إزالة الصورة من الطباعة

لعبة البرلمانات .. واستغفال التيارات!

الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم

الواقع الحاليّ في مصر يشهد أنّ الجَذوة التي اتّقدت في 25 يناير، والتي حرّكت ملايين البشر للخروج والوقوف في وجه الرصاص والقنابل، قد خَبى لهيبها، ولم يبق منها إلا آثارٌ تتوهجُ تحت رَمادٍ كثيفٍ اصطنعه أصحاب السلطة والقرار من العسكر والحكومة، يمنعُ الهواء عن الوَهج، ليخمِده بعد أن أخفته.

من ذلك الرّماد الذي ذرّوه لإخماد الجذوة، تلك اللعبة السّخيفة التى شغلوا بها الناس، فانشغل بها الناس، وغاصَ في وَحْلِها ووَهْمِها أهل "التيارات الإسلامية"، من تسمياتٍ وترشيحات، وقوائم فردية وجماعية ونسبية ومعنوية! وأشياءٍ يعلم الله، والراسخون في العلم، أنها لعبةٌ لن تنتهى إلا إلى شكل نيابيّ كرتونيّ مُهترئٍ، لا يختلف في فحواه أو جدواه عن برلمان 2005، إلا في نسب المقاعد، وأسماء الأحزاب.

جوهرُ الحياةِ النيابيةِ هو الحريّة الطليقة، التي لا تتقيد إلا بما قيدها به الله سبحانه. لا رقابة عليها، ولا قوانين مقيدة لها، ولا أجهزة أمن تُفزِعها، ولا سُلطة أعلى منها تُكبلها. وهذا بالضبط هو ما لا يوجد في المُخطّط العَسكريّ للبرلمان القادم. الحرية لا تأتي بعد تكوين البرلمان، إنما الحرية تكتملُ قبل تكوينه، فإن تشكّل هذا البرلمان تحت إطارٍ ديكتاتوريّ لا حرية فيه، فقد وُلد ميتاً، لا ديّة له.

العسكر الآن يتحَكمون في كافة أشكالِ الحياة ومرافِقها ومفاصلها، يُقنّنون ويُخَطّطون، بلا أي هامشِ حرية لأية جهةٍ تريد أن تستروِح نَسمة حرية، وإن كانت علمانية، كما رأينا ما حدث مع يسرى فودة بالأمس، بل ولو كانت الحكومة ذاتها، كما ردّوا قرارات عصام شرف مرات بعد مرات. وقد نَجَحوا في بيع قصة "الجيش خط أحمر"، و"مؤامرة الوقيعة بين الجيش والشعب"، وهذه القصص الوهميّة التي ارتاح لها قادة ومشايخ التيارات الإسلامية - ولا أقول صَدّقوها، بل أقول جَروْا على هواها - فهي تكفيهم مَشقة المُواجهة التي تَستلزِم مؤمنين حقاً وصِدقاً. والعسكر قد رسموا خُطة هذه الإنتخابات، وحدّدوا مواعيدها، لتتم على مدى ستة أشهر، مما يسمح للرماد أن يُخمد بقايا الجُذوة المنطفئة. وحتى لو جَرت الإنتخابات حرة نزيهة شفافة كما يقولون، فإن هذا لن يغير من الأمر شيئا، إذ القابعون تحت قبة البرلمان، سيخضعون لسُلطة العَسكر، تدير شؤون البلاد من وراء الستار، أو من أمامه، حسب ما تتمَخّض عنه اللعبة التالية، التي أسموها الانتخابات الرئاسية.

أيظن ظانٌ عاقلٌ أنّ العَسكر سيتركون الحكم، طائعين، ويطلقون الحرية، وأن ما بيننا وبين ذلك هو أن تظهر نتيجة الانتخابات؟ سبحانك اللهم، هذا إفك عظيم وغفلة مخزية! إنما هي لعبةُ اطفال ألقاها العسكر لهؤلاء الصغار، يفرحون بها ويتنافسون عليها، ويصْرفون الوقت والجهد في لعبها، كأنها لعبة الكراسي الموسيقية، من يجلس اولاً، حتى الدورة التالية! عجيبٌ أمر هؤلاء البالغين من ذوى الحلوم والأفهام، حسبناهم!

سألني سائلٌ: من ستشجع في هذه اللعبة، قلت، لا والله لن أشجع فيها أحداً، فليس في أيّها خيرٌ. وقد سُئِلت في بداية الإنتفاضة عما أرى في موضوع الإنتخابات، قلت وقتها، أمّا عن الإستفتاء فنعم، وأما عن الإنتخابات، فننتظر إلى أن تتضح الرؤية وتظهر المرجعية الحقيقية. وها نحن رأينا أنها لعبةٌ لا رجاء منها إلا إعطاء الفرصة للعسكر لتمكين حكمهم، ظاهراً أو خفياً، واستمرار النظام السابق كما هو، بلا تغيير. أقول، لا والله لا أشجع أحداً ولا أنتخب أحداً من هؤلاء، لا أقول تحليلا ولا تحريما، ولكن في ظلّ هذه المهزلة التي خلقها العسكر لصالح الصهاينة والصليبيين، لا لصالح الإسلام، فهي عبثٌ مفضوح.

لعبة الانتخابات هي صَرفٌ لأنظار العامة، ومداهيل الخاصّة، عن التحرّك الفعّال نحو الحُرية الحقيقية، التي لم يعد يعيشُ على أرض مصر من يعرف معناها، وكيف تكون، وكيف تُمارس. حين انتفض الجَمعُ الغاضبُ من الناس، في 25 يناير، لم يكن لهذا الجمع هدفٌ محدد، إلا التعبير عن الغضب والحنق على إدارة البلاد. لم يكن لهم علم بمن هم الذين يديرون البلاد. ظنّوا أنهم مبارك وأولاده، لا غير، فصبّوا جام غضبهم عليهم، فما كان من العسكر، الذين هم قاعدة البناء الفاسد وراعِيَه، إلا أن استسمحوا العائلة المباركية في أن "يُبهدِلوها" قليلاً، حتى تفوت الأزمة، ويتراجَعُ الغضب، وتنطفئ الجذوة، ويستكين المُستعصى. وشربها أهل الأحلام والعقول، حَسبناهم، من رؤوس الجماعات وقادة الأحزاب، ودخلوا في اللعبة البرلمانية بكل حماسٍ وقوة، وعجيبٌ أمرهم.

إن لم تتحقق الحرية أولاً فلا معنى لبرلمانٍ أو إنتخاباتٍ أو قراراتٍ أو حكومات. الحرية تأتي قبل أيّ من هذه الترتيبات، لا بعدها. إنما مثل هؤلاء كمثل من دُعِىَ لمقابلة مبدئية بشأن وظيفة، فما كان منه إلا أن اشترى ما تحتاجه هذه الوظيفة، وذهب يرتب مكتبه في مقرها، بل ونقل بيته قريبا من مبناها، وأولاده إلى مدارس قريبة منها، ذلك قبل أن تتم المقابلة أو أن يُقبل للعمل! يا سادة، لا تزال الحُرية بيد مجلس العسكر، كما أن الوظيفة بيد صاحب العمل! أما أن يَمنحها العسكر أو يَمنعها، ذلك بيده، لا بأيديكم. ولو مَنحها، إن مَنحها، فستكون مِنحة محدودة، مشروطة، مجردة من مخالب النقد، وقوة الإملاء والنفاذ.

واحسرتاه على هؤلاء الذين ضيّعوا الأمانة التي حُمِّلوها حين سلّم الشعبُ لهم قيادَهُ، تديّنا أو ثقة، من مشايخ وقادة، ولم يقدروا أن يحملوها إلى غايتها، خوفاً وطمعاً، خوفاً من العسكر، وطمعاً في المنصب "وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَـٰنُ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًۭا جَهُولًۭا "الأحزاب 72.

أخشى أنّ الفرصة قد فاتت، وأن حَاملي الأمانة لم يكونوا جديرين بحملها، فلعل الله أن يَستبدلهم بغيرهم، ثم لا يكونوا أمثالهم "وَإِن تَتَوَلَّوْا۟ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓا۟ أَمْثَـٰلَكُم": محمد 38.