وتنفيذاً!!! سبحان الله، وما حاجة مجتمعٍ كهذا للشريعة إذن؟ وهل تظنون، ببلهكم، أنه دون إعلان طاعة الله مرجعاً، يمكن أن ينتهى الفساد في الأرض، ويختفى الظلم والقمع، ويتوارى الفقر والمرض؟ أين أنتم من قول الله تعالى "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوْا۟ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ"الأعراف 96؟
راجعوا أولوياتكم، يا مشايخنا وخطباءنا ودعاتنا، فإنه لا شئ قبل لا إله إلا الله. وإن عادت المادة الثانية المهلهلة بصورتها التي كانت في دستور 71 ودستور مبارك، فلا حجة لكم في عدم الإنتفاض ضد محمد مرسى، فهو، في هذا الأمر، ومبارك سواء في كونهما ولاة أمرلا تحكم بشرع الله، فلا طاعة لهم علي المسلمين(راجع مقالنا حوارٌ بين برلماني وإسلامي). وإن اختلفا كمكلفين أمام الله، فهذا بينهما وبين الله سبحانه.
يجب عليكم يا مشايخنا وخطباءنا ودعاتنا، أن توحدوا جهودكم وتصوبوا سهام كلماتكم تجاه بيان هذا الأمر، وهذا الأمر وحده. وأن لا تخلطوا بين إقرار مبدأ الطاعة لله في الدستور بأن يكون مصدر تشريعاتنا هو الكتاب والسنة وحدهما بلا خلط وتشريك، وبين أولويات ودواعى ومراحل تطبيق الشريعة التي تأتى لاحقة لهذا الإعلان، بما تحمل الشريعة ذاتها من شروط وموانع يطبقها القضاء حسب دواعى الحالات ومتغيرات المناطات على الفور.
إن ذلك الخلط بين هذين الأمرين يجعل الهدف والغاية، ومن ثم الوسيلة والطريق، إلى إقامة دين الله في الأرض، لا وضوح فيهما ولا استقامة. ويجعل العامة لا يعرفون ما هو مدلول توحيدهم، ولا شروط إيمانهم، ويجعل الشرك القائم في دستورنا مُكَرّسٌ كما كان، وكما هو كائن، وكما يظهر أنه سيكون، في دستور حسام الغرياني!
راجع مقالاتنا السابقة عن الدستور خاصة مقال "أيها المسلمون ..المعركة الأوْلى "معركة الدستور"