إزالة الصورة من الطباعة

الحرية الديكتاتورية .. في القواميس العسكريّة

الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم

لا أمَلّ الرجوع إلى هذا الموضوع، مراراً وتكراراً، وهو موضوع التربّص بالثورة، والعَمل على إفشالها، من قبل السلطة الحاكمة، إذ فيه خُلاصة ما يجرى اليوم على أرضِ مصر، من تدهورٍ في كافة الأوجه السياسية والإقتصادية، والنكسة الكارثية التي تتمثل في مؤامرة إصْدار دُستورٍ مُصغّرٍ، يتحَكّم في أبناء مصر إلى يوم يبعثون.

الغرض من مؤامرة إصدار دستورٍ مُصغّرٍ معروفٌ للجميع، إسلاميين ولادينيين، وهو

وهذه الأمور الأربعة لا يختلف عليها عاقلً ينظرُ بحقٍ وحيادٍ إلى ما يجرى اليوم على الساحة السياسية المصرية.

ومما لاشك فيه أنّ هذا الأمر يمثلُ ضربة قاضية للثورة، بل ولكلِّ محاولة للتغيير في المستقبل، إذ يرّسِخُ هذا الدستورُ المُصَغّر كلّ المبادئ العليا التي لا يمكن الخروج عليها من بعد، ويعطى الجيش الحقّ الدستوريّ في الإطاحة بأي رئيسٍ أو حُكومة تخرجُ على أيٍّ من هذه الأمور الأربعة. وهو وضعٌ غاية في الديكتاتورية، أسلوباً ونتيجة.

وليس هذا إلا نتاجٌ طبيعيٌّ لتوجّهات القوى العَسكرية بشَكلٍ عامٍ، والقوى العَسكرية في مصر بشكل خاص. فالحُرية، في قاموس الجيوش، كلمة لا معنى لها في القاموس العسكريّ، الذي لا يعتمد إلا الطاعة العمياء والولاء المطلق كوسيلة للتعامل والتخاطب بين صفوفه ورتبه. كلّ رتبةٍ تعظّم للرتبة التي فوقها، وتقبل ما تقول بلا مناقشة أو تفكير. وليس هناك كبير في هذا الأمر، إذ كلٌّ له من فوقه يسمع له ويطيع , يُعظّمُ. العقيد يُعظّمُ للعميد، الذي يُعظّمُ للواء، الذي يُعظّمُ للفريق، الذي يُعظّمُ للمُشير، الذي يُعَظّمُ للقائد الأعلى، الذي كان مبارك، إلى أشهر قليلة سابقة. وهذه الخصلة في الجيوش عَامة هي خصلةٌ أصيلة في الكيان العسكريّ.

والحرية، كما يَعرِفها ويُعرِّفها المدنيون، تأبى هذه السلسلة من الطاعات والولايات العمياء، التي قد يكون لها ما يبرّرها في الشأن الحربيّ، تحسباً للإنشقاق أو مراجعة الأوامر وقت الحُروب، لكنها لا معنى لها ولا مكان في الحياة المدنية التي تقوم ديناميكيتها على حفظ حريات ثلاث، حرية الفكر والرأي وحرية الحركة والتنقل وحرية العمل والتصرف.

ثم، إنّ الجيشَ المِصري، قياداتٍ لا أفرادا، بصفةٍ خاصةٍ، قد أصابه الفَساد الذي ضَربَ مصر في العُقود الستة السَالفة، وخاصّة الثلاثة الأخيرة منها. أصابها فساد الإسترخاء في صُفوفها من جرّاء بنود مُعاهدة الخِيانة بمُعسكر داود (كامب ديفيد)، وما ترتّب عليها من استسلامٍ، وَصَفوه بالسّلام، وفسادٍ إقتصاديٍّ عَارمٍ، نشأ من هذا الإسترخاء، وما تبعه من تزاوج القوّة والسُلطة والمَال في منظومَة الحُكم المُباركيّ السّابق، متمثلةً في الجيشِ والحكومةِ ورجال المالِ. فكان أن نشأت استقلالية إقتصادية لقيادات الجيش، خارج المراقبة البرلمانية والشعبية، مما أدى إلى أن أصبحت هذه القيادات أقرب إلى رجال مالٍ وأعمالٍ، أكثر منهم رجالِ جيشٍ وقتال، كما ربَطت مصالحَهم الشّخصية بمصالح النظام، ومن ثمّ، بقاؤهم ببقائه. ولهذا أصبحت هذه الخِصْلة، التي هي الإشتغال والإنشغال بالمصالح الشخصية في رتب الجيش العليا، خِصلةً مكتسبةً، خاصّةً بالجيش المصريّ.

فإذا جَمعنا هاتين الخِصْلتين، الأصْلية والمُكتسَبة، استطعنا أنّ نفهم تلك التَحرّكات والمَواقف والقرارات التي صَدَرت، أوالتي لم تصدرُ، عن المَجلس العَسكريّ، الذي شَكّله مُبارك قبل "تخلّيه" عن الحُكم، بدءاً من قرارات تعيين حكومة شفيق، والتباطؤ المتواطئ في محاكمة بعض الفاسدين، وعدم مُحاكمة البعض الآخر، وعدم استبدال النائب العام وشيخ الأزهر، وأمثالهما من رجال النظام السابق، ومُحاكمة الثوار عَسكرياً، وترك البَلطجية في الشّوارع، وعدم إلغاء قانون الطّوارئ، وكثير من هذه التصَرّفات التي تُبرّرُ بتلك الخِصلتين اللتين ذكرنا.

ومن هنا، يجب على المهتمين بالشأن الوطنيّ، من منظوره الإسلاميّ، أن يترقب متوجّساً من كلّ قرار أو تحركٍ يتخذه المجلس، وأن يكون سوء القصد هو الأصل، لا العكس، نظراً لمعطيات التاريخ ومواقف الحاضر، كما بَيّنا.