إزالة الصورة من الطباعة

'أَنْ أَقِيمُوا۟ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِيهِ'

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

حين بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم، بالدين القيم، فقد أراد أن يَرتفع به الخِلاف، وأن تتوحّد به الكَلمة، على نَهج النُبوة، وعلى رَسم الصِراط المستقيم، قال تعالى "أَنْ أَقِيمُوا۟ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِيهِ" الشورى 13، وقال تعالى "وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِى ٱخْتَلَفُوا۟ فِيهِ" النحل 64، وقال تعالى مُحَذّراً من التفرق والتنازع "وَلَا تَنَـٰزَعُوا۟ فَتَفْشَلُوا۟ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ " الأنفال 64. وهو معنى لا يختلف عليه أحد من المسلمين.

أما وقد قلنا ذلك، فإننا نود أن نؤكد على عدة معانٍ، أولهما أنّ هذا الإختلاف والتفرّق الحادث، ليس بسبب غموض البيّنات أو صعوبة الوصول إلى الحق، قال سبحانه "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا۟ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفًۭا كَثِيرًۭا" النساء 82، ولكنه بسبب الناظر في الشريعة المفتى فيها بالبدعة والتفلت من القواعد الشرعية، "إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُوا۟ دِينَهُمْ وَكَانُوا۟ شِيَعًۭا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ" الأنعام 159، فنسب سبحانه التفرق والتشيع إلى الذين يفعلونه، لا إلى الدين ذاته. وقد أوضح الشاطبيّ هذا المعنى في كتابه الإعتصام.

أما المعنى الثانيّ، فهو أن التوَحّد الذي دعانا اليه الله سبحانه، ليس مقصوداً لذاته، بل مشروطٌا بأن يكون على هدى النبوة ومنهاج السنة، قال تعالى "وَٱعْتَصِمُوا۟ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًۭا وَلَا تَفَرَّقُوا۟" آل عمران 103. فأتي بذكر موضوع الإعتصام أولا وهو حبل الله، ومنهاج السنة النبوية الصحيحة، ثم دعا إلى الإجتماع عليه بعدها "جميعا"، ونهى عن التَفرّق وعن "الإجتماع على غيره" لا مجرد الإجتماع، ولم يقل "واعتصموا جميعا بحبل الله"، فكان الترتيب في الذكر دلالة على الأهمية في الفعل. وهو معنى عزيز جداً في الشريعة، وفي فقه الدعوة والحركة.

أما المعنى الثالث، فهو المعنيّ بإقامة الدين. فإن الإقامة لا تتم إلا بالرجوع إلى شرع الله في التحاكم بين الناس، كإقامة الصلاة، أي فعلها. والدين كلمة جامعة، يدخل تحتها كلّ ما هو من شؤون المعاش والمعاد، وقد وردت في القرأن بمعانٍ متعددة من قبيل إختلاف التنوع لا التضاد، فهي بالأساس "النظام" كما في قوله تعالى "مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ ٱلْمَلِكِ" يوسف 76، أن نظام حكم الملك. وجاء بمعنى الحساب "مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ" الفاتحة 4، وجاء بمعنى النظام التعبدي الشامل المرسل من الله "إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَـٰمُ " آل عمران 19. فإقامة الدين تعنى التواصل والإتحاد على تطبيق شرعه، وعدم التفرق في ذلك، فمن أتى بمعنى يستدل به من القرآن أو السنة على أن تطبيق الشرع في المجتمع ليس واجباً إلزامياً في دين الإسلام، فقد شقّ صَف الجماعة ودعا إلى الفرقة، ولو حشد من ورائه أهل الأرض جميعاً.

والمعنى الرابع، أن التفرّق في الدين الذي تعنيه الآية، في فهم مُراد الله، وفي تنزيل هذا المراد على الواقع، والخروج بإجتهادات شاذة مريبة لا تجرى على مهيع السنة ولا طريقة السلف ولا تتشبع بروح الشريعة ومنهج السلف، هو كذلك من أمور التفرق والإختلاف المذموم، إلا أن يكون في إطار الفقهيات التي تتعلق بمناطاتٍ فردية، لا قواعد أصولية. فإن صار التفرق في قواعد أصولية، فقد خرج إلى الإبتداع، ومنه إلى الكُفر إن تمادى المُنشَق في البعد عن الشريعة. وقد أوضحنا أقساماً ثلاثة في هذا الصدد في مقال سابق (الهوة العميقة .. التي تفصِلنا عن الإخوان).

وإذ نحن ننظر في كلمات الله التامات، ونستشف غورها ما أمكن لبشرٍ أن يفعل، فإننا نرى ما حَذّرنا الله منه واقعاً معاشاً في حياتنا. نرى المناهج المختلفة التي عليها تلك الجماعات والأحزاب، التي تتحدث باسم السّياسة، فتعارض الدين، ثم تتحدث باسم الدين فتعارض السياسة، في حين أن الدين والسياسة أمرٌ واحدٌ مجتمعٌ في شرع الإسلام. ومن ثم، تجد التنافرَ والتناحرَ والإختلاف والتفرق، والهوى والتعصّب، والتأويلات الفاسدة، وإتباع المُتشَابهات، والعدول عن المُحكمات، وتقديم الجزئيات على الكليّات، والتخليطُ في النظر إلى الأحداثِ الواقعات، وما شئت من أصول الحوادث المبتدعات. وما ذلك إلا بسبب الشخصيات المُتَهافِتات التي تتخذها الناس رؤوساً مُتّبَعات، وما يخرج به هؤلاء من إجتهاداتٍ متعارضات، لا تشملها قاعدة، ولا ينتظمها عقد، لا بسبب غموض الدين، أو صعوبة المناطات، بل بسبب فقر بعض الناظرين وجهل بعض المُتصَدِّرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين.