إزالة الصورة من الطباعة

المَشهد المَفروض .. والمبدأ المَرفوض

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

صَرفتُ أكثر من رُبع القرنِ الماضى، أعيشُ في الغرب، أتأمل وسائله وطرقه، وأشاهد مَسالكه وسبله، مما أرى واجباً عليّ، إن مدّ الله في العمر، أن أدون طرفاً من هذه المشاهدات، التي تأتي من واقع الحياة بين الناس، لا من سَماع أو اطّلاع. إلا إني أسبق بالقول أننى لم أغِب عن مصر لحظة، بفكر أو بقلم، ولم أتواني أن أواكب أحداثها يوماً بيومٍ منذ أن غادرتها مضطراً عقب مقتل السادات عام 1981. منذ ذلك الحين وأنا أشتاق اليها، وأعمل على العودة إلى ربوعها بشكلٍ دائمٍ، ما استطعت إلى ذلك سبيلا. ولا زلت أردّد قول شوقي

يا سَاكنى مصر إنّا لا نَزَال على         عَهدِ الوَفاء وإن غِبنا مُقيمينا

هلّا بَعثتُــم لنا من مَاء نَهرِكـــمُ            شيئاً نَبُلُ بهِ أحْشاء صِادينـا

كُلُّ المِنــاهِل بعد النيل آسِنَـــــةٌ            ما أبْعَدَ النيلَ إلا عن أمَانينا

وفي خلال هذه السنين المتطاولة، شاهدت العديد من العمليات الإنتخابية، في انجلترا وكندا وأمريكا. لكن الذى أريد أن أسجّله اليوم هو أنه خلال هذه السنين لم أشاهد، ولا مرة واحدة، بدلة عسكرية تظهر في وقت الإنتخابات، بأي شكلٍ من الأشكال، ولأي غرضٍ من الأغراض. لا وجود للعسكر في الحياة المدنية، على الإطلاق. بل ما رأيت، يعلم الله، إلى يومي هذا، رجلاً يرتدى بزة عسكرية في شارع من الشوارع، ولم أر سيارة عسكرية، إلا مرة أو مرتين، في طرقٍ ريفية جانبية.

ثم انتقل إلى المَشهد في مصر، بل في عالمنا العربيّ كله، فإذا العَسكر من حولنا في كلّ مكان! نحن محاصرون بالعسكر، فعلاً لا قولاً. كيف يخرج عسكريّ يتحدث عن دستور البلاد، كما يفعل شاهين الفساد؟ كيف يصدر عن عسكرٍ قوانين تحكم العباد، أيا كانت طبيعتها؟ كيف يخرج هؤلاء من جحورهم، يأمرون وينهون في أهل البلاد، وفي شؤون حياتهم ودولتهم؟ كيف يتحكم في  العقول المصرية العالمة ذات الخبرة، مجموعة من راسبى الثانوية العامة، أو أقرب إلى راسبيها؟

ما هي هذه الأسماء الغريبة التي لم تشارك في حياتنا السياسية ولا الثقافية ولا الإجتماعية من قبل، والتي لا يصح أن تشارك فيها الآن، ولا في أي آن؟ من هو هذا الملا وبدين والعصار والفنجرى وشاهين وعنان؟ ما هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ إن كان للعاميّ أن يعرف إسما من العسكر، فلعله، وأقول لعله، يكون الطنطاوى كوزير للدفاع (خيبة الله عليه)، أما من عداه، فهم مجاهيلٌ في مجاهيل. كأنهم مديرو مؤسسة للتخطيط والإحصاء، على سبيل المثال، ثم إذا بهم أسياد البلاد يُملون عليها قراراتها المَصيرية.

لم نر، في الغرب، بَزّة عسكرية على شَاشة التلفاز إلا يوم أن يستدعيها مجلس النواب، بل ولجنة الشؤون العسكرية في مجلس النواب (أو الكونجرس)، لمحاسبتها على أمر أو لمساءلتها فيه. ثم تختفى هذه الشخصية مرةأخرى في مكان عملها، إلى تقوم حرب، فتعود للظهور، في خلفية الصورة من وراء الرئيس ووزرائه.

أما هذه المهزلة، التى نعيشها، والتي تجعل صورة شاهينهم تصَبّحنا وتُمسِّينا، فهي إنما تقع في بلادنا لسببين، أولهما أننا لم نعرف معنى الحرية بعد. بل يشيع هؤلاء على التلفاز، وتشيع أدوات إعلامهم العميلة، أننا نعيش الديموقراطية أول مرة، لترسّخ في الأذهان أن الديموقراطية لا تتعارض مع وجود العسكر من حولنا في كل مكان، يحاصروننا ويلقون في روعنا أننا أحرار! يملون علينا دستورنا، ويحددون مهام رئاستنا، ويقفون بعد ذلك حراساً على الخراب، يحمونه ويرعونه. لكن، نحن "برضه" أحرار!

أم ثانيهما، فهو أن "رموزنا" لا يعرفون، هم أنفسهم معنى الحرية، فقد عاشوا كلهم بلا استثناء منذ رأت أعينهم النور، أو منذ نعومة أظفارهم على أحسن تقدير، تحت ظل حكم العسكر، فتعودت أعينهم رؤية العسكر، وبزات العسكر، وتحكمات العسكر، وتدخلات العسكر، وغابت عن أعينهم معاني الحياة الحرة، على حقيقتها. وليست هذه "الرُموز" كمن عاش نصف حياته في حرية حقيقية، أصبح حسّه بعدها لا يقبل هذا المَشهد المفروض علي أبصارنا، ومن ثم، لا يتقبل حِسّه ذاك المبدأ المرفوض، مبدأ وجود العسكر، وتَحكّم العَسكر ومُحاصرة العسكر. فكل مَفروضٍ مَرفوض، إلا من المَولى جلّ وعلا.

وبما أن الشئ بالشئ يذكر، فقد كتبت هذه المعارضة على قول شوقي، ولما أبلغ  كنت في السادسة عشر عاما

أبلبل النيل ما ضنت روافـــــــــده         عنك المياه ولفظ منك يروينا

إن غبت شطرا فما غابت قلوبكم          وإن نأيت فلا نسلو المحبينـا

إن عنّ للنيل يوماً أن يجافيكــــم           فالله يعلم إنا عنه جافينـــــــا