إزالة الصورة من الطباعة

الجيوشُ العربية .. ومَسار الديموقراطية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

من أهم العَلامات التي قد تهدى الخُطوات السياسية في المَرحلة القادمة، والتي يفترض أنها في إتجاه الديموقراطية كما أرادت لها الثورات في مصر وتونس وغيرهما، هو تلك التصريحات التي صَدرت أمس عن فرحات الراجحى، وزير الداخلية التونِسية السابق، خاصة فيما يتعلق بأن الجيشَ يستعد لإنقلاب على النظام الديموقراطيّ الوليد، إن أفرزت الإنتخابات فوز المُسلمين – غير العِلمانيين- ووصولهم إلى الحكم.

وهذا الخَبر يهُمنا في مصر خاصة لأسباب عديدة، إذ يمكن في ضَوئِه أن نفسّر ما نراه من قراراتٍ لا تتمشى مع بوصلة تحرك المَسار الديموقراطيّ. كذلك فإنه جرس إنذارٍ مبكرٍ لما، ولمن، يتربَص بالثورة وهدفها في إعادة الأمور بيد الشعب، وهو الأهدف الأعلى للثورة. كما أنه ليس جديداً على الواقع العربيّ، إذ حديث من قبل في الكويت والأردن والجزائر.

ويجب أن نقرر هنا أنّ الغرضَ الأساس من الثورة ليس مُحاكمة مبارك وعائلته، وليس تبديل المحافظين والوزراء، وليس القضاء على سيطرة الشُرطة الباغية على الشَعب، وليس إجراء الإنتخابات، إذ كلّ هذه التفاصيل فروعٌ من أصلٍ واحد، وهو إعادة أمر الشعب ليد الشعب. وما لم يتحقق هذا الأصْل، فإن كلّ هذه الإجراءات التكتيكية الفرعية لن تُغنى عنا شيئاً، بل سَنُراوح في أماكننا، ننتظر يوم عودة الفساد إلى حياتنا، إن كان غادرها! وهي حقيقة يجب أن لا تغيب عن أذهان من له إهتمام بمصير هذا الوطن.

وجرس الخَطر في هذه الأنباء الواردة من تونس، ومن أحد أركان نظام بن علىّ المخلوع، يجعلها في غاية الأهمية كما ذكرنا، لتشابهها مع ما تمر به مصر حالياً، من خطواتٍ تبدو جِدّ متعثرة في صدد تحقيق الغرض الرئيس للثورة. بل إن ثورة مصر، في حقيقة الأمر، هي بالفعل قد تأخرت عن تونس في هذا المِضمار، وإن ظهر أنها متقدمةٌ في تحقيق الفروع والتفاصيل. فبينما تنحى الجيش من الصورة الظاهرة للحكم في تونس، ولم يعلن إنقلاباً تبعته أحكام عرفية، وقبِلَ تكوين مجلسٍ مدنيّ لإدارة شؤون البلاد. أصرّ الجيش في مصر على القبض على زمام الحكم، وإعلان إنقلاب عسكريّ خفيّ، وتطبيقه للأحكام العرفية، وعدم رفع قانون الطوارئ، ورفضه القاطع تسليم الحكم إلى مجلسٍ رئاسيّ مدنيّ.

هذه الدلالات، قد توّجها المجلس العسكريّ في مصر بأن صرّح أحد مسؤوليه أنه لن يُسمح بإقامة دولة إسلامية في مصر، وإن صيغ التصريح بما يلائم المزاج الداخليّ حيث عبر عن الدولة المسلمة بدولة يرأسها "شبيه الخمينيّ! واللبيبُ بالإشارة يفهمُ . هذا الإعلان يتناسق مع ما عبر عنه الراجحي في تونس، ومع ما تشعر به القوى الإسلامية في مصر، مما يجعلها تحِدٌ من تحركها في الشارع المصريّ، بل وتسمح لأتباعها بإلإنحناء في وجه العاصفة، ومحاولة مناورة قوى الإعلام اللادينية، ومن وراءها المجلس العسكريّ، والتي تصدّر مواقف الإسلاميين إلى الغرب، ومنه إلى المجلس العسكرىّ، ذهاباً وإياباً، لتقليل التخويف من سيطرة الإسلام على الحكم، حتى لو كانت هي رغبة الغالبية من الشعب.

الحقّ أن تكلفة الوصول إلى الغرض الرئيس من الثورة، وهو إعادة أمر الشعب ليد الشعب، عالية جداً بالنسبة إلى الجيش، وكافة الجيوش العربية حتى لا نظلم جيش مصر، خاصة وإن هذه الجيوش قد تكوّنت أصْلاً لمنع هذا الأمر من الحدوث، وكانت مهمتها الأصلية في العقود الثلاثة السابقة على أقل تقدير، هي حماية الأنظمة القمعية، لا الدفاع عن الأوطان. وكان أن بَنت هذه الجيوش كثير من المصالح الإقتصادية من ناحية، والمصالح الإستراتيجية مع الغرب من ناحية أخرى، مما يجعل هذه المصالح تعلو، في رأينا، لدى هذه القيادات، على أية ثورة أو مصلحة وطنية قد تهدّدها.

وإذا قررنا هذا، فإنه يبقى أن يظل أبناء الثورة على يقظة من أمرهم، وعلى إستعدادٍ لتقديم التضحيات التي تصل بمصر إلى أن يكون أمر شعبها بيده لا بيد حفنةٍ من أبنائه، وإن إتخذوا زياً، وألبسوا عليه قداسة، ما أنزل الله بها من سلطان. ولعل التفرقة بين أبناء الجيش وأفراده العاملين، وبين قياداته التي تخدم هذه المصالح، وتخدمها هذه المصالح، واجبةٌ للإنصاف والتمييز.

حَمى الله مصرَ، أرض الإسلام، وهدى أبناءها، مدنيين وعسكريين، لما يُحقق عودة أمر الشعب إلى الشعب، حقيقة لا خيالاً، واقعاً لا إدعاءاً.