إزالة الصورة من الطباعة

بين الحَدَث الواقع .. والتحليل السياسيّ

الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم

وصلنى اليوم تعليق من أحد القراء الكرام، الأخ راجي نور، على مقال "خِدعةُ النصارى .. والولاء للعسكر"، هذا نصها:

"أنا أستريب من التحليلات التي تجزم ببواطن الأمور، فهل حقا "النصارى لا يريدون حقيقة أن يسقط المجلسُ العسكريّ"؟ وهل حقا "يعلمون أنّ هذا المجلس يعمل جاهداً ليكرس العلمانية التشريعية في مصر، ويفرض سيطرته الدائمة على البلاد والعباد"؟ إن العلمانيين أنفسهم متخوّفون من انحياز المجلس للإسلام واتخاذه بعض الإجراءات (ولو شكلية) في هذا الاتجاه ويتخوفون من مجرد ضمان المجلس للنزاهة الانتخابية التي قد تأتي بالإسلاميين ثم هل النصارى كلهم عندهم من العقل والدهاء ما يجعلهم يجتمعون على التمويه بمهاجمة المجلس في الظاهر وهم يريدون تثبيته في الباطن؟ وهل تبعية المجلس للغرب مساوية لتبعية النظام السابق؟"، ثم بُترت الرسالة لسببٍ ما بعد هذه الكلمات، لكن فيها الكفاية إن شاء الله، وهي منشورة على الموقع.

هناك عدد من الملاحظات التي يجب أن ينتبه اليها القارئ العزيز، حين يكون الحديث عن تأويل أحداثٍ معينة، تجرى على أرض الواقع، بلا رابطٍ ظاهرٍ يربطها، وهو ما يسمى بالتحليل السياسيّ.

أولاً، ليس هناك جَزمٌ أكيدٌ في أي أمر يتعلق بالغيب، وأعنى بالغيب هنا هو ما لم يقع بعد، أو ما وقع، لكن ظَلّ على خفاءٍ من المُحَلل، فهو كالغيب "وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ"الأنعام 56. ولذلك فإن الاسترابة من التحليل أمرٌ مفهوم، إن أخذَ على قدْرِه، وإلا فعلى كلّ مُحلّل سياسيّ أو إقتصاديّ أو اجتماعيّ أن يدع هذا الأمر جملة وتفصيلاً.

ثم إن التحليل السّياسيّ، الذى نحنُ بِصدده، يعنى أن يتناول المُحلّل عدداً من "الوقائع" التي حَدثت على الأرض، بلا خلافٍ على وقوعها كأحداث، ثم يُحاول أن يُعيد تَركيبها ووصلها بعضها ببعض، ثم أن يفهمَ دوافعها بناءاً على الصورة المَرسومة، ثم يحاول أن يَستنبط ما يمكن أن يليها من أحداثٍ، بناءاً على هذه الرؤية وعلى هذا الفهم. هذا ما يجرى في عقل المُحلّل بشكلٍ يشتدُ تعقيداً وتشابكاً مع حدّة نظره ودقة تحليله، وتراكُم خبرته، ومدى توسعه القراءة والدرس، وفي المعرفة بالتاريخ عامة وتاريخ المسألة المَعنيّة خاصة، ثم التوفيق من الله سبحانه، وهو قدرة يمنحها الله لبعض عبادِه دون بعض، كما في الإجتهاد الفقهيّ، سواءاً بسواء. كذلك يشتدُ الأمر تعقيداً وتشابكاً مع تعقّد الواقع المدروس وتعدّد جوانبه.

وأهم ما يجب على المُحلل السياسيّ هو أن يَتجاهل، أو يَضع جانباً، ما "يصرّح" به المَعنيون بالأمر، إذ لو دلّ ما يقول الناس على حقيقة أقوالهم وأفعالهم ونواياهم، خاصة السياسيين منهم، لما إحتاج الأمر إلى تحليلٍ إبتداءاً، ولكانت الحياة وردية بهيجة! لكن، ليست هذه هي الدنيا التي نَعيشها، وقد صَدق الله سبحانه "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿2﴾ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُوا۟ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿3﴾" الصف. هذا في حقِ المومنين، فما بالك بغيرهم!

ومن نافلِ القول أنّ الحديث في السياسة وتحليلِ الأحداث والتعليق عليها مِلكٌ متاح لكلِ من رزَقه الله عينين ولساناً وشَفتين! وهو مِثلُ الحديث في الدين، والإفتاء فيه، على أنه "رأىٌ" يراه صاحبه! إلا أنّ ذلك لا يعنى أنّ كل من حَمَلَ القوس صيادٌ. ومن هنا تسمَع الكثير من الهُراء الزائف، يحتاج صاحبه إلى عقدٍ من الزمن ليعرفَ أنه هُراءٌ زَائف. لكن، على كل حال، كلُّ له حرية الحديث، أيا كانت نوعيته.

والفارق بين التحليلات المُتعددة، هو أيها يمكن أن يَشرح ويفسّر هذه الوقائع الحادثة بما يشملها كلها، أو أغلبيتها الساحقة، في منظومّة معقولة، دون تعسّف أو إسقاط لبعض الوقائع دون بعضٍ. تماماً كما هو الحالُ في إثبات النظرية الطبيعية، التي تكون مقبولةً عند الفيزيائيين أو الطبيعيين متى ما فَسّرت كلّ، أو جُلّ ،الظواهر المتعلقة بها. ثم يبقى رصيد كلّ من المحللين في إصابة الحقيقة دلالة كافية هادية على قدرة كلٍّ في هذا المجال، على كسب ثقة القارئ فيما يقول.

وفي ضوء هذا التعريف المُبسط بعملية التحليل السياسيّ، نعود إلى تساؤلات الأخ راجي نور.

يتساءل الأخ "هل النصارى لا يريدون حقيقة أن يسقط المجلسُ العسكريّ"؟ إذا تأملنا البديل لحكم العسكر، بعين النصارى ومصلحتهم، التي يرسِمها لهم طموح نظير جيد وأطماع قبط المَهجر، فهو إما حكم إسلاميّ-علمانيّ بقيادة الإخوان، أو حكمٌ إسلاميّ برئاسة حازم أبو إسماعيل، أو حكم علمانيّ على طريقة محمد البرادعيّ. وقادة الكنيسة يعلمون تمام العلم أنّ فرصة أمثال البرادعيّ تتضاعف في حال استمرار العسكر في الحكم. وهم، بلا شك، لا يقبلون بنظام الإخوان المُختلط، أو بنظام أبو إسماعيل الإسلاميّ الصرف. فيكون من النظر المباشر أن ندّعى أنهم، أعنى قادتهم، يفضلون بقاء العسكر على أية حالٍ، إلى أن يحصلوا على أكثر ما يمكن من مُكتسباتٍ على حِساب الأغلبية، وهو ما نراه في موضوع قانون العِبادة المُوحّد الذي يضغطون لإصداره.

أما عن أنهم  "يعلمون أنّ هذا المجلس يعمل جاهداً ليكرس العلمانية التشريعية في مصر، ويفرض سيطرته الدائمة على البلاد والعباد"، فسبحان الله العظيم، وهل في هذا شكٌ؟ فمن الذي عين يحي الجمل إذن؟ ومن الذي رفض استقالته؟ ومن الذي كلفه ابتداءا بعمل ذلك الحوار الوطنيّ الكوميديّ، ثم إخراج الوثيقة "فوق القرآنية"؟ ثم من الذي أتي بعلي السلميّ من بعده؟ لا يقولن أحدٌ أنه عصام شرف، فالكلّ يعلم أن الرجُل لا ناقة له ولا جمل في أي قرار يَصدُر عن مجلسه. ومن الذي صرح بأن الجيش حريصٌ على أن لا يأتي أي "متطرف" الفكر إلى الحكم، وهو يقصد بالبديهة المجردة الحكم الإسلاميّ الصّرف؟ أليس هو شاهينهم؟ ثم من الذي قال إن الجيش هو الحَاميّ للحكم الديموقراطيّ؟ فإذا وضعنا اثنان بجانب اثنين رأينا الأربعة كاملة متكاملة، لا تحتاج إلى إيضاحٍ أو تحليل. فأي ديموقراطية إذن يَحمونها إن كانت ليست هي الحكم الإسلاميّ؟ أليست العلمانية هي البديل؟ وهل يقصد المجلس أنه سَيحمى حكم الإخوان الإسلاميّ-العلماني؟ بالطبع لا. هذه بديهيات لا تحتاج إلى كبير عَناء لفهمها.

والمجلس، كما ذكرنا من قبل في إحدى مقالاتنا، في مأزقٍ محيّر، فهو أمام شَعبٍ أصبح أكثر حذراً وأكثر حساسية من أعمال الطبخ السياسيّ والتزوير. وهو في الوقت ذاته لا يستطيع أن يترك الحُرية كاملة، ولا نصفِ كاملة، إذ يعرف إنه لو تركها كاملة جاء الشعب بحازم أبو إسماعيل، وإذا تركها نصف كاملة جاءت الصناديق بالإخوان، وهما خياران أحلاهما مرٌ بالنسبة للمجلس. وغرض المجلس الحقيقيّ هو أن يضمن لنفسه مادة في الدستور تجعله أعلى سلطة من رئيس الجمهورية، وتُخرِجه من تحت سلطة المُساءلة أمام البرلمان، وهذا ليس افتراضاً، بل هو ما صَرح به مُتحدثهم الرَسميّ، وأحسبه شاهينهم.

أما عن "هل النصارى كلهم عندهم من العقل والدهاء ما يجعلهم يجتمعون على التمويه بمهاجمة المجلس في الظاهر وهم يريدون تثبيته في الباطن"؟ فإن العامة، نصارى أو مسلمين، لا عقل لهم، إنما يتحرّكون بإيحاءٍ من قساوستهم أو شيوخهم، أيما يوجهونهم يسيرون، إذ هم العَالمون بالأصْلحِ والأصَحّ لشَعبهم وتابعيهم.    

أما عن "هل تبعية المجلس للغرب مساوية لتبعية النظام السابق"؟ فالحقّ أنه لا فرقّ بين التبعيتين، فيما نحسب. الغرب لم يتخلى عن مبارك إلا بعد أن تأكد من سقوطه. والصهاينة في حزنٍ دائم على أيام مبارك. وقد أعلن المجلس، سواءاً على لسان مُتحدثيه في الداخل، أو خلال لقاءات ممثليه مع الصحف في الخارج، أن له مَصالح استراتيجية مع أمريكا يحرِص على بقائها مهما كان الثمن! مرة أخرى، هذه التصريحات وقائع حدثت، ليس تخمينات أواشاعات، فهل تحتاج إلى تحليل؟ تبعية المجلس للغرب هي تبعية المجلس للنظام السابق، ولهذا أعلنت هيلارى كلينتون موخراً "ثقتها" في قيادة المَجلس العسكريّ للبلاد.  

لاشك أن الواقع كما قلنا، متشابكٌ متداخلٌ، لكنّ المجلس العسكريّ هو الذي يحرِصُ على أن يظلّ هكذا، حتى تبرُز تلك الآلاف من التحليلات الهرائية، والشكوك والاترابة، ويضيع الحق، وتتعتّم الرؤية، وليس أفضل من الظلام للصٍ مُترصدٍ لسرقة شَعبه.