إزالة الصورة من الطباعة

نظرة في أطروحات العَمَل السياسي الإسلامي في الحاضر المصريّ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

ما يجرى اليوم على الساحة السياسية المصرية، وفي أروِقة الحَركة الإسلامية على وَجه الخُصوص، هو من أهم الحِراكات في تاريخ الأمة المصرية المُسلمة في العَصر الحديث، دون مبالغة.

وقد تَعرّضتُ، مراتٍ عدةٍ من قبل، للقوى السياسية، سواء الحزبية أو الجماعية، من ناحية تصوراتها ومن ناحية تحرّكاتها. لكن مقالي اليوم يتعرض لما هو كائن حالٌ من مواقفٍ، بُنيَت، بلا شك، على أطروحات فكرية محددة. وما ذلك إلا لما نعلم من الأثر المتبادل بين الأطروحة الفكرية والموقف العمليّ، فهما يتجاذبان أخذاً ورداً، وإن كانا يدوران، في غالب الأمر حول محورٍ ثابت لا يتعدّيانه، في هذا التَجاذب، إلا قليلاً. فإن ترى تغيّراً في أيهما، في بعض الأحيان، فهو نتيجة محاولات للتبرير أو للتنظير، التبرير للطرح النظرى إن تبدل، والتنظير للموقف العَملي إن تغير.

والواقع الإسلاميّ، كما تبلور بعد 25 يناير، يتلخص في قوى حزبية، تتحكم الجماعة التي نشأت عنها في توجهاتها. كذلك قوى فردية، قد اكتسبت شعبية وقوة نتيجة مواقفها أو أطروحاتها، وإن لم تنضم هذه القوى تحت تنظيم واحد، جماعيّ أو حزبيّ. ومن هذه القوى ما هو قديمٌ كالإخوان أو جديدٌ السلفيون، ومنها ما هو مستقلٌ كتجمع الشيخ حازم أبو اسماعيل.

وفي تحليلنا هذا، سنتجاوز عن الأفراد الذين ينتمون إلى العمل الإسلاميّ إسماً دون أن تكون لهم قاعدة شعبية حقيقية، نتيجة عِمالة أو ضَعف، مثل محمد سليم العوا وعبد المنعم عبد الفتاح.

وقد تناولنا هذا الأمر بالبحث، كَي يستطيع الشباب أن يفسر ما يرى، وأن يرى ما لا يجد له تفسيراً، في هذه المرحلة الضَبابية التي ليلها حالك كقطع الليل.

الإخوان

الطرح النظري: لم يختلف الحديث عن الطرح النظرى، أو التأصيل النظرى لجماعة الإخوان على مرّ تاريخها الطويل كثيراً في مرجعيتهم، التي تجمّدت عند كتب الإمام حسن البنا رحمه الله وتصوراته عن العقيدة والمنهج، ثم بعدها عند كتاب دعاة لا قضاة المنسوب لحسن الهضيبي. لا يكاد الباحث أن يرى لهم مرجعية أبعد من ذلك، فيما اتفقوا عليه. ثم تشعبّت بعد ذلك بهم الإتجاهات، بين مرجعياتٍ صوفية أو حديثية، أو ما شئت مما يدور في عالم المسلمين من اتجاهات. هذا الطرح النظري، يدور حول فكرة إرجائية تتمَحور عَقدياً - دون الدخول في تفاصيلها - حول تصحيح إسلام كل من نطق بالشهادتين، مهما قال أو فعل، وأن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان، وأن الأعمال مكملات لا تقدَح في الإيمان، وأن أفعال الكفر لا يبنى عليها ردّة أو تكفيرٌ، إلا بالتصريح دون العمل. وبإختصار فقد حّجّموا التوحيد قولا وعملا في نطق الشهادتين. وتتمحور عملياً حول قضية الحكم بما أنزل الله، وإعتباره واجباً كسائر الواجبات لا يُخِلُّ بالإسلام، ولا يَستدعى كفراً. هذا الطرح وهذه المرجعية النظرية للإخوان لم تتغير على مدى ما يقرب من ثمانين عاماً، وإن باتت أكثر عمقاً في إرجائها، وأكثر خطراً في أثرها.

ومما يجدر بالذكر هو أنّ الإخوان، في هذه المرحلة، لم تعبأ حتى بطرح تصورٍ نظريّ مجدداً، يدعم ما يتخذونه من مواقف، وما يصدرونه من قرارات.

الطرح العمليّ: وبناءاً على هذه الأطروحة النظرية، جاءت تصرفات الإخوان، ومواقفهم كلها، فكانوا، في غالب أمرهم، متسقون مع أطروحتهم، لا يختلفون معها أو عليها إلا في النادر القليل، كما نرى مثلا من توجه للأخ الكتور راغب السرجانيّ، أو من بعض آراء الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق فى بعض التصَورات النظرية.

هذه المواقف العملية، تتلخص في أن النظم السياسية الحالية نظماً عاصية منحرفة عن جادة الإسلام في بعض سياساتها، وإن كانت حكومات مسلمة، لا يصح الخروج عليها بالقوة. كما أنّ ذلك قد سَمَحَ لهم بالدخول في التشكيلات التشريعية سواءاً قبل 25 يناير، أو بعدها. ومن هذا المنطلق تجدهم لا يترَدّدون في عقد الإتفاقات والتحَالفات مع اتجاهات عِلمانية صَريحة، ولا يتحَرّجون في مقابلات شَخصياتٍ سَاقطة مثل عمر سليمان وسامي عنان من بعده. ويجب أن نُذَكّر بأن المنطلق التصورىّ للإخوان، مع ما واجهوه من تعقباتٍ أمنية على مدى عقود، قد أدى إلى تلك السياسة البرجماتية التى تنبنى على جلب المصلحة، ودرأ المفسدة، لكن على نطاق الجماعة، لا المجتمع، وهم يبرّرون هذا بأنّ مَصلحة الجَماعة هي مصلحة المجتمع، وهو طرح مبسطٌ ينشأ عن عملية نفسية تبريرية، يخرج بها أصحابها من وطأة الشعور بالإثم والحَرج.

من هنا خَرج قرارُ عدم الخروج في 25 يناير، ومن بعده عدم التصادم مع المجلس العسكريّ في كافة المواقف، والإكتفاء بتصريحات رمزية، أو الخروج إن خرجت بقية الجماعات، لا يستقلون بمواجهة أيّاً كانت. ومن هنا كذلك، أيدت الإخوان إخراج وثيقة، مع التحفظ على محتواها، لتفادى الصدام الكامل مع ما يعلنه المجلس العسكريّ.

ويجدر بنا أن نبين هنا نوعين منفصلين من الصدام مع السلطة:

من هنا فإن الطَرح الإخواني، يرفض حازم أبو اسماعيل، بل وسيرفض "السلفيون" في مَرحلةٍ قادمة، وسيكون أقرب إلى الكُتلة المِصرية من أي حِزب إسلاميّ، وسَيولى المَجلس العسكريّ كل فُرصة مُتاحة، وسيقف منهم مَوقف المُساند الحَنون، أو المُعارض المُقلُ في الظُنون. لن يُعارض الإخوان المجلس المدني الإستشاري، ولن يُعارضوا إصدار وثيقة ذات أرضية مُشتركة مع العِلمانية، لا تَكتيكا وتَحيّلاً، بل ديانةّ ومَذهباً.

فالرابط إذن بين التأصيل النَظريّ والطَرح العَمليّ في الإتجاه الإخوانيّ قائمٌ متوازنٌ، لا يَختل، بل يمكن تتبعه بسهولة ويسر، مما يجعل البناء على تاريخهم لفهم ما قد يأتي منهم، سَهلٌ أقرب إلى الصّحة من غيرهم.

*****

السلفيون

الطَرح النّظري: والسلفيون، عكس الإخوان، لهم طرح نظريّ قوى رشيدٌ، من الناحية العقدية، يقوم على صحيح السنة بشكل خاص، وعلى إجتهادات الإئمة المعتمدين في مذهب أهل السنة. وفهمهم للتوحيد وجوانبه قوى صحيحٌ، لا غبش فيه، من الناحية الإرجائية البدعية، إلا من مال منهم إلى الفرع الجَاميّ المَدخليّ. فهم يعرفون توحيد الربوبية وتوحيد العبادة، ويعتقدون في قضية التحاكم وأصوليتها ومكانها من التوحيد والإسلام، ويعتقدون الولاء والبَراء، ويوحّدون النُسك، ولا يرضَون بالبدع.

أما من ناحية الفقه، فقد وَقعوا في مزالق من التصَق بالحديث، على شَرفه، دون أن يعتبر أطراف الأدلة الشرعية عامة، ففرقوا المُجتمِع، وجمعوا المُفترِق، واعتبروا جزئيات ضَربوا بها كليات، وشذوا في عدد من الفتاوى، خاصة حين يختص بأمرٍ له علاقة بواقع معاش.

كما أن بعضا منهم، مثل حجازى يوسف ومحمد حسان، قد سادت فتاواه تلك النبرة التي تبجّل الحاكم، وإن حكم بغير الشريعة وحارب أولياء الله، على فرق واسعٍ بين سذاجة هذا وعمالة ذاك.

الطرح العمليّ: وتأتي مأساة الإتجاه السلفيّ في الجانب العمليّ. فمنذ خرجت حركتهم إلى النور في مصر، في بداية السبعينيات، وهم يتسمون بالنظرية، والبعد عن السياسة وأهلها ومجالها. وقد تقوقعوا على أنفسهم، منذ بداية الثمانينيات، واعتزلوا السياسة، وحرموا الإشتراك فيها كليّة، ومنعوا الدخول في البرلمانات، وخالفوا الإخوان وعادوهم، وشَهّروا بهم، ورموهم بكل بدعة، وهو صحيح في ذاته. كما كفروا بالديموقراطية، وكفروا من رضى بها وعمل من خلالها، وها هما رابط للشيخ محمد عبد المقصود (أرسله اليّ الأبناء القراء)، يوضح رأيه في الديموقراطية قبل 25 يناير، ويُبيّن رأيه في المشاركة البرلمانية !  http://www.youtube.com/watch?v=JVz_EDw4-0g

إلا إن مُشكلتهم الأصيلة تكمُن في أن علمهم وبناءهم النظري ككُرات الثليج المُتساقط من السماء، تراها لامعة جميلة جذابة للنظر وهي محلقة بين السماء والأرض، فما أن تمسّ الأرض حتى تختفى دون أثر! فما أن قامت انتفاضة 25 يناير، وسُمح لهؤلاء بالحركة الطليقة دون خوفٍ، أو حاجة إلى التعاون مع أمن الدولة كما كان الحال من قبل، حتى أنشأوا حزباً - حزب النور، بمرجعية تسيطر عليها "رموزهم"، كما في حزب الإخوان المُسمّى الحُرية والعدالة. ثم ألقوا بكل ثِقلهم خَلف العملية الإنتخابية، والبرلمان، إذ وجدوا أن سَيكون لهم فيه نَصيب. وعَارضوا كلّ مبدإٍ وضَعوه من قبل، دون أن يقدّموا سَنداً واحداً في أطروحة جديدة تبين ما يستندون عليه في هذا، إلا قول الشَيخ محمد عبد المقصود بأن الألباني وبن عثيمين قد أباحاها، وكأن هذا القول لم يكن موجوداً قبل 25 يناير!

والعجيب في الأمر أنهم لا يزالون يقولون بتكفير من لم يحكم بما أنزل الله، أو من رفض الشريعة، لكنهم، ما أن يتوجّه الحديث إلى المجلس العسكريّ، يرجعون إلى القول بطاعة الحاكم، ولا يجرؤون على تكفير أمثال شاهين الذي صرح بأن الدولة العلمانية لا بديل لها عند المجلس العسكريّ! 

فأمر السلفيين أنّ إتجاههم لا يطرح تصوراً حقيقياً مقبولاً للوضع القائم، ولا يمكن أن يعرفَ الباحثُ أين يتجهون في معاملتهم مع السلطة القائمة، أيقفون في وجهها إن حاربت الشريعة، أم يقنعون من الغنيمة بعشرين بالمائة من المقاعد، وينتكثون إلى لعبة الديموقراطية التي كفروا بها من قبل؟ هذا ما ستكشف عنه الأسابيع القادمة.

فالرابط إذن بين التأصيل النظريّ والطرح العمليّ مقطوعٌ غير موصولٍ في إتجاه هؤلاء السلفيين، كما بيّنا، مما يجعل التنبؤ بردرد أفعالهم، أشبه بضرب الودع منه بأي شئ آخر.

*****

دعوة أهل السنة والجماعة لإحياء الأمة

وهي جماعة من الشباب الذي التزم بدعوة أهل السنة والجماعة، كما قدمها الشيخ الفاضل عبد المجيد الشاذلي. والشيخ الشاذلي، ليس كغيره من الدعاة، ممن يترك الجانب التنظيريّ سداحاً مداحاً كما يقال، وكما تفعل الإخوان، كما لا ينأي بنفسه عن التصدى للواقع العملي، بأقصى تَجانُسٍ مُمكن كما يراه ويؤمن به. ومن ثم، سنقدم الطّرح الذي قدّمه فضيلته، كممثل لهذا القطاع الهام من المسلمين.

الطرح النظري:

والقاعدة النظرية التي ينطلق منها الشيخ الشاذلي، ثابتة لم تتغير، من حيث أصولها، فهو يرى الحاكمية الشرعية والولاء والبراء أصل من أصول التوحيد، وأن البِدعة شرٌ مَحضٌ، وأن من لم يحكُم بما أنزل الله كافرٌ، كمن رَضي بالعلمانية ونادى بها ودَعمها وقاعدته النظرية مؤصّلة في كِتابه حَدّ الإسلام.

وقد التزم الشَيخ الشاذليّ ما انبنى على طرحه النظريّ طوال العقود السالفة منذ أن فكّ الله أسره في منتصف السبعينيات، إلى أن وقعت أحداث 25 يناير. وقد قدّم الشيخ أطروحته النَظرية في عُجالة اتسمت بالوضوح، في الحلقة التي وضَعتُ وَصلتها هنا لمن أراد http://www.youtube.com/watch?v=B5hf1e3MzHE، تحت عنوان الأوجة الصحيحة والخاطئة لمشاركة الإسلاميين السياسية

وفي هذه الحلقة، أكد الشيخ التزامه بكل التفاصيل العَقَدية التي نَصَرها من قبل، إلا إنه أضاف طَرحاً نظرياً جديداً أسّسه على المناط الحالي للأمور بعد الثورة، واستلهام أحداثها، ومن ثم غيّر بعض اجتهاداته. وسواءاً وافقنا عليها أم خالفنا، فإنها اجتهاداتٌ مؤصّلَة، لم تُتْرَك ليَرجُمَ الناسُ بشأنِها الغَيبَ، كما فعل غيره.

فمن الناحية النظرية، يفرّق الشيخ بين رؤيتين للواقع، أولهما رؤية إصلاحية ترى أن الواقع إسلاميّ شرعيّ، وأن المطلوب هو العمل على إصلاحه لا تبديله، كما ترى الإخوان في العهود السابقة. وذاك الواقع هو ما عَاشه سيد قطب، وانبَنت عليه أقواله ودارت حولَه أفكاره، من ناحية أن الأمر يحتاج إلى مفاصلة للتبديل لا للإصلاح، فأراد أن يحمي حمى التوحيد المُغبّش في عقول الناس. ورؤية أخرى، في واقع جديد، ترى أن الواقع، وإن كان لا يزال جاهليا، إلا أن المشاركة فيه مبنية على أنّ الوضع الآن يختلف عنه أيام سيد قطب، من حيث أنّ التوحيد قد صَار أكثر تحديداً وقبولاً عند الناس وعند العَاملين في الحَقل الإسلاميّ،  وأن دخول المسلمين الآن في العملية السياسية الإنتخابية ومشاركتهم فيها، هو من أجل أن الوضع بات صراعاً على إسلامية الدولة، لا من أجل الإصلاح كما كان من قبل، فهو اشتراك ضرورة. وإسلامية الدولة لا تعنى أنها تصبح دولة إسلامية على منهاج النبوة، بل لتصبح دولة "ليست علمانية"، في المرحلة الحالية، ثم يستمر الصراع لإقامة الدولة الإسلامية الصحيحة بعد مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وتحسين أحوال الناس، وتلبية حاجاتهم التي تصرِفهم عن التفكير في التوحيد أو في غيره. ومن ثمّ، فهو لا يرى أنّ المُشاركة تنافي تأصيل التوحيد والإتجاه العلميّ في نشره.

فالأمر إذن الآن، كما يقول في هذا الطرح، يجب أن يكون قدراً مشتركاً بين أي توجه اسلاميّ وهو منع علمنة الدولة، فهي مشاركة تكتيكية لا استراتيجية، تمهد لما بعدها. وقد أسماه مشاركة الممانعة (أي لمنع الضّرر)

وقد اشترط الشيخ لهذه المُشاركة ثلاثة شروط:

ثم النوع الثاني من المشاركة، وهو مشاركة التعاون إذ هو لم يمانع في التحالف مع القوى العلمانية الوطنية المُخلصة في هذا النوع الثاني من المشاركة، لا العميلة التي يُطلق عليها "علمانيو ثقافة كامب ديفيد"، بشرط حفظ الثوابت الثلاثة.

ثم، ما أسماه المشاركة القديمة، وهي النوع المرفوض، وهو المشاركة التي تنقض الثوابت الثلاثة، كلها أو أحدها، كما كان يحدث في السابق.

الطرح العمليّ: وهو واضح مما سبق، مبنيّ عليه، فإنه يُجوّز دخول البرلمان، بل يراه واجباً يأثم تاركه، بناءاً على ظروف المرحلة الحالية، من تربّص العِلمانية بالدولة الناشئة، للإنقضاض عليها وسلبها هويتها ودينها.

أما عن التظاهرات والإعتصامات، فقد بين الشيخ الشاذلي أنه لا يمانع فيها، كما أورد على صفحته بالنت، وكما أرسل إلىّ، تعليقا على إحدى المقالات السابقة.

فالرابط إذن بين التأصيل النظريّ والطرح العمليّ عند الشيخ الشاذليّ، موصولٍ ممهدٌ لا عوج فيه، وهو أليق بطريقة الشيخ الأصولية، ومنهجه التأصيليّ.

*****

وبين هذه الأطروحات الثلاث، تجد أن كل علمٍ من أعلام الدعوة منتسبٌ اليها وحدها، أو متفرق الرأي بينها.

فالشيخ المُجاهد حازم ابو اسماعيل، يتفق مع الطرح النظريّ السلفيّ، ولا يبعد عن الطَرح الشَاذليّ التأصيليّ، وإنما يخالف السلفيين في بنائهم العمليّ الهَشّ، الذي لا يوافق أطروحتهم النظرية، ويؤكد على أهمية الميدان ومواجهة العسكر أكثر مما يؤكد عليها الشيخ الشاذليّ. وعلى ذلك يجرى الشيخ رفاعي سرور وأمثاله من العلماء المجاهدين.

*****

ثم، آن أوان أن أوضّح ما أرى في هذا الأمر، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان.

الطرح النظريّ: وإنى لا أخالف الطّرح النَظريّ الذي وجّهه أخي الجليل الشيخ عبد المجيد الشاذليّ، سواء في التوحيد، فنحن فيه مدرسة واحدة، أو في تقييم الواقع من حيث ضرورة مجابهة الكفر في أية صورة ظهرت، كما بينت في مقالاتي السابقة، وعليها صَرّحت بعد الثورة، بحِلِّ الإشتراك في الإستفتاء، وأرجأت القول في البرلمان لحين يأتي الحين. ثم، قلت بحِلّ أو نَدب الإشتراك في الإنتخابات، لمّا ظهر دفع العلمانيين نحو الإستيلاء على البِناء التشريعيّ، ثم لمّا رأيت أنها تُصرِف الناس عن الخروج لإسقاط المَجلس العسكريّ، وهو تماما مقصودهم من التأكيد على إجرائها في وقتها، قلت بحُرمتها ذريعةً، لا أصلاً. وهو ما دفع أحد القراء لأن يرميني بالذبذبة والسَّطحية! وإنما هو، مسايرة لقاعدة تغير الفتوى حسب تغير الحال، مما لا يعرف قدرَها إلا العلماء. أما حلّ المشاركة في الإنتخابات، فقد ذكرت من قبل أن الإنتخابات في حدّ ذاتها وسيلة لهدف، ليس هدفاً بذاتها، فإن أنتجت نظاماً إسلامياً، ودفعت الكفر عن الدِّيار، فلا يمنع عاقل من الإشتراك فيها. وإنما منعنا من المشاركة فيه من قبل بالمنهجية الإخوانية، لما بُنِيّت عليه من شَراكة تستلزم الشِرك، في صورة مُشاركة، فالمجلس الناتج هو مجلس شِركيّ دون تحقيق أي نتيجة للمسلمين.

الطرح العمليّ:

والحق إنى أخالف الإتجاه الإخوانيّ تمام المخالفة، كما لا أتفق، لهذا السبب ذاته، مع طرح الشيخ عبد المجيد في بعضه، وإن اتفقت معه في بعضه الآخر.

فالشيخ الشاذليّ يعتبر أن الإتجاهات الإسلامية، تشترك معه في طَرحِه النظريّ، ومن ثم، هم يعلنون المُشاركة من باب المُمانعة، وأن البرلمان القادم هو بابٌ للوصول إلى الدولة المسلمة، من حيث لا يمكن الآن، تحت الظروف الداخلية والخارجية أن ننشأ دولة إسلامية حقيقية. وهو، فيما أرى، كلامٌ لا يُمثل الحقيقة الواقعة.

فالإخوان لم يُغيروا من فِكرهم، الذي أسماه الشَيخ المُشاركة القديمة، شئ على الإطلاق. بل إنهم أوغلوا فيها لدرجة أنهم رفضوا أن يرشحوا أو يساندوا مرشحا إسلامياً، كالشيخ حازم. هذه الثقة التي يلقيها الشيخ عبد المجيد في الإخوان، هي ثقة في غير موضعها. وهو بالذات، الأحرى بأن يعلم هذا تمام العلم. الإخوان لن يَصطدموا بالمجلس العسكري مهما كان السبب. الإخوان لم يدعموا أي موقف رجوليّ تمليه شهامة الإسلام. هل نسينا موقفهم من كاميليا وأخواتها؟ لم يُصدِروا حتى بياناً بالإستنكار! ماذا عن حبس الشيخ يحي؟ هم يستنكرون على من ذَّكر البابا بِشَرٍّ، لكن يضعون ذيولهم بين أرجلهم إن كان الأمر يتعلق بإسلاميين. الإخوان لا يزالون على تبنّى قول بن عباس "كفر دون كفر"، في غير مَوضعه، وهم لا يزالون يُعلنون أن طريقتهم العملية مَبنية على التوافق لا التَدافع، وهم يقصِدون التوافق مع كافة الإتجاهات العِلمانية، بدليل موقفهم من البرادعيّ. فدعمهم ليس دعماً لهذا التصور، إلا إن كان من باب إختيار أسوأ الضّررين، وهو ما يجب بيانه إن أردنا القول به. لذلك فإن إعتبار أنهم ممانعون مجافٍ للحقيقة مجافاة مؤكدة، أو إنهم، في مشاركتهم، قد أخذوا شرعيتهم من الإعلان الدستوريّ لطارق البشرى، وفيه المادة الثانية. وهذا القول الأخير، يعتبر تبسيطا شديداً للأمور إذ الجيش حريصٌ على المادة الثانية التي تؤكد على مبادئ الشريعة لا أحكامها، استغفالاً للشعب، واستدراجاً للمُتبسِّطين من التيارات الإسلامية.

ثم إن تصوّر أن الثورة الثانية هي مقصودة لضرب الإنتخابات، وإسقاط التيارات، غير صحيح في نظرى، إذ إن العسكر قد تصَرّفوا في هذا الأمر من وَحى السَاعة، فأرادوا ضَرب المُعتصمين، وإنهاء أي تجمعٍ قد يكون منظماً ليوم السبت، ولم يحسبوا حساب أمثال الشيخ حازم أبو اسماعيل، ثم لم يعرفوا كيف الخروج من هذه الورطة، إلا بالتأكيد على الإنتخابات في موعدها، مع صرّح بوقهم شَاهين للتأكيد على أنه سَيكون بَرلماناً صُورياً على أية حال.

ثم إنه يجب أن نتصدى بوضوحٍ للسؤال الذي يتناول مسألة إباحة الإشتراك في البرلمانات اليوم، بعد مَنعها طوال العهود السابقة، هل كان المَنع عقدياً، أم مصلحياً؟ وهي نقطة لا تزال غير مطروقة في أيّ من طرحيّ السلفيين ودعوة أهل السنة والجماعة، وإن كانت واضحة جلية في مذهب الإخوان، أن المنع والإباحة في هذا الأمر يتعلق بالمصالح والمفاسد، ولا مكان للناحية العَقدية فيه. وهذا التساؤل يشغل بال الكثيرين من شباب دعوة أهل السنة، وإن لم يشغل بال أبناء السلفية لنزوعهم للتقليد والسير وراء المشايخ مهما قالوا.

ولا أريد أن أتحدث باسم الشيخ الشاذليّ، ولكنى كنت أقول بتحريم دخول البرلمان في العهد السابق من باب العقيدة، ومجانبة الشرك، لا من باب المصلحة، وإن كان تجنب الشرك هو مصلحة في ذاته، إذ إن المَقصد العَام للعقيدة والشريعة هو جلب مصالح العباد في الدنيا والآخرة، كما هو مقررٌ في علم الأصول. فإرتباط الجَانب العقديّ بالمصلحة والمفسدة غير مقطوعٍ، بل مَوصولٌ مؤكد. والجانب العقديّ في ذاك التحريم يقوم على أمرين:

  1. أنّ المجلسَ النيابيّ يتحاكَمُ إلى شِرعَة الجاهِلية، ويضَع قَوانيناً تضاد ما أنزل الله، وأنّ مرجعيته جاهلية كفرية.
  2. أنّ إشتراك الإسلاميين لن يغير من مناط التحريم شيئاً، لعوامل عدة، منها أنهم أضعف قوة وعدداً للتغيير. وقد تشتبه هذه النقطة بأنّ التحريم قائمٌ على حساب المصالح والمفاسد، ونصَحِّح هذا التوهم بأنّ هذه النقطة تتعلق بالقدرة على التغيير، وهي مطلوبة في التصور العقدى قبل العملي، إذ إنها مهمة الرسالات وعَمل الأنبياء، أن يتمّ التَغيير من حكم الجاهلية إلى حكم الإسلام، إن تحققت القدرة، فإن تحقّقت ولم تُستغل كان الإثْم أوالكُفر، حسب وضع المُخالف.

وقد ذكرت في بداية الثورة أنّ الوضع الجديد الذي نشأ نتيجة الخَلخَلة في البنَاء الكفريّ القائم، من إزالة رأسه وبعض رموزه، وإسقاط دستوره، وإعلان موادٍ دستورية مؤقتة تحل محله فيما أسموه بالفترة الإنتقالية، يغيّر من مناط التحريم العقديّ، في كلتا الأمرين اللذين ذكرناهما. فبالنسبة للأمر الأول، لم يعد هناك مجلس نيابيّ تشريعيّ أصلاً، بإسلامٍ أو كفر، وإنما استلب الجيش السلطتين التشريعية والتنفيذية بصفة مؤقتة، كما هو مُعلن، لحين تشكيل المَجلس الجديد، وتحديد هويته من خلال عملية الإقتراع. هذا الأمر فتح باب القدرة على التغيير بطريقة سلمية، إن كانت فرصة نجاحها تكاد تكون معدومة إلا إنه لا يصح تركها بالكلية. بل الأصح أن لا نَجعلها تشغلنا عن المنهج الأصلي الربانيّ في التغيير، والذي يَنبع من مبدأ أن الكفرَ لا يُزاح إلا بالقوة، سِلمية أو مُسلحة. ولهذا السبب راوَحْتُ بين إباحة الإنتخابات مؤخراً ثم تحريمها لمّا طَغَتْ على الأصل.

أما الأمر الثاني، فإن إمكانية التغيير أصبحت أمراً واقعاً محسوساً، تتنازع فيه قوتان، إحداهما الغَالبية المُسلمة، والثانية هي الأقلية العِلمانية الكَافرة، ومن خلفها المَجلس العَسكريّ يمْكُر مَكْرَه، ويُزَيّن إثمَه. فأن نترك هذه القوى تسيطر على المَسرح التشريعيّ، ولو صُورياً، دون أن نحاول السيطرة عليه، بحقنا، هو إثم بلا أدنى شك، فإن الأمر لا يزال في مرحلة التكوين، ولم يُبنَى البناءُ بعد، فأن يقال أنه إن حاول أحد الكافرين وضع لبنة في البناء، حَرم علينا أن نبنيه لِحماية حقنا، لهو منطق أخْرَق. أما الأمر من قبل فقد كان وضع لبنة مسلمة في بناء كافر مهترئ قائم أصلا، وشَتّان بين الصورتين، لمن عقل.

أما عن إمكانية قيام الدولة الإسلامية، فإننى أرى، والله تعالى أعلم:

ومن هنا نذهب إلى أن التوافق الذي تسعى اليه الإخوان هو من صميم أطروحتهم، وأن الإضطراب الذي يعيشه السلفيون، هو من غياب أطروحتهم العملية، وتناقضها مع التصور النظري. وأن البديل الحقيقيّ هو فيما عرضنا من طرحٍ.

*****

بعد هذه الإطلالة على المذاهب النظرية والعملية للتجمعات الكبرى على الساحة السياسية الإسلامية في حاضر مصر، فإننى أدعو الجميع، إلى توحيد الصف، ورفع راية التوحيد، والإستعلاء على الخِلاف، ومد يد التوافق، مع الإسلاميين لا مع العلمانيين، فالحق بين، والباطل بين، والثمرة ناضجة، وما تحتاج إلى يد الجماعة تقطفها.

فإن تعذر هذا، وهو صعبٌ جداً، فعلى شباب المسلمين أن يأخذ المبادرة، وأن يسير حسب ما تهديه اليه الفطرة، لا ما تمليه عليه بعض المشايخ، ممن شذّ وخالف.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.