الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا شك أن تحرير فلسطين هو في القلبِ من قضيةِ الإسلام في هذا العَصر. فالإحتلال الصهيونيّ، مدعوماً بالعون الصّليبيّ، والحكم اللادينيّ الخائن، قد غرَسَ الدولة اللقيطة، إسرائيل، في قلب الأمة لتكون وتد الخراب، ومصدر السرطان في جسد الأمة، بعد أن فكّكوا خلافتها، وقسّموا وحدتها، وعدّدوا وِجهتها. فتحرير فلسطين هو أمل كلّ مسلمٍ، محبٌ لدينه، مُخلص لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولاشك أن يوم التحرير قادمٌ لا محالة، وأن الحلم سيصبح حقيقة بجهد أبناء الإسلام وثباتهم.
لكن أمرَ الزحفِ الآن، وأمرَ المواجهة مع العدو الآن، وبهذه الطريقة، أمرٌ آخر، لا يصِحُ أن تتحَكّم فيه العاطفة، وتتلاعب به الأهواء. فالزحف لا يعنى إلا الحرب والجهاد. والجهادُ في الشريعة أمرٌ يخضع لمعايير وأحكام دقيقة، تُوازن بين المصالح والمفاسد، وإعتبار المقاصد دون أن تجور على المآلات، وتَحسب حساب المفاسد، قبل أن تسعد بالمَصالح. ذلك هو الفقه الإسلاميّ، وتلك هي ضَوابطه ومعاييره.
وما نراه اليوم من دعواتٍ للزحف، لا يصحّ شرعاً ولا عقلاً، وإن تزينت للبسطاء من الناس. فإن هذا الزحف، إن تعدّى القدر الإنسانيّ بإيصال قوافل المعوناتٍ والإحتياجاتٍ لقطاع غزة، أو الصلاة إجتماعاً للدعاء وإظهار النصرة، كما حدث في التحرير، أو مهاجمة السفارات الصهيونية، مما هو مقبولٌ مطلوب، وتحول إلى صُورة من صور الإختراق العسكرىّ، كان عملاً باطلاً، من حيث أنّ هذه الجموع ليس لديها السلاح ولا العتاد، ولا الخبرة ولا الخُطة، لأن تواجه عدوا شرساً لا يردعه رادعٌ أن يحيل هذا المشهد إلى حمام دمٍّ للمسلمين، ويخرج على المجتمع الدوليّ، وما أدراك ما المجتمه الدوليّ، في صورة المُعتدى عليه في داره، المُروّع في أمنه وسربه. فأين الفوز إذن؟ وعلام يعوّل المعولون في جلب النصر دون أن يعدّوا له عدته؟ ورسول الله صلى اله عليه وسلم يقول: "إعقلها وتوكل".
وهذا لا يُعد تثبيطاً ولا تخذيلاً في مواجهة قوى الظلم، لكنه الشَرع الذي لا يجيز الخروج إلا بعد استكمال العدة، قدر المستطاع "وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" الأنفال 60. فإن أمر الله سُبحانه بإعداد العُدة من أجل ترهيب العدو، فما بالك بها مطلوباً للجهاد والمواجهة؟ كما لا يخفى أن من هؤلاء الزاحفين نساءٌ وشيوخ لا قبل لهم بقتال. فكيف يزجّ بهؤلاء في مواجهاتٍ محتملة مع عدوٍ لا يراعي في المسلمين إلّا ولا ذمة، دون عتاد أو خطة للمواجهة؟
هذا الأمر، والله، لا يصحُ في أي مذهب أو فقه، ودونكم فقهاءُ السَياسَة الشَرعية، من الجوينى إلى العز بن عبد السلام وبن القيم. وبعض المقاصد تكون مقصداً من جهةٍ، ووسيلة من جهة أخرى. يقول العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام ج1ص95 "التولى يوم الزحف مفسدة كبيرة لكنه واجبٌ إذا عُلِم أنه يقتل من غير نِكاية في الكفار، لأن التغرير بالنفوس (أي تعريضها للقتل) إنما جاز لِمَا فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين، فإذا لم تحصُل النكاية وجب الإنهزام لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدةٌ محضة، ليس في طيها مصلحة" اهـ. فما بالك إذا لم يكن زحف أصلاُ؟ وإن قال قائل أن هذه الجموع، بحالتها هذه، يمكن أن تهزم الآلة العسكرية اليهودية، فهذا محله الطبُ العقلىّ لا الحوار الشرعيّ.
ثم مما يجب مراعاته في حساب أولويات المَصالح بتقديم المَصلحة الآكد، وهى تثبيت أركان الدولة المُسلمة في مصر، مقدّم على الزَحف إلى فلسطين، إذ هذه المصلحة، وهذا المقصد هو وسيلة لتحقيق المقصد الأعلى وهو تحرير الأرض من الصهيونية، لذلك وجب تأمين الوسيلة قبل الغاية، لا العكس.
ولا أدرى من الداعى إلى هذا الزحف، ولا غرضه ولا حدوده. لكن، وإن كان هناك الكثيرُ الغفيرُ ممن يتشوقون إلى تحرير القدس، فلا يُؤمَن، مع الظروف التي تمر بها مِصر، أن يكون هناك من ينفخَ في النار ليشعل حرباً لا محل لها الآن. وكثيرٌ هم اليوم من لهم مصلحةٌ في هذا الأمر، كفلول نظام مبارك، أو بعض عملاء القبط، ممن يستمعون إلى شياطينهم من قبط المهجر. هؤلاء، لهم مَصلحةٌ عليا في إحداث هذه البلبلة، وإخماد الثورة، لمّا رأوا أن الشعب لن يقبل بديلاً عن الإسلام، ولن يرضى إلا بحُكمِه. وانظر كيف ضَللوا فئة من أبناء القبط، واستغلوا عَصبيتهم، ثم ضَربوهم أمام ماسبيرو ليزيد الطين بلة، وليخسر الوطن فوق خُسارته. ثم لا يجب أن ينسى الإخوة المُخلصين من الداعين لهذا الزحف، أنهم لا يزالون يواجهون أنظمة حكم عربية ولاؤها للصليبية والصهيونية، سواءاً في الأردن أو في غيرها من دول الجوار. وهل أدل على ذلك من أن مصر لم تقدم عوناً للثوار الليبين في مجال الدعم العسكريّ لإسقاط السفّاح المَجنون، وهو خيارٌ إنسانيّ قبل أن يكون إسلاميّ.
ونحن اليوم في مصر بصدد مؤامرةٍ لزرع دولة قبطية صليبية جديدة لقيطة في مصر، وهو أمر يجب أن توجه كلّ الجهود لصده وإيقاف مخططه، إذ هو إمتداد للكيان الصهيونيّ، وخنجر آخر يُطعَن في قلب أمة العرب.
ومصر اليوم، حالها كحال تونس وليبيا واليمن، تواجه العَديد من التحدّيات الحقيقية الخَطيرة، التي يمكن أن تهدم كيانها كلّه، وأن تقضى، لا أقول على الثورة، بل على مصر كدولة موحدة ذات سيادة على أرضها، وهو ما لا يرضاه أحدٌ من المخلصين لهذه البقعة من أرض الإسلام. والثورة المُضادة تعمل في الوقت الحاليّ بأقصى قوتها لتقويض أي محاولة للإقتراب من الهدف الحقيقيّ للشعب، وهى مُسلحةٌ بالمال والعلاقات والأعوان، وإنعدام الضمير والحسّ البشرىّ.
إذن، لا محلّ اليوم لمثل هذا العمل، سواءاً بحسن نية، أو بغيرها. بل يجب على الشباب المتحمّس أن ينتبه لما يُحاك في الظلام من محاولات لإجهاض أي فرصَة لإنجاح الثورة. وعليهم أن يوجهوا جهدهم للداخل المُضطرب البئيس، قبل الحديث عن فتح فلسطين. الأمر إذن أمر أولويات في التطبيق، لا في الأهمية. أمام شباب المليونيات مهمة التأكيد على تطبيق الشريعة، والوقوف بحزمٍ في وجه المحاولات العلمانية لجعل الدولة "مدنية" بتعبيرهم، وتبديل دستورها ليواكب الكفر اللاديني، والوقوف في وجه الهجمة الشرسة التي تريد إلصاق كل مفسدة تقع بالمسلمين، إخواناً أو سلفيين، كما وقع في حادثة إمبابة التي نسبوها للسلفيين، وحادثة حرق النيابة الإدارية بقرية أبو المطامير، والتي نسبوها للإخوان!
ثم، إن استوت الثورة على أقدامها، ونالت مطالبها، وأثمرت براعمها، يومئذ يكون لكل حادث حديث، وساعتها تجتمع الجهود، وتتوحد الصفوف، بعد أن تكتمل العدة، ويكون التوكل على الله وحده، ويكون الزحف موفقاً مدعوماً، آخذاً بالأسباب، كما علمنا ربنا، ووجهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الآن.. بهذه الإرتجالية ... فلا.