إزالة الصورة من الطباعة

حُكم المُشاركة في العَملية السّياسية في مِصر

الحمد لله والصلاة والسلام على رَسول الله صَلى الله عليه وسلم

وصلتنى رسالة من أخٍ حبيب، عبّر فيها عن حِيرة الكثير من الشَباب في مَوضوع المُشاركة في العَملية السّياسية التي تجرى حالياً على أرض مِصر. وقال أنّ من هذا الشباب من قد زادت حيرته بعد ما ذكره الشيخ الحبيب الفاضل عبد المجيد الشاذليّ في ندوة حديثة عن رؤيته السياسية في الوضع المصريّ المعاصر، والتي أجاب فيهاعن أحد الأسئلة بشأن هذه المشاركة بأنه لا مانع منها ولا من تكوين الأحزاب. وذكرَ لي الأخ الحبيب أن من هذا الشباب من وصلت به نزغات الشيطان إلى تكفير الشيخ الشاذليّ!!!

ومقالي اليوم له شقان، الشق الأول في بيان حُكم هذه المُشاركة، والثاني دعوة لهؤلاء الغرّ من الشباب الذي يلقى دَلوه دون حبلٍ يوصله إلى شفا الماء، في بئر لا قرار له!

أما عن الشق الأول، فإن الفقيه يجب أن يعتبر أمران حين يُصدر فتوى ما في شأنٍ ما. هذان الأمران هما الحُكم الشّرعي الأصلي الثابت في هذا الأمر، إن كان له مثيلٌ سابقٌ، ثم المناط، أو الواقع، الذي تقع فيه هذه الفتوى، زمَاناً ومَكاناً وحَالاّ.

والحكم الأصليّ في أمر التشريع بما يخالف شرع الله معروفٌ مقرّر، وهو الكفرُ البواح. والحكم الأصليّ المتعلق بالمشاركة السياسية في نظمٍ كفرية هو الكفر إن كان مع الرضا والإقرار، وهو التحريم والتبديع لمن كانت له شبهة تأويل في صحة المشاركة، لا في صحة الحكم. ومثال ذلك موقف الإخوان وموقف اللادينيين ممن يتسَمّى بأسماء المسلمين، في هذه المشاركة. فالإخوان لم يرتضوا الحكم بغير ما أنزل الله، وإن شاركوا لدفعِ مفاسد وجَلب مَصالح، حسب رؤيتهم التي لا حق فيها، وإن كانت تأويلا مُسوغاً لدفع شبهة الكفر. أما اللادينيون فقد شاركوا من واقع أنّه لا ضير في تبنى الأحكام الوضعية في عالمٍ تبدّل وتغيّر وأصبح لا يصلح للشريعة ولا تصلح له، وهو مناط الكفر الأكبر الناقل عن الملة.

وقد كنت من أشدِ المُعارضين للمشاركة السياسية في العقود السابقة، وإن لم أكفّر من فَعل هذا من الإخوان لوجود شبهة التأويل كما ذكرت، حيث أنّ نظام الحكم الذى كان سائداً نظامٌ علمانيّ لادينيّ، يشرّع بما لم ينزّل به الله به سلطاناً. وكانت المُشاركة في هذا البرلمان تقوية له وتثبيتاّ لدعائمه، وإضفاءاً للشرعية على قراراته.

ثم انقلب الحال، وتغيرت الصورة، وتبدلت المعطيات التي تتعلق بإصدار الفتوى، وبقي حكم التشريع بما يخالف شرع الله كما هو، الكفر الأكبر. وما حدث في مصر كان تفكيكاً للهيئات التشريعية، البرلمان والشورى، وإلغائهما، وإن بقيت السلطة التنفيذية قائمة لأنه لابد منها لإدارة البلاد، وتصريف شؤون العباد. وبقي الجيش يفرض نفسه على المَشهَد السياسيّ، يتربص بالناس ويتربصون به، ويتحسس ثغرة يلتف منها حول إرادة الشعب في تحكيم الشريعة، وإن أعلن غير ذلك من رضوخه لحكم الأغلبية.

وأمر آخر أحب أن أوجه اليه النظر، وأن أؤكد عليه، أنّ الحديث عن حكم التشريع بغير ما أنزل الله شيئٌ، وحكم من شارك في مجالس تتبنى هذه القوانين الوضعية شيئٌ آخرن قد يتفقا في الفتوى بالكفر، وقد يختلفا، كما بيّنا، إن شاب التأويل محلّ المشاركة ولو كان فاسداً عن الغالبية.

إذن، نحنُ اليوم أمام دولة ليس فيها بناءٌ تشريعيّ إبتداءاً، بل تتناحرُ فيها قوى متقزّمة ضَئيلة لادينية ضد قوى غَالب الشَعب المُسلم، لتكوين النظام التشريعيّ الذي سَتخضع له البلاد في المَرحلة القادمة. فإما أن نخلّي الساحة لهؤلاء، ونقول لهم: هاكم الفرصة، إختاروا ما تريدون أن يكون عليه الحكم في مصر، أو أن نقول كلمتنا في الصناديق، فإن لم يعملوا بها فليس حينئذ إلا البناديق.

القتال لتحكيم شَرع الله ضرورةُ حين تدعو اليه الحال، وتجتمع له الشروط الشرعية، لكنه ليس الطريق الأوحد لتمكين شرع الله في الأرض. فإن القَصدَ الشرعيّ هو إقامة شَرع الله، سواءاً بالسلم أو بالحرب، ولو تمكنا منه سلماً كان أفضل وأقل ضَرراً. وقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهل أهل مكة عاماً في الحديبية، رَضى أن لا يحُج فيها البيت حفظاً لماء وجههم وهم كفارٌ، فحقّق صلى الله عليه وسلم القصد سلماًن لا حرباً. لكن ما أن أخلت قريشٌ بعهدها، لزم القتال.

من هنا فإن واقع اليوم ليس كواقع الأمس، ومصر تدخل عَصراً تشريعياً جديداًن إما أن تفوز فيه العلمانية اللادينية، أو أن يظهر فيه الإسلام وتعلو كلمة الله. ومن ثم، فإن فرض الرأي الشرعيّ – لا أقول الإشتراك – على الواقع المصريّ عن طريق الإنتخابات هو أمرٌ مشروعٌ، لا اقول واجباً، إلا إذا إعتبرناه من جانب ما لا يتم الواجب إلا به. ولا أدرى باي منطق يترك المسلمون صناديق الإقتراع لأمثال البرادعيّ وعمرو موسى وغيرهما ليعبثوا بالشكل التشريعيّ المرتقب في بلادنا؟

لكنى ـ مع كامل تقديرى لرأي العالم الحبيب الشيخ الشاذليّ - أجنحُ إلى التريث في أمر تكوين الأحزاب، إذ الصورة ليست ظاهرة على كمالها بعد، والمرجع التشريعيّ لم يحدد بعد، وأخشى إن دَخلنا معترك الأحزاب تحت هذه المظلة العمية، التي لم يظهر فيها بعد حقٌ من باطل، أن نُستدرج للسير على خطى الإخوان، إن لم تأتى النتيجة على وِفاق ما نريد لها من تحكيم الشريعة. لكنّ الأمر – أولاً وأخيراً – أمر إجتهاد فقهي لا أكثر ولا اقلّ.

ثم الشقُّ الآخر، وهو موقف الشباب الذي تجرأ على الشيخ الفاضل، فأقول، ما لكم انقلبتم على أعقابكم، حين رأيتم الشيخ يدلى بغير ما أحببتم من هوى أنفسكم دون علم؟ أكان الشيخ لديكم عالماً بالأمس، جاهلاً اليومن إذ لم يوافق إجتهاده رؤياكم، التي ما توصلتم اليها إلا بإجتهاده لكم في المقام الأول؟ أي إنتكاسٍ هذا؟ أيشبه اليوم البارحة، حين خرجت الخوارج مع عليّ لما وافق رأيه رأيهم في التحاكم إلى شرع الله، ثم خرجوا عليه لمّا رضِى بالتحكيم إجتهاداً، درءاً لمفسدة الحرب، وكان فيه الأصوب؟ أفيقوا هداكم الله، ولا تنتكسوا على أعقابكم، واعرفوا قدر علمكم وحدّ قدرتكم، ولا تزلوا فيما حذرتم منه الناس من قبل. وإلا فقد أتعبنا أنفسنا واستهلكنا أعمارنا فيما لا طائل فيه، وعوضنا على الله.