الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ظهرت اليوم تلك النوايا التي توقعناها منذ 11 فبراير 2011. وهو قتل الثورة بالكامل وتولية من يُفسد. تم حلّ البرلمان، وسحبت الدمية التي كانت قد فرحت بها الإخوان باللعب بها في ستة أشهر لا أكثر. ورفعت الحصانة عن أعضائها. كم من مرة قلنا انزلوا إلى الشارع؟ كم من مرة قلنا لا تركنوا إلى الذين ظلموا؟ كم من مرة قلنا هذا البرلمان ليس له شرعية إسلامية، فلن ينجح؟ كم من مرة ذكرنا هؤلاء أنه "إن الله لا يصلح عمل المفسدين"؟ فها هي عوراتكم وذنوبكم تعودُ عليكم بالخراب.
وفي هذه الأيام الحالكة، التي انتعش فيها الطُغيان واستعاد عرشه في مصر، بعد أن تعرّض لهِزّة شَديدة، ثبت فيها الطواغيت، واستغفلوا قومهم، وكانوا، بحق كما قال تعالى فيهم "فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين"، ظَهَرت ملامح البَلبلة والتشتّت والتردّد والحيرة عند الكثير من الإخوة المُنتمين إلى الدعوة الإسلامية.
السّبب هو ما ينتظره الشعب كله حين فوز الدعيِّ العِربيد أحمد شفيق في إنتخابات الرئاسة. فقد توعد الرجل كافة طوائف الشعب التي اشتركت في الثورة، وخصّ منها من ينتمى إلى التيارات الإسلامية، إلا من خان عهد الله ورسوله إبتداءً مثل محمد حسان وأشباهه، بالإنتقام لمبارك، إذ إن الثورة لم تحقق إلا نقله من مسكنه إلى مسكنٍ آخر يتمتع فيه بكل الإمكانيات.
ستكون الأزمة الحالية أشدّ من أزمة 54 بلا شك، وستأخذ الإخوان في طريقها، ولن يكون الشعب سنداً لهم في محنتهم، بعد أن خانوا الشعب وقتلوا الثورة. حسبنا الله ونعم الوكيل في غبائهم السياسيّ الذي صوروه للناس حنكة، وفي عدم الثقة بالله وبدينه وبمنهاجه.
سيفتح شفيق السجون، وسيملأ المعتقلات، وسيجدد عهد أمن الدولة، وسيضاعف من حدّة الطوارئ، وسيعتقل بالشبهة والفكرة، لا بالقول والحركة. سيمنح شفيق كافة الصلاحيات للداخلية المنهزمة، وللجيش ولشرطته العسكرية، في الإعتداء على كافة الحُريات المَدنية، بلا قانون أو مُساءلة. سيخرس شفيق كل معارضة، ويقمع كل رأيٍ بدعوى الإستقرار. سيرعب كل من تسول له نفسه أنْ يتحرك في إتجاه معاكس له، بشدة وحدة، حتى يقول التاس إنج سعد فقد هلك سعيد". ولن ينجو من هذا الإنتقام القادم لا إخوان ولا سلفيون، لا حرية وعدالة ولا نور. بل سيكون الكلّ تحت مبضع جزارٍ يزعم أنه جراح، يزيل كلّ ما يمت للإسلام بصلة، حتى آياتِه من مَناهج التعليم.
هذا قَدرٌ مشتركٌ معروف، أقر به الرجل نفسه، وسارت به الأخبار بين الناس، وارتعشت له فرائص الإسلاميين خاصة. وهو ما سبب إحباطاً، بل رُعباً وتشنجاً في الأوساط الإسلامية بالشارع المصريّ، فأصبح شُغلهم الشّاغل في معرفة ما السبيل، وماذا سيفعلون؟ أيستسلمون لقدر الله الذي وقع بهم ببعض ذنوبهم وذنوب غيرهم، فيدخلون السجون التي تخلصوا منها؟ أم يقاومونه فيقتِلون ويُقتلون؟ أم يهاجروا من البلاد كلها إن استطاعوا؟
تساؤلات تدل على حيرة وقلق وتشتت. ولهم الحق كل الحق في هذه الحيرة وذلك القلق والتشتت.
أقول لإخواني في مجال الدعوة، لقد تنازلت الإخوان عن حقوقها، وحُقوق الشّعب، ورَضَخت للتهديدات، ورَضيت بالفُتات. وسَقطت رُموز السّلفية الدَعِيّة، وخابتْ فتاواهم، والتحقوا بركب التطبيل والزَمْر. ولم يبق بعدها إلا المخلصين الذي عرفوا مسار الأمور، وثبتوا على منهجهم أمام تلك الثورة المضادة التي قامت على أكتاف الديموقراطية الكفرية.
وفي هذا الوضع المُتهالك، فإن "الطوارئ الفقهية"، أو "فقه النوازل" يمكن من حلولٍ تعتمد على الخريطة الأمنية أكثر من الخريطة الدعوية، في هذه المرحلة. ونحن لن نسرع بإصدار فتاوى في هذا الشأن، إذ يجب أن يكون ذلك جهدٌ مشتركٌ بين من يعنيه الأمر على أرض الواقع.
من مثل هذه النوازل، ما يترَدّد بين بعض الإخوة عما يجب أن يفعل من ه زوار الفجر، أيدافع عن نفسه دفاعاً نتيجته معروفة، أم يذهب إلى الحبس مدة لا يعلمها إلا الله؟
وإذا نظرنا إلى هذا الأمر من الناحية الشرعية، وجدنا أنّه يقع تحت عدد من القواعد الشرعية، وتتصدر له عدد من الأدلة. فإنه من ناحية ما رواه الترمذيّ عن سعيد بن زيد، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد" حسن صحيح. وهذا الحديث يوحى ظَاهره أنّ مقاومة الحبس شهادة. إلا أنّ المحقق يرى أنّ ما يوحى بهذا هو قوله صلى الله عليه وسلم "من قتل دون دينه". لكنّ من يقاوم اعتقالاً فهو في سبيل نفسه، لا دينه. ورغم أنّ القتل دفاعاً عن النفس كرامة مطلوبة، إلا أنّ حِفظ النفس مُقدم على إحراز تلك الفضيلة، ما عدا إن كان القتل متوقعاً في اللحظة والآن، فيكون إذن هذا دفاعٌ مشروع عن النفس بلابد . لكن مجرد الإعتقال ليس فيه مثل هذا الشرط، وكم من معتقل خرج من السجن بعد حين، وكانت نفسه من دعائم دينه بعدها. فيكون قبول الإعتقال، دون مقاومة تؤدى إلى القتل، هو الخَيار الشرعيّ الأول، وهو الرخصة التي يريدها الله لعباده، إلا إن أخذ آخرٌ بعزيمةٍ هي ليست لكل المكلفين أولاً، وليست في هذا الموضع بمقدمةٍ على الرخصة، إذ الرخصة في محل الرخصة عزيمة كما هو في الأصول، بل قد يقول بعض الفقهاء إنها غير مشروعة ابتداءً لتقديمها المهم على الأهم. فهذه ليست فتوى للضعفاء، ولكنه إختيار صحيح على أساس فقهيّ بأدلته، مع ضرورة إتخاذ الإحتياطات الكافية بالبعد عن بيته وأماكن تواجُده المعتادة.
وليس المهم هنا هو صحة هذه الفتوى من عدمه، وإن كنت أرى صحتها، إنما فيما سبق مثالٌ على ضرورة التصدى لفقه الرحلة القادمة في العديد من المسائل التي ابتلينا بها، ولعل عدد من المخلصين يتصدى لمثل هذه الأمور، فيقدمها بين يديّ المسلمين، بعد مشاورة وترديد نظر.
إذن، فإننا في هذا الوقت العَصيب ليس لنا إلا أن نقول للعسكر، ما قال المؤمنون من سَحرة فرعون، لفرعون "فاقض ما أنت قاض انما تقضي هذه الحياة الدنيا" طه 72. إن المِحن والإبتلاءات إنما تُصيب المؤمن ما دام يَسعى على قدمين، إلا أنّ الأمل في الله قائمٌ، وليست ثورة 25 يناير ببعيد.