إزالة الصورة من الطباعة

بين الحُوينى والشنقيطي .. يقف الحق واضحاً

الحمد لله والصلاة والسلام على رَسول الله صَلى الله عليه وسلم

الحمد لله الذي جعلنا أمة وَسطاً لنكون على الناس شُهداء. وسطية العلم والعَقيدة، ووسطية التحليل والنَظر في الواقع. فإنه لا يكفى أن يتبنّى المُسلم وَسطية العقيدة، ثم إذا هو مائل على أحدِ شقيه في فهم الواقع، وفي تنزيلِ أحكام الله سبحانه. لا خير في هذا على الإطلاق، خاصّة حين يتعلق الأمر بالحَديث عن أحوال العامة، والتوجيه العام للناس، والذي يتطلب فقهاً للواقع وحساًّ يؤتاه أحدٌ في تقييم وتقدير مناطات الإفتاء، كما يؤتى أحدٌ الملكة في استنباط الأحكام.

والمَشهد الإسلاميّ اليوم، كالعادة التي هي من قدر الله الكونيّ، ترى فيه نموذجاً لما قدّمنا من قولٍ، يَظهرُ في شَخصيتين من أهل العلم والمَشيخة، التي يتصدّى صَاحبها للقول في شؤون العامة. وأقصد بهما الشيخ أبو إسحاق الحوينى في طرفٍ، والشيخ أبو المنذر الشنقيطيّ في الطرف الآخر، جزى الله كليهما خيراً على حسن نواياهما،  كما نحسب.

الشيخ أبو المنذر الشنقيطيّ يرى الوضع القائم في مصر وَضعٌ كفريّ لا يُحتمل النظر فيه، كما كان من قبل 25 يناير، وأنّ المنع من المشاركة في الإنتخاب أو الإستفتاء بإبداء الرأي في ضرورة تحكيم الإسلام في الدولة الجديدة، هو قبولٌ بالديموقراطية الكفرية، ونكوصٌ على العقب لمن قال بمنع ذلك من قبل.  

الشيخ أبو إسحاق الحوينى يخرج على الناس كلَّ آونةٍ بطامّة تحليلية، تنتصر للوَضع الإستبداديّ، سواءاً القديم أيام مبارك، أو الحالّ على يد العَسكر، ردّاً للفوضى كما رآها فضيلته.

طرفان متباعدان، يقف الحق بينهما على مسافةٍ متساوية.

والشيخ أبو المنذر الشنقيطيّ قد ردّ على ما عقبت عليه فيما كتب في مقاله "نصرهم الله فانتكسوا"، جَزاه الله خيراً، لكن مع الأسف لم يأت بجديد يدفع إلى التسليم بما قال، أو حتى لإفراد ما ذكر بمقال. فالشيخ، قد أتي مرة أخرى بنفس الآيات العامة التي لا نختلف عليها، وحاشا لله، ثم عاب علينا أن لم نرد على "أدلته" تفصيلاً لا إجمالاً، وهو ما نكرره هنا، أننا لم نردّ على كافة ما ساق من كتاب وسنة، لإتفاقنا عليه، فما وجه الردّ إذن، خاصة اننا لا نريد جدلاً ولا نقصدُ إلى سفسطة؟ والظاهر أن الشيخ لم يدرك أن الأمر لا يخرج عن تقييمٍ وتقديرٍ، تقييم للواقع من ناحية، وتقديرٍ لما يصِحّ للمُسلم عمله في هذا الواقع من ناحية أخرى. وقد ذهب الشيخ يثبت أن البلاد محكومة بدستورٍ وضعيٍ لا تزال، وأن المظلة العامة هي الديموقراطية لا تزال، وأن من اباح المشاركة هنا فقد أباحها استواءاً مع الإخوان، الذين يبيحونها في كلِ آن، وهو التخريج الذي لا نوافقه عليه. فقد ذكر عددٌ من فقهاء الدستور مؤخراً، منهم العلمانيّ ومنهم المسلم، أن ما يصدره المجلس العسكريّ الآن ليس ملزما بالمرة لأى مجلسٍ نيابي قادمٍ، وهو ما يعنى أن أقوال المجلس وقراراته مُفرّغة من المُحتوى لعدم الإلزام بها، ونحن إذ نبيح المشاركة "الآن" فإنما لإرساء أوضاع "الغد"، لا لتنظيم أحوال "اليوم"، كما كان يفعل الإخوان في مُشاركتهم البرلمانية لإدارة الدولة تحت مظلة العِلمانية. فليس لهذا "الدستور المؤقت" إذن ولاية على ما تأتي به الصناديق. والإدعاء بأنه لا يزال الخروج للصناديق، بهذا النظر، يجرى تحت ظلّ الديموقراطية، فهو شركٌ لا يصحّ ولو للحظة، مردودٌ لأنه حتى لو أن الدولة لا تزال محكومة بالديموقراطية الكفرية، فإن اللقاء في الصناديق غرضه المباشر إزالة هذا النظام، لا مشاركته في قول أو عمل، فهي آلية عملية تعنى بالتحول والتبديل لا إقرار قوانين. ولا يعنينا إن كان ذلك مسكوك في إمكانيته، بدعوى أن النظام لن يسقط نفسه، إذ هو استنتاج لا يعلم تأويله إلا الله. ولا أدرى على أي أساس فرّق الشيخ بين السَعي للتغيير بالقدم والسعي للتغيير بالقلم، وكلاهما يجرى في ظلّ منظومة حاكمة واحدة، وهي غير إسلامية، يراد تحويلها إلى إسلامية. ولعلى أكون قد نجحت في إيصال هذا المَعنى الدقيق إلى الشيخ الشنقيطيّ، ومن يتابعه على ما ذهب اليه.

ثم يأتي الشيخ أبو إسحاق الحُوينى، على الطَرف الآخر، فيقيّم الواقع على أنه أسوأ مما كان عليه من قبل، نظراً للفوضى التي تضرِب جُنبات البلاد، وتحرم الأمن على العباد. وقد خرج من هذا التحليل إلى أنّ الإستبداد أفضل من الفوضى، وهو التقرير الذي أقلق الكثير حتى من أتباع الشيخ. والحقّ أن هذا التقرير يستندُ على التوجّه الأساسيّ للشيخ الحُوينيّ، الذي ظلّ مُخلصاً لإتجاهه حين وقف ضد الثورة إبتداءاً، من نفس منطلق أن الإستبداد أفضل من الفوضى. ولا ادرى كيف غاب عن الشيخ أن لو سار الناس على ذلك المنطق لكان مبارك ونظامه لا يزالا في مواقعهم يغتالون حرية الشعب وكرامته، ولعله يرى أن ذلك كان أفضل من عدة حوادث سرقة أو إغتصاب، كانت أروقة أمن الدولة تشهد أضعافها في اليوم الواحد!

 والإستبداد في ذاته هو فوضى مُستترة، ظَاهرها النظام، وباطِنها الفَوضى، وحقيقتها إنهيار الدين ومَقاصده بشكلٍ كاملٍ. وهذا التفريق بين المتماثلين لا يصح عقلاً ولا شرعاً، إلا عند من خفي عليه حقيقة كليهما. ومثل هذا التوجه من الشيخ الحويني ومن تابعه ووافقه، كما سبق أنّ نوهنا، قاتلٌ لحسّ الكرامة، ومُضيّعٌ للحرية التي هي مقصد أعلى للشريعة، من حيث أنّ حُرية مُمارسة الدين، عقيدة وشريعة، هي الضَحية الأولى لإنعدام هذه الحرية، دائماً.

ويقف الحق، في التقييم والتقرير بين هذين الشيخَين، يزِنُ الواقع بميزان العين البصيرة، لا المُبصرة، ويقرر ما يجب حِياله بمنطقِ ما قَصَدَت اليه الشَريعة فيما جدّ من حوادثٍ وأوضاعٍ دون تجنٍ على أحكامها أو إفتئاتٍ على كُلياتها. وهو ما يجب أن يكون عليه قول من يتصدّى للقول اليوم، فاليوم ليس ككلِّ يوم، بل هو مناطٌ في غاية الخُصوصية والجِدة، تتكاثفُ فيه المتغيّرات، وتتشكل فيه الثوابت، بما يوارى الحق إلا لمن حاز العلم والعقل، أو العلم والحكمة، التي أفسرها بالقدرة على التقييم والتقرير، وهو من قبيل إختلاف التنوع في تفسيرها المَشهور من إنها "السُّنة".

والشئ بالشئ يُذكر، فقد لامنى أحد الإخوة الأحباب على تلكئي في إصدار دراسات مُطوّلة كما تعوّدت، إلا إننى قرّرت أن أتابع المَوقف على السّاحة المصرية خاصة والعربية عامة، يوميّا، بشكلٍ فاحصٍ، والتعليق عليها، لإدراكي بحَساسية الوَضعِ القائم، وضرورة أن يتوافر صَوتٌ يعبّر عن فِكر أهل السُّنة ورأيهم في هذه الجزئيات بشكلٍ متواصلٍ وموصول.

هدانا الله جميعا إلى الحق بإذنه.