إزالة الصورة من الطباعة

فتنة التكفير في أوساط أهل السّنة والجماعة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

من المحزن أشد الحزن ما تعانيه طائفة من الشباب المُخلص النقيّ، الذي تطهّر من أدران الإرجاء، وحاول جَاهداً أن يكون على المَحجّة التي ليلها كنهارها. لكنّ قلة العلم، وضآلة الخِبرة، وقِصر النظر وقصور أدوات الإستدلال، رَمَت بهؤلاء إلى مستنقعٍ، رأيناه من قبل، وعاصَرناه من قبل، مستنقع التكفير السريع، المُتعنت، المُشتّت، مثلهم فيه كمثل من رأي منكراً، ففتح النار من مدفع رشاشٍ يدور به على من حوله، ضاغطاً على زناده، دون تحقق أو تبصر، يقتل من يقتل، ويجرح من يجرح.

والمُحزن، في هذا أنّ هؤلاء لا يَشعرون بما وقعوا فيه، من مُشابهة لمن نقدوهم من مُروّجى مصيبة الإرجاء. فكلاهما كطرف البندول، تراوَحا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وأخطأ كلاهما الوسط الأعدل. التفريط والإفراط، كلاهما من البدع البغيضة الممقوتة شرعاً.

إن الكفر، وعلى وجه الدقة، الرّدة، أمرٌ بغيضٌ بَشعٌ، جعله الله سبحانه من الأحكام الشرعية التي يجب أن يكون للمفتى بها دليلٌ عليه من الله، وبرهان كأوضح ما تكون الشمس في رائعة النهار. ولكن الأمر أن البعض قد ينخدع بإنتشار الضوء القوي، فيظن أن الشمس ظاهرة للعيان، بينما الضوء ليس دليلاً على ظهورها، إذ قد تكون مختفية وراء سحب غليظة أو خفيفة، لكنها ليست ظاهرة للعيان. وبالمثل، فإن هذه السحب، هي الشروط التي يجب تحققها والمَوانع التي يجب تَخلفها، ليصح الحكم بالردة، رغم وجود العمل المكفّر، أو إنتشار الضوء في مثلنا ذاك.

ومن هنا، فإنه يجب أن يُترك أمر الإفتاء بالرّدة، أو ما عُرف بالتكفير، إلى العلماء، علماء أهل السنة أقصد، لا علماء المرجئة أو علماء التكفيريين (المسارعين بالتكفير دون بينة أو علم).

والحكم بالردة، هو حكم شرعي كسائر الأحكام الشرعية، لا نقول أنه لا يقع البتة كما يدّعى المرجئة. فإن مثل حسنى مبارك وبطانته قد كفروا كفراُ، قد دخلوا فيه من كلّ باب، وظهرت شمس كفرهم كما تظهر الشمس في خطّ الإستواء، في عز الظهيرة. لكن أن يأتي أحد المشايخ الذين عُرف عنهم الإسلام، ونصرة التوحيد، عمراً ودهراً، وكتبوا فيه، وأرشدوا اليه، فيزلّ في موقف، يخطأ فيه خطأً ولو كان بيّناً، فيكفره الشباب المتعجل الجاهل بالشريعة، كما حدث مع الشيخ عبد المجيد الشاذليّ في دعمه للإخوان قبلاً، ولمحمد مرسى بعداً، فهذا التكفير أمرٌ لا دليل عليه من شرع. أو أن يزلّ شيخٌ بكلمة، قد لم يقصدها إبتداءً، كما حدث مع الشيخ مرجان سالم، فتنزل عليه الصواعق، من بين يديه ومن خلفه، فهذا أمرٌ لا يُبشّر بخير، ولا يدلّ إلا على قلة نضج الحركة الإسلامية، في أحسن صورها، وأنها لا تزال تدرُج في مدارج النضوج، في أول مراحله، وأنها لا تزال لا تستحق نصراً من الله سبحانه.

لقد وَسِع الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وعلماء المسلمين في حكم تارك الصلاة، أن يكون منهم من يكفّره ومنهم منْ يقتله حداً مع إثبات إسلامه، فهذا أمرٌ يمكن أن يحتمله الفقه والدليل. أما أن يقول أحد المشايخ المشهود لهم من قبل بالسَوّية والسُنّية، والبعد عن موالاة العسكر، بأنه "إن كنت ولابد ذاهباً إلى صندوق الإنتخاب، فإن فلان أقرب للشرع من فلان"، فإذا به يكفر ويرتد بهذا التصريح، فإن هذا أمرٌ تقشعر له أبدان العلماء والمفتين. أو أن يقع أحدهم في التأويل الباطل والإستخدام المُتعسف لقاعدة المصالح والمفاسد، من أنّ المَصلحة هي في دعم شبه الإسلاميّ أفضل من ترك المجال كلية للعلمانيّ الملحد، فإذا به يتلقى كروت الكفر من كلّ ناحية، فإن هذا ظلمٌ بين، وإدعاءٌ لرؤية الشمس برؤية ظلها. وهو خطأ مريعٌ وسقطة شديدة في تقدير الدليل الشرعيّ، رغم إقرارنا بخطأ هذا الإستدلال وسقوط حجيته. ذلك أنّ القائل له تأويلٌ ظاهرٌ، وإن كان باطلاً، يدرأ عنه تهمة الردة، فهو مانع لها، كالسحب التي تمنع رؤية الشمس، عيناً.

وقد رأينا أن هناك من يتولى كبر هذه المزاعم، وهم إما من ذوى النية الحسنة من الشباب، الذين يحتاجون إلى العلم، وإمّا من الصِغَار المُغرضين الحاقدين، الذين لا يستحقون إلا الصَغَار والتجاهل "وأعرض عن الجاهلين"، وإما من أتباع أنصاف المشايخ الذين لا يفترقون عن مشايخ أدعياء السلفية إلا أنهم على الجهة الأخرى من البدعة، ويشيعون أنهم مهتدون أصحاب علم، وهم معتدون أصحاب ظلم.

فإلى شباب الحركة الإسلامية، كما عرّفناها في مقالنا بالأمس، إياكم والتعدى، وإياكم والتنطع، وإياكم ومن يشترى سمعة بترويج بدعة، التزموا النُصَفة، واعلموا أنّ الفتوى لها أهلها، وأن الإفتاء بالأحكام العامة ليس من منهج أهل السنة. واعلموا أننا نكفّر من دلّ الدليل البيّن على كفره، لا نتوقف في ذلك، لكننا نتحرّج أشد التحرّج من أن نظلم أو أنّ نتعدى على من لم تثبت عليه مثل هذه التهمة الشنعاء، فإن هذا من دَأب الكبار، وفقه العلماء الأخيار.