فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      5- يامَعْشَرَ النِسَـاءِ تَصَدّقْن ! (2)

      ارتسمت ابتسامة خفيفة على محيّا أم هانئ حين نظرت في وجوه رفيقاتها وكأن على رؤوسهن الطير إذ علمت ما يدور في خلدهن. قالت:" أكُلّ هذا الصمت بسبب ما نحن بصدده من حديث عن الحديث الشريف ..يا معشر النساء تصدّقن؟" قالت أم الفضل، وقد شعرت بما ألمحت إليه أم هانئ :" على رسلكن يا أخوات، فأنتن ضُيوفيَ اليوم، وأنا امرأة أحب الدعابة وأميل إلى الضحك، فهل أنتن منتهيات!" ابتسمت السيدات ورحن في حديث عن العيال والمال حتى قطعته أم هانئ بقولها:"لنعود الآن إلى مواصلة الحديث بما انتهينا إليه في جلستنا السابقة. ولعلّكن تذكرن ما قلناه عن تلك المرأة العاقلة العاملة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب أن النساء أكثـر أهل النار، وما قلناه من أن الواجب هو أن نتخذ خطوات نحو البعد عن النار والقرب من الجنة، وأود أن أضيف إلى ما قلت في المرة السابقة أن هذا الحديث ليس من قبيل القدر المكتوب على جبين كل بنات حواء لا فكاك لهن منه، وإنما هو من قبيل التحذير العام الذي تعمل كل امرأة على تجنب مقتضاه ما استطاعت وإلا فهي ممن حق عليهن القول، والغرض هنا هو أن نقلل من عدد النساء المخالفات ونزيد من عدد الموافقات. ولنتذكر أنه "ليس للإنسان إلا ما سـعى"، وهو أمر تشترك فيه المرأة والرجل على السواء، فنحن نُحَاكَم بما نفعل، وإن كان أكثرنا من أهل النار فلا نلومنّ إلا أنفسنا، والفطنة تقتضي أن نعرف لماذا كانت النساء معرضة لهذا المصير أكثر من أقرانـهن من الرجال، وإن كان للرجال شراك كثيرة نصبها الشيطان لهم من دون الجنة، وإنما جاء التحذير منها عاما منتشرا في السنة كلها، و والله إني لأحسب أن الرجل الفطن إنما يحذر لنفسه ويحاسبها أكثر مما تفعل المرأة إذ هو معرّض لأضعاف ما تتعرض له المرأة من فتن مما سنلقي عليه الضوء فيما يأتي من حديث لتكون كلّ منا منار تحذير لرجلها في هذه الحياة الدنيا، ثم أعود إلى سبب أن كانت النساء أكثر عرضة للنار من الرجال، إذ أفصح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك، وعدّده في التالي: كثرة اللعن، وكفر العشير، ونقص العقل والدين ثم استلاب لب الرجل الحازم، ونحسب أن كل هذه الأدواء إنما تأتي من نقص العقل والدين، إذ أن صيغة الحديث قد جاءت بوصف المرأة بهما كوصف ذاتيّ لها لا كصفة من خارج وهو مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم "ما رأيت من ناقصات عقل ودين…" ، ودعونا ننظر مليّا في هذه المسألة بعين المسلمة التي ترغب في معرفة نقصها لإكماله لا بعين المرأة التي تغطي على نقصها بإنكاره.

      فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استدل على هذا الأمر في ردِّه على المرأة السائلة، إنما استدل بالحكم الشرعيّ، فجعل حكم الله الشرعيّ بأنّ تقوّم شهادة الرجل بشهادة امرأتين دليلا كافيا على نقص عقلها دون الحاجة إلى دليل من علم النفس أو التشريح، والله يعلم خلقه سبحانه "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" كما أتخذ من حكمه سُبحانه بأن تكُف المرأة عن الصـلاة والصيام أيام حيضها دليلا على نقصان دينها. وهذا الدليل لا يصلح إلا للمؤمنات من النساء، إذ إن قول الله سبحانه دليل مستقل قائم بذاته يُفتَـقَرُ إليه في الإثبات ولا يَفْتَـقِر إلى شيء، ومن طلبت على قول الله دليلا فلتراجع إيمانـها ابتداءً. فلا معنى إذن في الحاجة لإثبات ذلك بأدلة أخرى. والعقل، أخواتي الحبيبات، ليس هو تاج البشرية الأوحد، وإنما قد أهّل الله سبحانه كل مخلوق بما يعينه على أداء وظائفه التي خُلق لأدائها، فخَـلق للطير جناحين يحلّق بهما في الهواء، وخلق للسمك زعنفا تضرب به صفحـة الماء ويعينها على حركتـها فيه.. وهكذا.. ناسبت الخِلقَةُ الغـرض منها. والبشر ليسوا استثناء من ذلك، فالمرأة لم تخلق ابتداءً لتكون من رواد علم الفضاء أو من مُكتَشِفَات النظريات الرياضية، وإن أمكنها فهمها وإدراكها، ولكنها خُلِقَت لتكون أمّا حنونا تحيط أبناءها بالرعـاية والحنان وتملأ حياتهم بالحب والمودة، وخلقت لتكون زوجـة صالحة تملأ حياة زوجها بالحنان والدفء والرعايـة، يَنظر إليها فتسرّه ويطلب منها فتطيعه، فهي عونُه على الدنيا لا عون الدنيا عليه، تخفف من حمـله ولا تثقله بحملها، ومن ثم خُلقت بقلب أكبر وعاطفة أشد وأقوى من الرجل فهي رقيقة شفافة كنسمة صيف لزوجها وأبنائـها، وماذا نريد من كمال العقل، بالله عليكن، إن كان الله سبحانه قد شـرّفـنا بسعة القلب وفيـض العاطفة؟ وإنما الحذر كل الحذر والشقاء كل الشقاء حين تلتفت المرأة عن واجبها الأصليّ ودورها الأساسيّ الذي أعدّها الله لحملِه، لتنافسَ الرجل فيما أهّـله الله له باكتمال عقله، تاركة وراء ظهرها ما أهّلها بارئها له باكتمال عاطفتها وقلبها.

      وأنتن عارفات بالحال يا رفيقات، فكثـيرات منّا لا تعبأ بما يلقاه زوجها من تعب وكد للحصول على لقمة العيش، وإنما تجدها دائما في حالة ضيق وشكاية إذ ترى نفسها أحق بحياة أفضل وبنعمة أكثر مما هي فيه، أيّا كان ما هي فيه من نعمة، فالأمر هنا هو الرضى بالمقسوم والعرفان للجميل وهو ما قصد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه. والشكوى والتضجر من الحياة إنما هو اعتراض على قسمة الله سبحانه واعتراضُ على قَدَرِه. أمّا كفر العشير، فالكفر هنا ليس كفرا بالله وإنما هو نوع آخر من الكفر، وحتى نفهمه جيدا يجب أن نعود للمعنى الأصـليّ للكلمة في اللغة العربية، فكلمة "كَفَرَ" تعني في اللغة "غَطّى" قال تعالى"كمثل غيث أَعجب الكُفـّار نَبَاتُـهُ" الحديد 20، أي الزرّاع. وقد سُـمّي الزارع كافرا (لُغويّا) لأنه يقوم بتغطية الحب في الأرض، واستعمل لفظ "الكفر" في الاصطلاح الشرعيّ ليدل على أن الكافر يغطي نعمة الله عليه ويجحدها. قفزت أم الفضل من مقعدها كاللديغ وقالت بنبرة مُلأت رعبا:"أتقولين أننا كفارٌ يا أم هانئ؟!" قالت أم هانئ:"على رسلك أم الفضل؛ فالكفر نوعان: كفر أكبر وكفر أصغر، وحتى لا أضجركن أقول باختصار: إن الكفرَ الأكبر كفرُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليـوم الآخر أو أن يأتي المرء من الأفـعال بما هو مناقض للتوحيد، أمّا الكفر الأصغر فهو صيغة من صيغ التعبير عن المعاصي الكبيرة والذنوب العظيـمة تحمل وصف الكفر إذ أن فيها من الكفـر معنى من المعانيّ وهو تغطية حق الذي ارتُكِبَت في حقه، ومنها كفر النعمة، ولهذا ترجم البخاريّ هذا الحديث تحت باب"كفر العشير أو كفر دون كفر" وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ أن المرأة التي تفعل ما تفعل من شكوى وتضجّر هي "كافرة " بنعمة زوجها عليها ومغطية لحقه. هذا هو معنى الكفر هنا، لا كفر بالله ولكنه كفر بالنعمـة وكفران للعشير.

      ثم إن أمر "أذهب للبّ الرجل الحازم منكن" مبنيّ على ما سبقه، إذ أن للمرأة، إن أرادت وإن هيأ لها شيطانها، وسائلها في إثارة حنق عشيرها بما لا يقدر معه على التحكم في أعصابه فيخرج عن طوره ويقول ما لا يقصد ويفعل ما لا يرضى. وقد فعلت ذلك أفضل نساء العالمين من أمهات المؤمنين، وأعـني بهما السيدة عائشة والسيدة حفصة حين أثرن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلن ما فعلن مما جعله صلى الله عليه وسلم يعتـزلهن جميعا، بل كاد أن يطلقهن، وليس أحزم منه صلى الله عليه وسلم.

      والغرض هنا يا أخَواتي المؤمنات ليس الحطّ من قيمة المرأة، بل هو إخبارها بما تَصْلُح له ويَصلُحُ لها، والعقلُ عقلان؛ عقل استدلاليّ يضع النتائج من مقدماتها حيث تجب، ويحلل المواقف ويستنبط الأمور ويَقوى على مواجهة الحياة وما فيها من مثقلات، وهو أداة للرجل أكثر منها للمرأة، وعقل فطريّ يعرف الخطأ والصواب ومواطن الإحسان ومواضع الرفق وهو ما أغدق الله علي المرأة العاقلة منه إن فهمت عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

      الأمر إذن تحذير للنساء لا يجب أن تستخف به المرأة المسلمة، فالأمر أمر جنة أو نار لا أمر مغالبة ومصارعة مع الرجال على أيّ الجنسين أفهم وأيهما أقدر أن يقوم بما يقوم به الآخر. هو أمر جدّ لا أمر هزل، فلننتبـه إلى ذلك ولنفعل فعل النساء الصحابيات حين بذلن ما لديهن دون تردد اتقاءً لما قد يكون من نصيب إحداهن إن أصرّت على أن تغضب زوجها وأن تخرجه عن طوره فيخسر كلاهما الدنيا والآخرة جميعا.

      وليس للرجال متعلّق بهذا الحديث، وليس لهم أن يعايروا النساء به، إذ، كما ذكرت، ذلك توجيه وتحذير من رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو للغضّ من المرأة أو نكاية فيها، وكثير من الرجال يتخذون من هذا الحديث مطية لأغراضهم، وهذا ما ليس من الشرع في شئ وسيكون للرجال معنا دور نبيّن لهم ما قد يخفى عليهم من أوجه الاستفادة من الحديث في إقامة بنيان بيوتهم على أسس أقوى ودعائم أشد وأرسى، دون أن يتندروا بالمرأة ويعايرونها بما قد لا يكون فيها على وجه الخصوص.

      ثم، مرة أخرى، أرى أن الوقـت قد أزف للانصراف، وإنّ على كل منكن أن تصرف وقتا تحدّث نفسها بما سمعت وأن تعِـيَ ما عرفت لعل أمرها يصبح كله رشدا إن أطاعت ربها وقنعت بما أكرمها به " وتواعدت السيدات، مرة أخرى، على لقاء قريب.

      د. طارق عبد الحليم