فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      3- درجـة الفضـل .. وفضـل الدرجة !

      " ها أنا ذا قد وفيت بما وعدت ، وجئتك زائرة ، ردّا لجميل صنعك يوم أن أعدت الهدوء والاستقرار إلى منـزلي " قالت السيدة لجارتها ، بعد أن استراحت في جلستها " ولكي أتحدث إليك ، ولا أخـفي عليك ، في العديد مـن الأمور التي تتزاحم في فـكري ولا يستوعبها عقلي ، وعقول الكثيرات من أبناء جنسنا ، بشأن تلك العلاقـة المشتعلة بين الرجل والمرأة ، والتي تحوّلت في زماننا هذا إلى علاقة ظاهرها الوفـاق وباطنها الشـقاق !" قالت الجارة الصديقة " إن كلامك ليملأني خجلا ، فما عرفت من نفسي القدرة علي الإقناع من قبل ، وإنما هو الفهم عن الله سبحانه ثم الصدق في النصح ، ليس إلا.. ، وعلي كل حال ، فما الذي يقلقك هذه المـرّة ، يا أختاه ؟" قالت السيدة: " إن كثيرا من الرجال يدّعون التميّز عن النساء تميّـزا أصليا يجعلهم أعـلي مرتبة وأرفع قدرا ، ويتلـون من كتاب الله ما يحسبنه مصداقـا لذلك ، من قولـه سبحانه: " ولهـن مثـل الـذي عليهـن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة " البقرة 228. فهم يردّدون الآية الكريمة في كل منـاسبة يختلف فيها رجل وامرأة ، للحطّ من مكانتها دونه ولإمـلاء رأيـه عليها ، حتى صـرنا نخجـل من أنفسـنا في بعـض الأحيان ، بل ونشعر بمقاومة داخلية ، وأعوذ بالله من ذكر ذلك علانيـة ، لمعنى الآية الكريمة .. كما تعرفين عن موقفنـا ، بشكل عام من الآيات الكريمة الخاصة بالتعدد في الزواج..! فهل من رد في هذا الأمر يشفي العقل العليل ويروى الصـدر الغليل ؟

      ابتسمت الصاحبة ، واعتدلت في جلستها ، وقالت: " ألا ما أشبه الناس بالناس ! فـقد سمعت هذا القـول ممن لا أحصي عـددا في كل بقعـة من بقاع المسلمين حول الأرض ، شرقا وغربا . وأبدأ بأن أقول لك ، يا أختاه ، أن هوّنـي عليك فـان الله سبحانه ما افـتأت علي بنات جنسنا ، فما جعل علينا هو العدل وما فرض لنـا هو العـدل ، فهو العـادل بإطلاق ، وذلك من مستلزمات الإيمـان .

      " أمّا قول القائل من الرجال : أن المـرأة أقل من الرجل ، بحكم الفطرة وطبيعة الخلقـة ، فهذا قول معتسف لا يصح أن يحمل علي عمومه ، أو أن يخرج عن حدوده ، فالرجل ، ولا شك ، مختـلف عن المـرأة في أمور كثيرة ، وكلّ ميسّر لمـا خلق له . فالرجل أقوى في البنية وأقدر علي تحمل الصعاب ، وهو أحـدّ ذاكرة وأكثر تحـكما في عواطفه وانفعالاته ، ولهذا فان الله جعل عقدة النكاح وأمر الطـلاق في يده دون المرأة ، ثم جعل شـهادتـه بشـهادة امرأتين ، وعلل ذلك بإمكانية النسيان ، مع أن النسيان ممكن الوقوع من الرجل كذلك ، ولكن الأمر هنا هو أمر الأكثر احتمالا . كل هذا حق لا ننازع فيه ، ولـكن.. " قالت السيدة بنبرة المتلهف: " نعم.. أريـد أن نصل إلى ولـكن !..." ، ابتسمت الجارة وقالت: " ولكن هذا يمـلي علي الرجل أن يكون أجـدر بتحمـل عبئ تلك المسؤوليـة ، مسؤوليـة الريـادة والتقـدمة. فالأمـر أمـر تكليـف لا تشـريف ، وسيـكون لنا رجعة إلى هذا الأمر ، وأمر آيات التعدد وخـلافها في وقت لاحـق إن شاء الله تعـالى .

      أما عـن الآية التي ذكرت فإنـها قـد سيقت في مجال الحـديث عن العلاقـة الزوجيـة ، أي العـلاقـة بين الرجل والمـرأة ، فـكان التساوي فيمـا لهـن وما عليهن هو الآخـر في مجـال الحيـاة الزوجيـة كمـا تمـلي الآية بـنصّهــا ، وهي إشارة إلى حـق المسـاواة ، بشـروطها ، يمر عليها الرجـال مـر الكـرام !! وأمّا الدرجـة التي عني الله سبحانه ، فهـي "درجة الفضـل" ، فالرجـل ، لمـا كان له من قـوة وقـدرة ، عليـه أن يرتفع إلى درجة الفضـل في معاملة زوجـه بالإحسان إليها والتوسـيع عليهـا والرفـق بـها ، لا بالتعـالي والتضييـق عليهـا ! فـان فعـل ذلك ، وحـاز درجة الفضـل ، اسـتحـق فضـل هذه الدرجة ، أي كـان علي زوجـه أن تعامـله بفضـل هذه الدرجة التي استحقهـا، فتقـدّره وترفـع من شـأنه وتضعـه حيث وضعـه الله من درجـة القوامـة . أمـّا من لم يحـز هذه الدرجة مـن الفضـل ، فلا يلو من إلا نفسه إن اضطرب بيتـه بالشقاق والتفكك ، فهو لم يرتقـي إلى الخلـق الذي أراده الله منه ، وجانب الفضل وعـرّض نفسه لغمط القدر وسوء الذكر من أهله . فالفضـل في هذا الموضـع ، إذا ، هو فضـل "واجب" لا فضـل "حـق" ، فضـل "عطـاء" لا فضـل "اسـتعلاء" ، فضـل "بـذل" لا فضـل "أخـذ" . وأقسم لك يا أختاه أن هذا المعـني للدرجـة التي ذكرت في الآيـة الكريمة قد خطـر لي منـذ ليـالي معدودات ، ثم شاء الله أن أطـّلع بعـدها علي قـول لابـن عباس ، حـبر الأمـة وفـقيهها ، ذهب فيه إلى ما ذهبت إليه ، ووافـق فيه فهمـه للآيـة فهمـي ، قـال ابن عباس رضي الله عنه: " الدرجـة : حـض الرجال علي فضل العشرة ، والتوسع للنساء في المـال والخـلق ، أي أنّ الأفضل ينبـغي أن يتحامل عـلي نفسـه " ، فكان ذلك التوافـق بين قـولي وقـول ابن عبـاس عندي ، علم ال له، أفضـل من حـمر النعـم كما تقول العرب.

      فهي ، إذن ، علاقـة متبادلـة مزدوجـة ، تضـع علي عـاتق الرجل مسؤولية الرقـي إلى درجـة الفضـل والإحسـان ، بأداء واجباتـها والصبر علي تكاليفها، وتتطلب من المـرأة الاعتراف بفضـل هذه الدرجـة وتقديرهـا ، بأداء حقـها ومراعاتـها .

      قالت السيدة وقد انبسطت أسـاريرها " الحمد لله الذي سمّى نفسه الحـق ، فان ذلك المعنى قد أثـلج صدري وجعلني أشـعر بكرامة المـرأة وحـقها الذي جـار عليه بعض الرجال لقـلة علمهم بمعانـي الشريعــة الحقـة . وإنـي لأود أن أقترح عليك أمر أرجو أن يحـوزَ رضـاكِ وقبـولك ِ، وهو أن نعـمم فـائدة هـذه الجلسات المباركة علي عدد أكـبر من الأخـوات بأن ندعو من أراد منهن إلى لقـاءات للمحاورة والحديث فيما ينفعنا في يوم معادنـا ، فما رأيـك ، دام فضـلك ؟" قالت الجـارة الصديقة: " جـزاك الله خـيرا ، ولا مـانع عنـدي من ذلك، فليـس أفضـل من جلـسات العلم ، التي فضّـلها رسول الله علي جلسـات الذكـر ". قالت السيدة: " فالي لقـاء قريب إن شـاء الله تعالي ".

      د. طارق عبد الحليم