إزالة الصورة من الطباعة

فقه إعتزال الفتنة .. بين الحق والباطل

الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم

العزلة والإعتزال هي مجانبة أمرٍ، وعدم الإختلاط به، قال تعالى "وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا۟ لِى فَٱعْتَزِلُونِ" الدخان 25، أي لا تكونوا معي ولا عَلَيّ.

والإعتزال في القاموس الديني، يعبر عن مفهومين، كلاهما نشأ في القرن الأول الهجريّ، ثم ترعرع واشتدّت مخالبه في القرن الثاني وبعدها، وهما كلاهما بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.  أولهما، بدعة الإعتزال، التي نشأت كموقف فكريّ اتخذه واصل بن عطاء لمّا إعتزل مجلس الحسن البصريّ، حين لم يوافقه على أنّ العاصى ليس بمخلدٍ في النار، وخرج على الناس ببدعة المنزلة بين المنزلتين، ثم توسّعت بعد ذلك مناحى الفكر الإعتزاليّ، ثم تحول إلى مذهبٍ سياسيّ في عصر المأمون وبعده، إلى أن قضى عليه المتوكل سياسياً. والثاني، هو بدعة الإرجاء، والذي نشأ نتيجة لعدة عوامل، لا يتسع المحل لبيانها، وإن كانت تدور كلها حول التحولات الإجتماعية التي صَاحبت التوسع في الفتوح الإسلامية، والتي ساعدت على زيادة  التفلّت من التكاليف الشرعية، خاصة وهي مما يرضاه الملوك لسببين، أن التفلت يوافق هواهم، إذ يمكّنهم من الإسترخاء في إباحة مَحظورات شرعية، ثم إنه يشغل العامة بالفجور والفساد، فينشغلوا عن بلاء الحكام والإنتباه إلى مخالفاتهم.

وقد ربطنا الإرجاء بالعزلة أو الإعتزال لسببين، أولهما أن عدداً من المؤرخين المُغرضين، قد أرجع نشأة الإرجاء إلى ذلك الموقف الذي اتخذته "قليل" من الصحابة، إبّان فتنة علىّ ومعاوية رضى الله عنهما، وفسّروا موقف هؤلاء الصحابة وتردّدهم في الإنضمام إلى صفٍ ضد صف، هو من قبيل التردد في إطلاق صفة المَعصية على أيّ من الفريقين المُتناحرين، الذي تطوّر بعد ذلك عن طريق المُجادلة والمُماحكة إلى مذهب الإرجاء.

وقد سايرنا هؤلاء فيما ذهبوا اليه ردحاً من الزمن، إلا أننا خالفناهم بعد أن مَحّصنا النظر في الأسباب الداعية لموقف الصحابة، ودَققنا النظر في المصطلحات المُستخدمة في هذا الجدل، وهو أمر قد يغفل عنه الباحث، فيَقع في إشْكالات وأخطاء تبعُد به عن وَجه الحق.

والحقّ أن موقف الصحابة من اعتزال القتال الدائر بين على ومعاوية رضى الله عنهما لا يمت للإرجاء بصلة، ولا يمت لما يتولاه هؤلاء من "معتزلي الفتنة" الجدد، ممن يحبون الإنتماء لأهل الحديث، بصلة. والقصة بتمامها لا شأن لملابساتها بما نحن فيه، بل هي على العكس تماماً مما فيه الناس اليوم.

كان أصل الفتنة الكبرى، حادثة مقتل عثمانٍ رضى الله عنه، والتي تولى كبرها ثائرون خارجون عن شَرعية عثمانٍ رضى الله عنه ، الخليفة الراشد الثالث، صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يعيش بشرع الله ولشرع الله، لا حسنى مبارك ولا المجلس العسكريّ، الذين ينصرون الكفر ويشيعون الفاحشة ويُصِرّون على تقنين ما يضاد الشرع، عياناً بياناً. وقد عارض عثمان رضى الله عنه أية محاولة لقتال هؤلاء، حتى إنه ردّ عبد الله بن عمر رضى الله عنه بعد أن لبس درعه للقتال. فهذا إمامٌ يأبى قتل مواطنيه لا العكس. فإن احتجّ أحد تلك الفتنة أو الثورة، على أنها خروجٌ على الحاكم لا ينشأ عنه إلا الضرر، رميناه بالخبل أو الهَبل. ثم من بعد ذلك أبَى الناسُ إلا أن يُبايعوا علياً رضى الله عنه، فبايعه كافّة الصحابة إلا طلحة والزبير رضى الله عنهما، وعائشة رضى الله عنها، فما كان من علىّ، كخليفةٍ وولي أمرٍ شرعيّ للمسلمين، أن يطالب هؤلاء بالدخول فيما دخل فيه الناس، وكان ما كان من وقعة الجمل، وآبت عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها عن إجتهادها إلى الصواب في هذا الأمر. وكان طلحة والزبير رضى الله عنهما قد انحازا إلى عائشة رضى الله عنه، أولاً ثم عادا عن قتاله قبل أن يحمى الوطيس، في قصة معروفة.  أما معاوية رضى الله عنه فقد آل اليه اجتهاده أن يعاقب الخارجين قبل أن يبايع علياً رضى الله عنه. وقد إنحاز كثيرٌ من أكابر الصحابة إلى عليّ مثل أبو موسى الأشعريّ وعبد الله بن عباس وجرير بن عبد الله البجليّ وعمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت الأنصاريّ والأشعث بن قيس رضى الله عنهم، وغيرهم. كما إنحاز آخرون إلى معاوية وعلى رأسهم عمرو بن العاص رضى الله عنه. وما كان موقف عبد الله عمرو بن العاص إلا موقفاً فردياً، إزاء كلّ هؤلاء الصحابة الذين انحازوا إلى أحد الطرفين، أيا كان هذا الطرف. وما حقيقة قول هؤلاء الذين يحتجون بموقف عبد الله بن عمرو بن العاص إلا تخطئة جلّ الصحابة، بل وتخطئة عليّ نفسه في الخروج لقتال أهل الشام. وهذا القول فيه ما فيه من الخطل.    

إن مبدأ اعتزال الفتنة لا يكون إلا بشرطين، أولهما أن تكون الأمور عمية لا يُعرف الطرف المصيب فيها، وكلاهما على فضلٍ وأمانة ورغبة في نصرة دين الله. والثاني أن يكون هذا الإعتزال فرديا، أو جزئياً، لا كلياً عاماً، فنصرة الحق كفرض الكفاية الذي يجب أن يقوم به المجموعة من الناس بما يكفى إقامته، ويأثم كلّ من تأخّر عنه إلا أن يتم الواجب بمن قام فعلاً، ويكون فضل المشاركة للناهض، ويسقط إثم التخلف عن القاعد أو المعتزل.

من هذا العرض يتبين أنّ عدم الخروج في وجه الطغيان والكفر والحكم بغير ما أنزل الله إثمٌ وجناية، لا يصح أن يتمحك أي مدعٍ للعلم فيه بمثل هذه الأحداث التي تختلف كل الإختلاف في مناطاتها، وأبعادها وحالة أشخاصها وغاياتهم، وكل ما حولهم.

إن الموقف الذي يقفه اليوم متخاذلي "الإخوان"، أرباب السياسات المصلحية الإقصائية البراجماتية، و"السلفيون" من محدثى نعمة التسيّس، لا أصل لها ولا سند من صحيح منقول أو صريحٍ معقول، بل هي تواطئ صريحٍ من الإخوان، كعادتهم في التمحك بالحكام، واستجداء رضا السادة السلاطين، وهي ذهولٌ عن الحق وبيع لدين الله من السلفيين الذين عاشوا دهراً لا يعرفون طعم السياسة، فلما ذاقوها، باعوا الله ورسوله، واطمأنوا بالبرلمانات والإنتخابات، ووعدوا أنفسهم بنصر يأتيهم بمجاراة الفاسدين، وهم يتلون قول الله تعالى "إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ" يونس 81.

ثم إن هؤلاء لم يفعلوا ما وصّى به نبي الله موسى عليه السلام، فهم لم يعتزلوا "الفتنة" في حقيقة الأمر، كما يسمّونها تخويفاً للعوام، بل إنهم ينتصرون للباطل بالوقوف في جانبه، ومحادة من يريد إقصاءه، والعمل من خلال تنظيماته وتشكيلاته، وما سمح لهم فيه من هامش حرية بعد أن أمسك بخطامهم في يده، يترك لهم الحبل على غاربه حين يسمح لهم أن يَسرحوا، ثم يجذبهم إلى حظيرتهم إن أبعدوا الشُّقة، وتصوروا أن لهم من الأمر شيئاً. هذه التشكيلات التي أعرب عن أنه سيحمى علمانيتها بِقدّه وقديده، وسِلاحه وحديده، بل ويعمل جاهداً أن يضع قوانين تكرس هيمنته، ومن ورائه الصهيونية والصليبية، على مصر ومقدراتها.

إن هذا الموقف المهين لن يأتي إلا بتصدع الأمة وتخلفها وإبقائها ترسف في أغلالها عقوداً وقروناً، لا لشئ إلا لصاحب فضائية يريد أن يُمَولها، أو لصاحب عِمة لا يريد أن يهينها في سبيل الله، أو لأصحاب هوى يريدون أن يذكر في التاريخ أنهم تولوا الحكم عام كذا وسيطروا على البرلمان عام كذا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لا والله لا حُجة لهؤلاء في التُخاذل والمُهانة والرضا بالدون، "وَسَيَعْلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا۟ أَىَّ مُنقَلَبٍۢ يَنقَلِبُونَ" الشعراء 227