إزالة الصورة من الطباعة

حديثٌ من القلب .. إلى الأمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

لا أخفى، قارئي الحبيب، أنّى أدون هذه الكلمات بعد أن فارق جانبي المِضجع، يأساً من نوم غابت عنّى هدأته، واستبدّ بيَ الأرق والقلق، لأمر لست في حلٍ من ذكره، ولا أظنه سيفارقنى إلا أن يشاء ربي شيئاً، إذ حتى الكاتب يحتفظ لنفسه، في ركن من أركان قلبه، بل في سويدائه، ما لا يَطّلع عليه بشرٌ من البشر، يُدخل عليه الفرح تارة، ويلقى به في ظلماتِ الحزن والمرارة تارات. لكن ألسنا بشراً من البشر، نحمل قلوباً ونفوساً، تتقلب بها أحوال الدنيا وصدمات الزمن؟ لذلك تجد كلماتي هنا منى اليك، من القلب إلى الأمة.

في هدأة الليل، نظرتُ، فإذا المرءُ مرآة الأمة. وإذا بي، وبكم، نلقى باللوم على الإخوان تارة، وعلى أدعياء السلفية تارة، وعلى العلمانية تارة، فيما وصلنا اليه من هوانٍ وذلة. لكننا ننسى أننا، فرداً فرداً، مسؤولون عن محنتنا، لا هذا ولا ذاك. نحن المسلمون، أفراداً مفردة، فينا من أدواء الأمة المسلمة ما يجعل أمتنا، التي اسمها مشتقٌ من "الأم"، ترث منّا الطباع والخلق، لا العكس، كما في حياة الناس، حيث يرث الفرد من أمه، لا ترث منه. بل فينا من الإستسلام والخضوع لواقعنا، واستبداله بأحلامٍ، منها يقظة ومنها نوماً، ما قد قتل في كل واحدٍ منا، ليس الأخلاق فقط، ولكن ذلك البعد الإنسانيّ الذي يجعل المرء يستشرف للأعلى والأفضل والأقوى، قتل فينا دعوة الله سبحانه "فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون". وهي دعوة لكل فرد أن يعلو على ظرفه وعلى محنته، لتعلو الأمة على ظروفها ومحنتها.

لقد عاشت "أمتنا" حُلماً جميلاً وردياً، تتمتع فيه بحريتها، وتعبد ربها، وتنمى قدراتها، وترعى أبناءها، وتحفظ كرامتها، وتلقى بخير ما فيها من رزق وحبٍ لمن يحيا على هذا الرزق والحب. لكنه، وياللحسرة، ظلّ دوماً حلماً، وبقي أثراً من آثار ماضينا، لا نصل فيه ذاك الماضى بهذا الحاضر، فكان حاضِرُنا على عكس حلمنا المترائي في أضغاث أحلامنا. عشنا بلا حرية ولا كرامة ولا منعة، تتخَطّفنا الأمم من حولنا، وتتكالبُ علينا ضِباعها كما تتكالبُ الأكلة على قصعتها. وتطيح بنا يد الظالم من أبناء جلدتنا. قد أتَحْنا أنفسنا للعادي الباغي الظّالم الكافر، وتركناه يعبث بمقدراتنا، عقوداً متطاولة، واقتصرنا على حُلمٍ، كأننا نتعاطى مُخدراً، يصوّر لنا واقعنا على أنه مقبول، و"كل اللي يجيبه ربنا كويس"، كما يقال. وكأننا كما قال الشاعر أحمد فتحى، نحيا في

حُلمٌ لاح بعينِ الساهر          وتهادى في خيالٍ عابرِ

وهذا هو مكمن الخطر في الحلم، يلوح ويتهادى ثم يَعبُر، لا يَحدُث ولا يَقع!

طال نومُ هذه الأمة، فطال حُلمها، ونسيتُ عن واقعها وحياتها، واستمرأت البَغي، بل وعاونت الظلم والكفر، بسكوتها عليه تارة، وبمعاونتها له تارات، من خلال أولئك العملاء الجبناء الذين يبرّرون لأنفسهم الجبن بما شئت من أسماء. وإذا طال الحلم، انقلبت الموازين، كما يحدث في عقل التائه، يصير الشمال يمينا واليمين يساراً، لابوصلة توجّه ولا عَقلا يُرشِد ولا ديناً يَهدى. وأي عقل أو بوصلة أو دين يحتاجه النائمُ المخدّر، وهو هائمٌ تائهٌ ليس له في دنياه هدف ولا غرض، إلّا أن تستمر أنفاسه تتردّد في صدره؟

إنّ الأمةَ أفرادٌ مجتمعون، لا تصلح إلا إذا صَلحوا، أو صَلُح أغلبهم. والصلاح لا يكون مع الأحلام أبداً، إذ صلاح الأحلام، هو مجرد وهم من الأوهام. لقد فقدت أمتنا القدرة على العمل لمّا فقدنا القدرة عليه. ولو أنّ أمتنا، بأفرادها، نبذت الخوف والرعب، من شانقيها وجلاديها، فاستيقظت من نومها، وتخلت عن حلمها، وتحركت ضده، على أرض الواقع، منذ زمن طويلٍ، بدلاً من أن تنتظر ثلاثين عاماً، حتى 25 يناير، لكان لها في الدنيا أمرٌ آخر.

لقد ظللنا نتحدث عن الثورة وعن الإصلاح، وعن الشريعة وعن الدين، وكأنه يعنى أمة غيرنا، وأفرادا سوانا. فقدنا الإتصال بالواقع، بشكلٍ أو بآخر، فنسينا أنّ الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم، أفرادا، ثم جماعات.

ثم أمرٌ أخر، فإن الأمة الساعية للتغير الواعي، لا الحالم، يجب في طريقها، وعلى التوازى من تلك اليقظة المتدرجة، أن تجد البديل لطغاتها، متمثلاً في قيادتها، وأن تحيطه بالرعاية والحب، وتمسّك به دون هوادة، وتدفع عنه بروحها، فهو خط دفاعها، وحامى حدودها، لا أن تترك أبناءها يقتلون ويسجنون ويسحلون، فتنظر اليهم نظر المغشي عليه من الموت، ثم تعود لأحلامها.

الأمة كالفرد، إن وجدت من أحبها وأخلص في حبه لها، تعلقت به تعلق الأم بأولادها، فلا تتركه عرضة للظالم الباغي الخبيث من حيث لا يتركها هو للظالم الباغي  الخبيث. بل تحمى الأمة أبناءها ممن يضحون بحياتهم في سبيلها، وممن يقضى الوقت والعمر منشغلاً بِرُقيّها وصلاحها. ومتى تخلّت أمة عن صالحيها وطالبي وُدّها، فلا تلومَن إلا نفسها، إذ تنبذ خير ما آتاها الله من عونٍ.

إننا لمّا فقدنا الثقة بالله، وَكَلَنَا الله إلى أنفسنا، وَوَكّل علينا من لا يرعى إلّا ولا ذمة في دين الله وفينا. فقدنا القدرة على الحياة من حيث هي واقع مرير يجب تغييره، وجعلناها حياة مقبولة لندرأ عن أنفسنا الجَهد، وننعم بالدّعة الخادعة، وعزفنا عن الميادين وتركنا ساحات المواجهة.

جعلنا الله وإياكم ممن يقول فيعمل، وممن يريد فيفعل وممن ينوى فيُقدم، آمين