الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديثُ القرآن هو حديث الأمس واليوم، وكلّ يوم، لكن الظالمين في ضلالٍ بعيد. ففي سورة الشعراء، يحكى الله سبحانه محاورة فرعون الأمس مع نبىّ الله موسى عليه السلام، وكأننا نرى القرآن يُحاوِر فراعِنة اليوم، سواءً بسواء.
ذهب موسى عليه السلام، الداعيَ لدين الله، وحامل كلامه وهدايته، إلى فرعون، صاحب السُلطة المطلقة، والكلمة المَسموعة، الذي عبّد بنى إسرائيل، واستخف شعبه، لمّا نَشَر الفسق بينهم "فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُۥ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ قَوْمًۭا فَـٰسِقِينَ" الزخرف 54 ، فكان أن سأله أولا، وكأنه لا يعرف الله، ولا يعرف ما شَرع الله، وما قدرة الله، "قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴿23﴾"، من هذا الذي تريدنا أن نسلم له السُلطان، ونتنازل عن حقّ الطاعَة والخُضوع؟ فيبين له موسى عليه السلام، مقيماً عليه الحُجة، التي استيقنتها نفس الفرعون، وجَحد بها لسانه "قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴿24﴾". ماذا يفعل فرون، وهو يعلمُ أن هذا حقّ لاريب فيه؟ عجز لسانه عن التكذيب الصريح، فالتفت لمن حولهم يوجّه لهم الحديث، تفادياً لموسى عليه السلام، ومحاولة لصرف الإنتباه الى ما يقول هو عما يقول حجيجه، فلا يدع فرصة لعقولهم أن تعقل ما تسمع "قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُۥٓ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴿25﴾"، لكن موسى عليه السلام عرف ما يقصد الفرعون الطاغية، يريد أن يصرف الناس عن الحق بشتى الطرق، فاستمر موسى عليه السلام في دعوته، لا يغفل عنها، ولا يُساوم فيها، ولا يمسك عصاه من النصف، ولا يخرج بمسمياتٍ تتلاءم مع غرض فرعون، ولا يتوارى من الحق، ولا يعترف لفرعون بباطل، بل يلقى حجته التالية. لذلك، ولمّا تحول فرعون بحديثه إلى الناس يستشهدهم، لم تفت موسى عليه السلام هذه الفرصة، بل تحول بحديثه إلى الناس، فنصح الفرعون، وأنذره، فإقامة الحجة تكفى مرة واحدة، بعدها تتوجه الدعوة إلى الناس للإعلام، " قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلْأَوَّلِينَ ﴿26﴾"، أُسقط في يد فِرعون، وعلم أنّ حَجيجه لا يَسكت ولا يملّ ولا يقنط، فكان عليه أن يجد لنفسه من هذا الموقف مخرجاً، ألا وهو جُنون موسى عليه السلام! نعم، فإنه مجنونٌ من يخرج على النظام، ومجنونٌ من يطالب بحرية قومه، ومجنونٌ من يقف في وجه الطاغية يجادله ويرد له الصَاع صَاعين "قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِىٓ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌۭ ﴿27﴾"، لكن موسى عليه السلام يعرف داء هذا الفرعون، ويعرف أنه لن يستمع للحق، فظل متوجهاً بدعوته إلى الناس، يعلمهم دينهم، ويدعوهم إلى الخروج من السمع والطاعة لهذا الفرعون، إلى سَمع الله وطاعته "قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿28﴾".
هنا، تبدّلت لهجة الحوار، وعلم فرعون يقيناً أن حجته إلى الناس لن تُسكِت هذا الخَارج عن شرعيته الكفرية، وأنه لو إستمر على إقحام الناس في المُجادلة، فسينتصر موسى عليه السلام، فتحوّل مرة أخرى إليه، لكن هذه المرة بالتهديد والوعيد، فلا وقت الآن للمحاجة والمحاورة "قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهًا غَيْرِى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ ﴿29﴾"، نعم، لإن إتخذت مسموعاً مُطاعاً، نافذ حكمه، متبعٌ شرعه، ليكونن لي معك شأن آخر.
تقدم موسى عليه السلام بعرضٍ آخر، أن يُسمح له ببيان ما في يده من معجزاتٍ، تثبت أن إتباع أمر الله إيماناً بهن يهدى إلى طريق الرشاد والنجاح، كما لو تقدم إسلاميّ اليوم أن يتولى الوزارة ليثبت أن حكم الله هو الأفضل "قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْءٍۢ مُّبِينٍۢ ﴿30﴾ قَالَ فَأْتِ بِهِۦٓ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ ﴿31﴾ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌۭ مُّبِينٌۭ ﴿32﴾ وَنَزَعَ يَدَهُۥ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـٰظِرِينَ ﴿33﴾". قدّم موسى دليلاً حسياً مرئياً، يناسب عقول القوم وعاداتهم، لعله يَهدى أو يُذكر. والدليل القوليّ أشد اثراً وأبقى عادة من الحسىّ، إذ هو نورٌ وهدى لكافة الأجيال، لا لمن شاهد وعاين فقط، وهو دليل القرآن العظيم.
لم يجد فرعون ما يقول إذا، إلا أن يلجأ إلى الخِدعة المَعهودة، فعاد يحدّث الناس أن ما ترونه من صدق هذا الحديث وحسنه وهدايته، ما هو إلا سحرٌ، وما هو بحقيقة يُمكن أن يصدّقها الناس، فكيف يأت هذا الذى هو مهينٌ ولا يكاد يبين بحقيقة أفضل مما أُقدم لكم؟ وكيف يعرف أسرار الكون والحياة وما يُصلح الناسُ وما يَصلَح لهم وهو متبعٌ غير سبيل فرعون؟ "قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُۥٓ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِيمٌۭ ﴿34﴾، يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِۦ" نعم، ثم يأتي دور التودّد المُصطَنَع، والديموقراطية المزيفة، التي يهيؤ فرعون لقومه أنه يمنَحها لهم "فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴿35﴾"، لا ماذا تقولون، بل ماذا تأمرون! وقد يكون المَلأ هذا هم خاصّة فرعون، ورؤساء مَجالسه وقواد جيشه وإعلامه، ممن ينافقونه ويأتمرون بأمره وكأنهم يعملون لصالح الشعب.
"قَالُوٓا۟ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ فِى ٱلْمَدَآئِنِ حَـٰشِرِينَ ﴿36﴾ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍۢ ﴿37﴾ فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَـٰتِ يَوْمٍۢ مَّعْلُومٍۢ ﴿38﴾ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ﴿39﴾ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُوا۟ هُمُ ٱلْغَـٰلِبِينَ ﴿40﴾" ثم يأتي دور السّحرة، وجهاز التخدير والإيحاء، جهاز التخييل والتضليل، إعلام فرعون، الذي يهيؤ للناس من خلاله أنه لا مصلحة عنده أعلى من مصلحة الشعب. وهم كانوا، وما زالوا يستخدمون الحيل الخَسيسة التي تتلاعب بعقول الناس وتشتّت انتباههم، وتلفتهم عن الحقائق، ليظلوا في وهمٍ عقيم، أن حاكمهم قادرٌ فاعلٌ لا يألوا جهداً لتحقيق مصالحهم! فإدعهم يا فرعون من محلات أبواقهم ومحطات أباطيلهم و"ماسبيرو" سحرهم، الذي يمارسونه على الناس ليلاً ونهاراً، فليأتوا بسحر عصيهم ولسانهم وكاميراتهم واضوائهم، لتسحر سمعهم وأبصارهم عن الحق.
جاء السحرة يهرولون لسيدهم، يرونها فرصَة مناسبة لتحقيق مكاسَب شَخصية، من منصبٍ مرموق، ووزارة مأمولة ورئاسة مجلس قوميّ للسحر والتضليل، "فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُوا۟ لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَـٰلِبِينَ ﴿41﴾ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًۭا لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ (42). القرب من السُلطة، التمسّح بالسُلطان، الذلّ لصَاحب الأمر، فرداً كان أو مجلساً عسكرياً، داء المنافقين العملاء في كل زمان. لكن الله سبحانه ردّ كيد الكافرين، وأظهر أن سلاح هؤلاء باطلٌ فارغ عن المحتوى، لا يزيد عن توهماتٍ مُزيّنة من الأعمال والأقوال. ظهر ضعف أولياء الفرعون، وخسّة ما يدعون اليه من نبذ هدى الله وكلامه، والركون إلى ضلالاتهم التي شغلوا بها الناس بها وسحروا أبصارهم وعقولهم.
إستشاط فرعون غَضَباً، فراح يُردد أنّ هؤلاء أقليّة خَارجة عن الشرعية، لكن الأغلبية تدعَمُه وتقفُ إلى جانبه "إِنَّ هَـٰٓؤُلَآءِ لَشِرْذِمَةٌۭ قَلِيلُونَ ﴿54﴾"، وأن هذه الأقلية إنما تقصد إلى استدراجه للمواجهة بأن تفعل ما يثيره ويحنقه "وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ ﴿55﴾"، وأنه والشعب يجب أن يكونوا جميعاً في حذر من هذا المؤامرات التي تكاد لهم، إذ ليس هو المقصود بالمؤامرة، بل الشعب هو المقصود، وإنما هو ممثله الوحيد وراعيه السديد! "وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـٰذِرُونَ ﴿56﴾.
نفس الإدعاءات، ونفس التكتيكات والمماحكات، المستبد يوهم الشعب أنه يعمل لصالحهم، ولا يأبه إلا لصلاحهم، "قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ"غافر 29. وهو يشوّش على الدُعاة ويهدّدهم ويتوعّدهم، ويحمِل عليهم بأبواقه وآلته الدعائية، ليزينوا للناس الفساد، فإنه لولا الفساد، ما اتبعوه. نشر الفسق والعهر أداة طيعةٌ في يد كلّ الطواغيت، إذ يَسهل، مع الفِسق، تغمية العقل وتخديرالضمير، ومن ثم سيطرة الإستبداد والإستعباد.
وما فرعون منا ببعيد .. في شرم الشيخ!