إزالة الصورة من الطباعة

الثورات العربية .. من يحوز السَبق؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

في خضم ما يعتور الساحة العربية من ثورات، عمّت نواحيها من المَشرق إلى المَغرب، يَصِحُّ لنا أن نتساءَل هل منها ما حقق هَدفه ووصَل إلى غايته؟ وما الذي يعيقها عن الوصول إلى أهدفها؟ ثم أيها سيصل إلى هدفه أولاً؟ أسئلةٌ تتعلق في إجابتها على رؤية الهَدف الثورىّ، وتقدير موانع الوصول إليه، من ثم، الأقرب اليه من غيره، فلعل ذلك يكون مُعيناً على وضوح الرؤية وتقدير المَخاطر.

إذا نظرنا إلى التتابع الزمنيّ للثورات العربية، وجدنا تونس على رأس القائمة، ثم مصر، فليبيا، فاليمن، فسوريا. وقد جاء هذا االترتيب بمنطقية عفوية، إذ بعد ثورة تونس، كان لابد أن يشعر أكبر شعبٍ في العالم العربيّ بالحاجة إلى السير على الدَربِ على الفور، خاصة والأحداث القريبة، بله الضغط المتراكم، كانت عاملاً مؤكداً في الحركة الثورية المصرية. ثم إذا ليبيا تجد نفسها بين شرق ثائرٍ وغربّ ثائر، فكانت ثورتها، وقتها، حتمية. وكان الخيار بعدها على اليمن وسورياـ إذ بقية البلاد شرقاً ممالك وإماراتٍ، لا تعرف الثورات أصلاً، كما أن الدولة الوحيدة الباقية في الغرب العَربيّ هي الجزائر، وهي، كما وصفها أحد أبنائها، شديدة التعقيد في التركيبة الإجتماعية. لكنّ اليمن كانت المرشحة المتقدمة ساعتئذ، لأن نظام سوريا دموىّ أكثر من أي نظامٍ دموىّ في العالم. فجاءت ثورة اليمن، وتبعتها سوريا.

ثم إذا مضينا قدماً في التحليل، لنرى ما هي النتائج القريبة والبعيدة التي تُشكل نجاح الثورات، والتي بدونها تكون الثورة محبطةٌ، اسم بلا مسمى. نجد أن هناك مظهرين رئيسين في العملية الثورية، أولا عملية الهدم، وعملية البناء. والأول أخطر وأبعد اثراً في العملية الثورية، إذ هدم النظام الفاسد يجب أن يكون كاملاً شاملاً عاماً، لا يبقى ولا يذر. أمر الهدم لا يعنى تنحية رئيس أوإقالته، بل هى تنحية نظامٍ بأسره، وبعملائه ومؤسسيه وسدنته ورعاته، من الجذور. وهو ما يتم على مرحلتين:

1.       أن يتم التخلص من الكِبار، كلّ الكبار، في كلّ المجالات، سجناً أو قتلاً، بلا استثناء، وبأقصى سرعة، في الأيام الأولى من الثورة، دون التمحك بالقضاء والعدالة، فعامل الوقت في هذه العملية ليس في صالح الثورات على الإطلاق، والمجرمون معروفون بالتواتر والإجماع، الذي لا يخطئ.

2.       أن يتم استبدال قوم محل قوم، من المشهود لهم الإستقامة بالتواتر والإجماع، بلا استثناء أحدٍ منهم، وبشكل مؤقتٍ، يقصد به الإستمرارية في بقاء كيان الدولة حتى تنتهى عملية التصفيات الأولى بأكملها، بغاية الدقة والقوة. وهذه المرحلة ليست من مظاهر البناء، إذ هي مجرد تكريس للوضع القائم، وإعطاء الأولوية والشرعية لحالة التصفية في الصفوف الخلفية لمنظومة الفساد، التي يجب أن تكون هي الهَدفُ الوحيد في هذه المَرحلة، دون النظر إلى الوراء، لإستدرار الشفقة، أو إلى الأمام للتعجل بالبناء.

ثم يبقى بعد ذلك المنتفعين والمغرضين، الذين يمكن التخلص منهم تدريجياً، إذ منهم من سيسقط كورق الشجر الذي ماتت جذوعه، ومنهم من سيخرج كالخفافيش في وجه النور حين تبدأ مرحلة البناء. لكن على شريطة أن تتم التصفية السابقة فوراً وقطعياً، دون أن يترك رأس واحد فيه نفسٌ لأذى، إما بالموت أو بالحبس المشدد.

فإذا تم هذا الأمر، وأزيح الكبار ومعاونيهم من الصورة بشكل نهائئ وكامل وحاسم، انتقلت الثورة إلى مرحلة البناء. وفيها يختارُ الشعب ممثليه، ثم يختار ممثليه لجنة الدستور، ثم يتم وضع الدستور، وينتخب الرئيس الجديد. وقتها يجب أن تدور عجلة الإنتاج بأقصى سرعة، وأن يتحلى الشعب بالصبر على الحَصادِ، وأن تكون المُطالبات الفئوية بشكلٍ لا يعطل عملاً ولا يوقف إنتاجاً.

هذه، فيما نرى، ويرى معنا العقلاء، هى خُطوات النجاح الثورى. ونحن نحسبُ أن أي تلاعبٍ أو تبديلٍ أو تقصير، أو حذفٍ من هذه الخطوات، أو خلط بين الهدم والبناء، لن يؤدى إلا إلى أجهاض الثورة، وعكس مسارها بلا شك. ولذلك نرى أن دعاوى "عجلة الإنتاج" قد بدأت في العاجل المبكر في مصر لإحداث هذا الخلط بينهما.

وبهذا المعيار، يمكن لنا أن نقيّم التقدم الثورىّ في البلاد التي قامت بها ثوراتٌ، وقطَعَت في طريقها شوطاً، طال أم قصُر. ففي تونس، تنحى الجبش جانباً، أو على الأقل هذا ما ظهر، وسلّم السلطة إلى جهة مدنية، لكن ظعر التلاعب فيها من اللحظة الأولى، وإضطرها الشعب إلى التنحى، لكن، مخالب الفساد لا تزال تعمل، والطاغية المخلوع لا يزال هارباً، ولم يحاكم أحدٌ من الفاسدين. فعَملية الهَدم لاتزال تراوح في مكانها في تونس، تتعثر وتلملم نفسها جاهدة تضرب بيد ضعيفة في جبال الفساد. فثورتها لا تزال في مهدها.

وفي مصر، فإن الأمر اسوأ حالاً، إذ إن الجيش قد سيطر على الحكم، ورفض تسليم السلطة إلى المدنيين، ورموز الفساد، وإن كانت في الحبس ظاهراً، إلا إنهم أقوى مخالباً منهم في الخارج، ولا تزال رؤوس الحزب الوطنيّ وعُملاء الفَساد تقود المَسيرة، وتنشَر الرُعب والفوضى والطَائفية، والمُحاولات قائمة على قدمٍ وساق لسرقة دستور الشعب، ومسلسل مَرض الطَاغية أسْخَفُ من فيلم عَربي، والأموال تم تهريبها بعلمِ القائمين على السُلطة، ولعل بعضها لحِسابهم. قمة السُلطة في مصر حالياً لا تزال في الطائفة الفاسدة لم تنتقل إلى غيرها، والقرارات لا تزال تخدِم هذه الطائفة وتغذّى إتجاهَها وترعى مَصَالحها. عملية الهدم لم تبدأ في مصر بعد. الفساد كما هو في مكانه لا يزال يراوح، لكنه أكثر حذراً وأشد خطراً من قبل. وهو يتربّص بكل حَركة وسكنة ليردّها عن قصدها إن كانت لصالح الشعب المخدوع. وهو ما يجعل أمر نجاح الثورة أشد صعوبة من ذي قبل. فمصر الآن تحتاج إلى ثورة حقيقية، لا كالتجربة التي سبقت، وسُرقت.

من هنا، ورغم أنه يظهر للعيان أن مصر هى في مقدمة السبق الثورى، إلا إن النظر الفاحص يرى، ويا عجباً، أن ليبيا أقرب للفوز والوصول إلى أهدافها من مصر! ذلك أن الفساد في ليبيا قد تحيّز وانحَسر إلى مُعسكرٍ واحدٍ متميز، في باب العزيزية. متى إنهزم العقيد السفاح، طّهرت البلاد، بعد أن أدت ضريبة الدم كاملة بأكثر من عشرة آلاف شهيد، نحسبهم، فإذا تم هذا، تطهرت البلاد، وارتاح العباد، وبدأت الأمة مرحلة البناء مرة واحدة. لذلك تجد أن الغرب لا يريد أن يوفر للثوار أسلحة تكفى للقضاء على السّفاح، لأنه يعلم أن في ذلك التحرّر الحقيقيّ الكامل والنهائي لليبيا. أما في مصر وتونس، فلا بأس من التسليح، ولا بأس من الطمأنينة على مسار الأحداث، فقد تركهما الغرب في أيدٍ أمينة.