الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
تعتبر الدولة العثمانية، بمرحلتيها في السلطنة والخلافة، كنزاً لمن أراد أن يتأمل صعود وسقوط الدول التي تنتمى لدين الإسلام، وهو ما يجب أن يَتّخذ اهتماماً خاصاً في ايامنا هذه التي يصارع فيه نظام فاسد أن يسقط، ويحاول فيها نظام جديد أن يبزغ.
وما يهمنا هنا، الآن، أن نرى عوامل سقوط الخلافة العثمانية، في بداية مراحل ضعفها، بعد حكم سليم الأول، وسليمان القانونيّ، ثم بدء الضعف العثمانيّن إذ نرى في هذه العوامل مشتركات مع ما نحن فيه، على بعد الصورة بين دولة مصر اليوم، وبين دولة العثمانيين آنذاك. لكن اسباب الهزيمة تظهر أنها واحدة متشابهة على كل حال.
فمن أسباب هذه الهزيمة وذاك السقوط:
- البعد عن الشريعة، وانتشار القتل والفسق: ولعله من الغريب أن يكون ذلك منسوباً إلى الدولة العثمانية التي كان لها أكبر الأثر في قوة الإسلام في مواجهة أوروبا وإيقاف زحفها وغزوها. لكن الدفعة الأولى للعثمانيين قد صاحبها أعمالٌ لا تتوافق مع الشريعة ولا يقبلها الإسلام، كقتلهم الإخوة والأبناء خوفاً من المنازعة على السلطة، ثم بعد أن بدأ عصر الضعف العثماني، سمحوا للفسق والخمور أن تشيع في البلاد، بضغط من العسكر الذين زالت عنهم روح الإسلام لبعدهم عن النشأة الصحيحة، وخلو ايديهم من القتال، كما حدث في عهد مراد الثالث الذي وقفت العسكر في وجهه حين أراد منع تداول الخمر.
- تحكم العسكر في الدولة وإدارتها: إذ بعد أن خمدت روح الجهاد وقلت الحروب، لم تجد الإنكشارية إلا أن تحيا حياة المدنيين، بالروح العسكرية، مما جعلهم يتدخلون في التجارة والإقتصاد، ويطلبون العطايا والميزات، ويخرجون على الحاكم إن لم يهيأ لهم ما يريدون. وما هذا إلا لبعدهم عن الحرب، وتركهم ثَكناتهم لمُمارسة الأعمال المَدنية.
- المعاهدات والتحالفات الأجنبية: وكانت سبباً في تدخل دول أوروبا في الشؤون العثمانية، وهي وإن ظهرت أن لها فائدة في أول أمرها، إلا أنه بان عوارها بعد أن تغلغلت سلطاتها في شؤون الدولة الإسلامية، واتيحت لهم ميزات قضوا بها على استقلالية الدولة، مثل ما كان معاهدة مع البندقية، وفرنسا بشأن رعاياهم في بلاد العثمانيين، وما كان من سلطة القناصل الأجنبية لدى الحكم المحليّ.
- سلطة الأقليات، خاصة النصارى، في الدولة: وقد ظهر هذا من الجانبين الخارجيّ والداخلي. ففي الجانب الخارجيّ، ظلّ البابا وقيادات الكنيسة يعادون الدولة العثمانية ويحرضون عليها ملوك الدول الأوروبية، ويسعون إلى أن ينقضوا معاهداتهم مع العثمانيين. وأما من الداخل، فقد كانت النصارى تعمل على هدم الدولة بالجمعيات السرية التي تتخفى وراء جمعيات خيرية أو أدبية أو قومية، وهي تسعى في حقيقة الأمر لتقويض اساس الدولة الإسلامية، إبعادها عن دينها.
- الترف والفساد الذي آلت اليه الطبقة الحاكمة: وقد أصبح همها جمع الثورة وشراء الذمم، واستمالة العسكر لصالحها، بعد أن كانت تسعى للسيطرة والقوة وتحرير أراضى المسلمين من أيدى الكفار النصارى. وداء الترف والمال داء عضال ما أن تصاب به سلطة حاكمة، حتى يقضى على أمل الأمة في أي تقدم، ويبدأ منحنى التأخر في الإنحدار، مهما بلغت قوة الدولة أصلاً، فهى سنة الله في فيها.
من هذه النقاط، نرى عبرة التاريخ التي لا يغفل عنها إلا واهمٌ أو مُغرض. فإن عسكر مصر قد وقّعوا معاهدات الإستسلام مع العدوالصهيونيّ والصليبيّ، وواعدوه على المعاونة ضد المسلمين في غزة، أو أي منطقة مسلمة ترفع بالكرامة رأساً. ثم إنهم، لما فرغوا من أمر الحرب، استداروا ليديروا أعمالاً أبعد ما تكون عن روح العسكرية والقوة، وأقرب ما تكون من روح التَخنّث والوَداعة، إلا على أبناء وطنهم. فأنشأوا المصانع والفنادق، واستولوا على الأراضي والمزارع، وفرضوا على الأمة الإستعباد، بعد أن أغرق الحكام في السرقة والنهب والترف، فكانوا شركاء السرقة وإخوان النهب. ثم إنهم سمحوا للأقليات القبطية أن تتوحش وتقيم لنفسها دولاً داخل الدول، على أن يسلموا لهم قياد الدولة دون تدخل.
ثم يأتي من لا معرفة له بتاريخ، ولا فهم له بأحداثه، فيقنع من هؤلاء بكلمات، ويسلمهم قياد الشعب المغلوب على أمره، دون العبرة مما قص الله علينا قصص الواقع المشهود، بعد أن قصها علينا في القرآن المقروء.
"لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌۭ لِّأُو۟لِى ٱلْأَلْبَـٰبِ" يوسف 111.