فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      معالم في قضية التربية عند أهل السنة والجماعة

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:-

       

      فهذا المبحث هو لعرض[قضية التربية عند أهل السنة والجماعة]،(و لعله لن يخالفني الكثير، إن قلتُ:إن مجموعة كبيرة ، من أمراض العمل الإسلامي، ترجع إلى اختلال المسالة التربوية فيه، من حيث التصور، أو الممارسة، ذلك أن التربية هي الإطار الأساس، الذي يتم داخله تشكيل القيادات، والجنود، على حد سواء ، فهي صمام الأمان ، الذي يضبط المسيرة الدعوية ، داخل الصف؛ اصطفاءً واستيعاباً، ثم ترقيةً وتزكيةً ،ثم تخريجاً وتأهيلاً ، وقد لاحظنا ، أن كثيراً من الخلافات ، وكثيراً من الآفات ،وكثيراً من التعثرات الواقعة في العمل الإسلامي، إنما هي انعكاس طبيعي ، لخلافات ، وآفات ، وتعثرات تربوية خاصة . ومن هنا ، كان قدر كبير من نجاح مسيرة العمل في مختلف جوانبه ، مرتبطاً بشكل مباشر، أو غير مباشر ، بما يحققه من نجاح ، في المسألة التربوية، تصوراً وممارسة.(*)

       

       وربطنا لقضية "التربية بأهل السنة والجماعة" لنخرج بمفهوم التربية عن التباسات أصحاب البدع والضلالات، والذين زاغوا في مجال التربية باعتمادهم مناهج للتربية بعيدة كل البعد عن مناهج أهل السنة والجماعة ، ويأتي عرضنا لهذا الموضوع ضمن موضوع "أزمة العقل المبدع" وهنا نأتي لعرض حقيقة هامة جداً وهى أن أهم الأسباب من وراء عدم إيجاد العقول الإسلامية المبدعة القادرة على صناعة الحدث والاضطلاع به، والقيام بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم حين يغيب الصف الأول لأي سبب من الأسباب الخارجة عن الإرادة الذاتية للدعاة، هو الخلل في تصور وعرض قضية التربية وخاصة لدا القيادات الذين يقومون بعملية التربية،لذلك وجب علينا أن نعرف معنى التربية ،وما هي المعالم الرئيسية في قضية التربية كما وضحها المنهج النبوي.

       

      • ·        التعريف:-

       

      التربية (لغة):- ترجع مادة (ربب) في اللغة ، إلى معاني النمو ، والإنماء ، والعلو، والكثرة، والجمع، والسيادة، وهذه كلها أصل واحد ، يدل على الإنماء.

       

      يقول الراغب الأصفهاني : ( الرب في الأصلُُ: التربية: وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً ، إلى حدّ التمام يقال: ربَّه وربَّاه وربَّبَه). وقال ابن منظور : (السحاب يُربُّ المطرَ : يجمعه وينميه  والمطر يَرُبُّ النبات والثرى: ينميه وربَّ المعروفَ والصنيعةَ ، يَرُبُّها رَبًّا وربَّبها : نمَّاها، وزادها ، وأتمها ، وأصلحها). وأما (التربية) في التداول الاصطلاحي الدعوي ، فهي : تعهد الفرد المسلم، بالتكوين المنتظم ، بما يرقيه، في مراتب التدين ، تصوراً وممارسة.

       

      فالتربية بهذا المعنى، عملية شمولية،نظراً لشمولية أهدافها المرتبطة ، بالتدين الإسلامي الشامل ،ذلك أن التعبد في الإسلام، غير مختزل فيما يسمى عند الفقهاء بالعبادات المحضة ، بل هو متعدد إلى جانب العادات، والمعاملات، أيضاً .

       

      ومن هنا كانت التربية الإسلامية متعلقة بتصحيح التصورات ، ثم تصحيح التعبدات ، ثم تصحيح السلوك الاجتماعي ،وكل هذا يتطلب توظيف معلومات شتى، لها علاقة بمختلف جوانب الحياة بصورة أو بأخرى ، باعتبارها أدوات إجرائية ، تساعد على فهم النصوص الشرعية ،وحسن تنزيلها تربوياً، في حياة الفرد والجماعة.

       

      ولبيان المعالجة الشمولية، التي تتم في إطار التربية الإسلامية للإنسان ننقل كلاماً نفيساً للأستاذ محمد قطب ، يبين ما نهدف إليه، وما نرومه بمصطلح التربية، من حيث هو عملية تنزيلية، يقول حفظه الله: (طريقة الإسلام في التربية، هي معالجة الكائن البشري كله، معالجة شاملة، لا تترك منه شيئاً ،ولا تغفل عن شيء؛ جسمه، وعقله ،وروحه حياته المادية والمعنوية، وكل نشاطه على الأرض  إنه يأخذ الكائن البشري كله، ويأخذه على ما هو عليه،بفطرته ،التي خلقه الله عليها، لا يغفل شيئاً من هذه الفطرة ، ولا يفرض عليها شيئاً ليس في تركيبها الأصيل! ويتناول هذه الفطرة في دقة بالغة، فيعالج كل وتر منها، وكل نغمة تصدر عن هذا الوتر، فيضبطها بضبطها الصحيح، وفي الوقت ذاته يعالج الأوتار مجتمعة ،لا يعالج كلاً منها على حدة ، فتصبح النغمات نشازاً ، لا تناسق فيها. ولا يعالج بعضها، وبهمل بعضها الآخر ، فتصبح النغمة ناقصة ، غير معبرة عن اللحن الجميل المتكامل ،الذي يصل في جماله الأخاذ إلى درجة الإبداع).

       

      فالتربية إذن ، عملية معقدة، يجب أن يراعى فيها كل ما يساعد على تمثل الإسلام في الحياة البشرية ، روحياً ، وعلمياً ، ونفسياً ، واجتماعياً ، ورياضياً  إلخ .

       

      ومن الخطأ ، قصر التربية على جانب التزكية الروحية دون سواها، أو العكس.( 1).

       

      وهذا المعنى كان واضح عند السلف يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران 79   )

       

      والربانيون واحدهم رباني منسوب إلى الرب والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور روي معناه عن ابن عباس (2)

       

      • ·        معالم في قضية التربية:-

       

      ا-التربية بين المربى والوسيط:-(إن المربى يعلم الفرد كيف يكون منتجاً، ذلك أن المربي هو الذي يقوم بتنمية الفرد، وترقيته في مراتب التدين، والتشكيل النبوي لشخصيته، على أساس التجرد والاستقلال فلو أردنا التمثيل المادي للعمليتين، من حيث اختلاف المربي والوسيط ، لكان المربي هو معلمك كيفية صيد الأسماك في المثال المشهر: (لأن تعلمني كيف أصطاد السمك ، خير لي من أن تعطيني كل يوم سمكه)، ولكان الوسيط هو الذي يتصدق عليك كل يوم بسمكة! فانظر أي فرق بينهما ! وأي فرق بعد ذلك بين العمليتين في الحال والاستقبال.

       

      فالمربي إذن هو الذي يعلمك ، كيف تكون منتجاً، والوسيط هو الذي ينتج بدلاً منك ، فيعطيك المفاهيم جاهزة من خلال كتابه، أوورده ، أو حاله ، فلا تكون إلا مستهلكاً ، والمربي هو الذي يعلمك كيف تنمي قدراتك الذاتية ، ومواهبك الشخصية، فتكون بعد ذلك نسيج وحدك، وطراز شخصك ، لا فرداً من نمط واحد ، متعددٍ في الشكل ، متحد في الجوهر يسعى لتقمص شخصية الوسيط لأن الوسيط يقوم بالحد من مواهبك الشخصية، ومحاولة إلغاء قدراتك الذاتية ،من خلال تلقينك المفاهيم الجاهزة ، والمقولات المستهلكة ؛ فلا يترك لك فرصة للتفكير ، أو النقد ، أو المراجعة ؛ لأنه يقوم من خلال وساطته، بتدمير جهاز المناعة الذاتية ، في العقل فيحدث في الفرد حالة من الاستسلام التام ، لكل ما يتلقاه عنه ، حقا كان أم باطلاً.

       

      إن الوسيط على حد تعبير الدكتور إدريس نقوري يحتل : (مركز الصدارة ، ويتمتع بسلطة قوية ، ذات تأثير ونفوذ كبيرين على الذات ، وعلى الموضوع في آن واحد).

       

      بينما نجد المربي متجرداً من كل ذلك ،إذ ما هو من الناحية التربوية إلا أداة إجرائية بالقصد الأصلي ، تساعد على تنزيل العملية التربوية على أحسن وجه، وتمثل فعل الأمر (قُلْ) المحذوف في قوله تعالى : (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )(البقرة : 186) فلم يذكر النص الرسول صلى الله عليه وسلم حينما تعلق الأمر بمسألة تعبدية تربوية ، حيث وجب الربط المباشر للمتربين بالله ،إذ لم تكن المسألة تعليمية ، يرتبط الجواب فيها بوجود المعلم الشارح ، كما في سائر أسئلة القرآن ، نحو قوله تعالى (ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى )(البقرة : 222) ونحوها كثير كما هو معلوم.

       

      فالمربي كما هو في الآية الأولى ، موجود بالقصد التبعي، لا بالقصد الأصلي، لأن السياق يقصد بالأصالة، ربط العباد بربهم ربطاً مباشراً ، ولا يمنع هذا من تقدير وجود المربي، من خلال الفعل المقدر (قل)، باعتباره مكوناً للمتربين بالمادة الشرعية أولاً ، وبسلوكه الإسلامي، وقدوته الحسنة بعد ذلك ثانياً ولكن على أساس أن يكون هذا القصد الثاني خادماً للقصد الأول الأصلي ، لا هادما له ، لأنه إنما هو مكمل ومتمم لقصد ربط العباد بربهم ، وأي انحراف عن هذا القصد يفقد المربي وظيفته كمرب، فيتحول إلى وسيط مزاحم للقصد الأصلي التعبدي ، ومخالف له.

       

      ومن هنا قال أبو إسحاق الشاطبي في قاعدته المقاصدية: (كل تكملة، فلها من حيث هي تكملة ، شرط وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال).

       

      ويختلف المربي بعد ذلك عن الوسيط ، في منهج الاستيعاب الخارجي ، كما يسميه الأستاذ فتحي يكن، لكون المربي يستقطبه لحركته على أساس مبادئها ، وبرامجها ، لا على أساس أسمائها ورموزها ، فلا تطغى الحزبية على المبدئية، ويكون التركيب الأولي للفرد ، إنما هو على مدى الاقتناع بالمشروع الكلي للحركة ، لا على مدى الإعجاب بالقائد الفلاني ، أو المفكر الفلاني، ولا على مدى الانبهار بكرامات الشيخ الفلاني أو مقاماته .

       

      فالربط التوحيدي ، الذي يقوم به المربي، هو ربط بالمشروع الإسلامي أساساً ، فهو ربط بالله، والربط الوساطي الذي يقوم به الوسيط ، هو ربط بالذات، أو الذوات الشخصانية ، المؤسسة للتنظيم ، والُمَسَّيرة له فيكون الانحراف التربوي من أول الطريق، بحيث إنه بقدر ما يستطيع الفرد المقتدي بالمربي ، تجريد قصده لله عز وجل ، وإخلاص أعماله له وحده سبحانه ، بقدر ما يعجز الفرد المقتدي بالوسيط عن فعل ذلك ، إلا من خلال استحضار تلك الوسائط ، التي كانت سبب انتمائه للحركة الإسلامية المعنية ، وسلوكه في نظامها التربوي، فيعمل العاملون بعد ذلك في إطار التوحيد ، بقصد التعبد ، ويقع العاملون في إطار الوساطة ، في شرَك قصد الحظ ، المرتبط بالأشكال والرسوم ، على تعبير القوم ! وذلك قد يكون هو الشرك الخفي!

       

      إن الداخل إلى مؤسسات العمل الإسلامي ، عبر منهج الوساطة ، لا يدخله إلا لأن فيه فلاناً وفلاناً، وتلك أولى الآفات التربوية، المترتبة عن وساطة الوسيط، والتي تغرس في النفس تعصباً حزبياً يصعب معه ، إن لم يستحل ، إنشاء الحوارات ، وتوحيد الجهود، وتنسيق الأعمال . بل هو داع خطير للانشقاقات والصدمات (الأخوية)، لأن المتربين هنا إنما يؤمنون بأسماء الرموز ، لا بما يدعون إليه أساساً! (3).

       

      ب-التربية بين التكوين والتلقين:-( أشرنا في المقارنة بين المربي والوسيط ، إلى أن المتربي ، يتعلم من المربي طرائق الإنتاج، وأنه لا يتعلم من الوسيط إلا طرائق الاستهلاك ، وذلك هو المقصود عندنا ههنا ، من مصطلحي ( التكوين والتلقين)، فهما معنيان متقابلان، لأن التكوين هو طبيعة العملية التربوية ، في إطار التوحيد ، والتلقين هو طبيعتها في إطار الوساطة. فالتكوين إذن ، هو إعداد الفرد ـ كما مثّلنَا في مثال اصطياد السمك ـ ليكون قادراً على تمثُّل المفاهيم الشرعية من مصادرها إنه محاولة اكتشاف مواهب الفرد ،وطاقاته الذاتية، لتطويرها قصد إنتاج الشخصية الإسلامية الفعالة. أما التلقين فهو : شحنه بالمفاهيم الجاهزة ، المتمثلة في فكر المفكر ، أو سلوك الشيخ.

       

      وعليه ، فإن التربية التوحيدية، تعمل على إنتاج العقلية القيادية، المنتجة في مجالها، والجندية المبادرة ، المنتجة في مجالها أيضاً، لأن طبيعة العمل بالنصوص، تكسب الفرد قوة منهجية ذاتية،ودربة على العصامية ، فأقل شيء تكونه في المتربي البسيط ، الثقافة عندما تواجهه بالنص الشرعي، وتكلفه بتفسيره، أو شرحه، هو أنك تنبه نفسيته الخاملة وتوقظها، إذ تجعله يحس أنه يجب أن يعطي هو أيضاً ، لا أن يستهلك فحسب ،ثم إنه يقوم بمراجعة ذاتية داخلية ، من أجل العمل على استخدام طاقاته ، وتطويرها، وهكذا يبتدئ تكوُّن العقلية الإنتاجية.

       

      فكثيرة هي تلك الشخصيات الانطوائية ، التي تذم نفسها ، وتستهين بقدراتها الذاتية ، والواقع أن لها من الطاقة ـ لو وجدت من يكتشفها كي يتأكد منها صاحبها أولاً ، ثم يقوم بتطويرها ـ ما يعطي الشيء الكثير لهذه الدعوة ، وللإسلام عامة ، فالتعامل مع النصوص الشرعية، كفيل بإيقاع الفرد بذاته أولاً.

      ولذلك فإن أول ميزة يتخرج بها المتربي من البرنامج التوحيدي، هي القوة الإرادية المبادرة ، فهو طاقة فعالة منتجة، حيثما حل أو ارتحل، لا وجود في شخصيته للرغبة الاستهلاكية ، والشعور الانتظاري ، فرب شخص توحيدي التربية، يرتحل إلى بلدة نائية ، لم يمتد إليها العمل الإسلامي ، ويتعذر التواصل معه، ورغم ذلك يأتيك بعد سنة، أو سنتين ، متبوعاً بجماعة من الأقوياء الأمناء، تشكل حصيلة إنتاجه التربوي طيلة غيابه، فيمد حركة الإسلام برافد جديد من العاملين ، ويضيف إلى جغرافيتها منطقة لم تكن في الحسبان .

       

      ورُبَّ شخص آخر، تخرج من برنامج وساطي ، يعين في بلدة آهلة بالعاملين والدعاة ، ويكلف بقطاع ما، أو عمل ما ، وبعد مدة يأتيك شاكياً باكياً: إن المسؤولين لم يتصلوا بنا، إن المسؤولين لم يهتموا بنا ، إنهم لم يزودونا ، إنهم و  إنهم إلخ ، ولا يصدر اتهاماً واحداً لنفسه !! فتحس أن الرجل قد فتر فعلاً ، بل كاد يتلاشى.

       

      فالفرق بين النموذجين يرجع أساساً إلى طبيعة العمل التربوية ،الذي تربى عليه كل منهما، فالأول كما ذكرنا رجل خضع لتربية تكوينية، لا تلقينية، فتكونت فيه شخصيته الفاعلة المبادرة، وعقليته الإنتاجية لا الاستهلاكية ! فهو وإن رحل إلى بلدة ليست فيها بيئة إسلامية، فإنه أوجدها وصنعها. وأما الثاني فهو رجل خضع لتربية تلقينية ، لا تكوينية، فتلقن ما يصلح به تدينه الذاتي إلى حين ، لا ما يصلح به غيره ، لأن العقل المصلح ، أو الإرادة المنتجة لا تلقن أبداً ، ولكنها تكون تكويناً.

       

      ولذلك رغم أنه عين في بلدة ذات بيئة إسلامية ، فإنه لم يستطع القيام بمهمته المنوطة به، بل إنه كان ينتظر اتصال المسؤولين به وتزويده ، ومساعدته ، ولما لم يكن ذلك ، بدأ يتدهور تدينه الشخصي ، والتزامه الذاتي، وهو في ذلك معذور، لأنه أَلِفَ أن يستهلك، ولم يألف أن ينتج، لأن المنهج الذي تربى عليه، لم يتح له ذلك ، فقد كانت شخصيته مستلبة من لدن الوسيط ، الذي كان ينتج كل شيء ، ويطعم أفراده المفاهيم جاهزة.

       

      ومن هنا لم يدرك هذا المتخرج الجديد، أن عليه أن يفطم نفسه عن الاستهلاك ، وأن يشرع في الإنتاج، وحتى لو أدرك ذلك ، فإنه لن يستطيع تحقيق تلك الإرادة في نفسه، وحتى لو أراد ،فإنه لن يتمكن من الإنتاج فعلاً ، لأن عقله لم يشكل ذلك التشكيل ، فيكون عليه إعادة تربية نفسه من جديد.

       

      وهكذا ففرق بين شخص كهذا، لو عين في منطقة نائية عن نفوذ العمل الإسلامي، لربما ضاع وتساقط، وبين شخص يذهب إلى هناك ، وبعد عام يأتيك بقبيلتي أسْلَمَ وغفار ،تماماً كما صنع أبو ذر الغفاري، رضي الله عنه.

       

      ثم إن التربية التكوينية بعد ذلك تنتج عقلاً علمياً ،وشخصاً منهجياً يصعب أن تتسرب إليه الخرافة، والأفكار الوهمية، والغيبية التواكلية ، ذلك أن استفادة المفاهيم من نصوص الشرع نفسه ، كعملية تكوينية، تكسب الفرد منهجية تحليلية نقدية ، ومقاييس علمية لقبول الأفكار أو ردها ، وملكة خاصة لمعرفة المقاصد العامة للشرع ، يرجع إليها كل ما يتلقاه من كلام، أو يقرؤه من توجيه وتخطيط ،فيدع المخالف ،ويقبل الموافق.

       

      فعقل مثل هذا، هو عقل إسلامي مسدد ، يصعب أن تتسرب إليه الخرافة ، أو الفهوم المنحرفة،في هذا الاتجاه أو ذاك، لأنه محصن بحاسة استفهامية ،لا تدخل في قصد التكليف ـ على حد تعبير الشاطبي ـ إلا بعد تَبَيُّن قصد الإفهام ، إذ لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت الحاجة.

       

      وأما التربية التلقينية ،فهي بالمقابل تنتج عقلاً يفتقر إلى أساسيات التفكير المنهجي ،ومبادئ العقل العلمي ، ذلك أن السكون السلبي، الذي يمارسه المتربي ، إزاء الوسيط ، وبرنامجه التربوي، هو ضرب من اغتيال العقلية النقدية، وتكريس لقابلية التقبل المطلق، والاستسلام التام، لكل المفاهيم الوساطية .. فلا قدرة لمثل هذا، على التمييز بين الحق والباطل وبين المفهوم الصحيح والمفهوم المدلس ، ولذلك فهو أبواب مشرعة لدخول التفكير الخرافي ، ومفاهيم الغيبية التواكلية ، ذات الطبيعة الانتظارية ، لا الغيبية التوكلية، التي تبادر إلى الأخذ بالأسباب الشرعية ،والسنن الربانية، في النفس والمجتمع .

       

      وما أكثر أن تلاحظ شيوع الأحاديث الضعيفة ، بل والموضوعة بين مثل تلك العقليات، وكذا ترويج الإشاعات ذات الطبيعة الأسطورية، والأقوال الشاذة، و(الفقه)! ليس لأنها عقليات غير عالمة، فالعالمية ليست مطلباً للبرامج التربوية، كما أسلفنا ،ولكن لأنها عقليات غير استفهامية، ولا نقدية ، ولا منهجية ، أي ليست علمية ، و(العلمية) ليست حكراً على العلماء، والمثقفين، بل ربما تجدها لدى الفلاح البسيط ، أو لدى العامل المحدود الثقافة؛ لأنها طريقة في التصرف والتفكير، قبل أن تكون طريقة في البحث.

       

      وأخيراً فإن التربية التكوينية ، تنتج طاقات مختلفة، باختلاف مواهبها الذاتية، وميولاتها الجبَّلية، ومؤهلاتها الفطرية ، فتستطيع بذلك سد الخلات ، وملء الثغرات ، وإشباع الحاجات ، في إطار المشروع الدعوي الإسلامي ، رغم اختلافها وتعددها ، لأن العملية التكوينية، تعمل على اكتشاف مواهب كل فرد على حدة ، وتوجيهه نحو تنميتها وتطويرها، وهذه بطبعها مختلفة ، متعددة بتعدد الناس، ولذلك تعمل التربية التكوينية على تيسير الأفراد لما خُلقوا له من اختصاصات ، تأسياً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اعملوا ، فكلُُ ميسرُُ لما خلق له ).

       

      لكن التربية التلقينية ، لا تراعي ـ باعتبارها تلقيناً جاهزاً ـ الفوارق النفسية ، والتخصصات الجِبلَّيِة ، بل تطبع الكل بطابع واحد ، فتنتج نمطاً واحداً من الأفراد ، كلهم نسخة واحدة ، صادرة عن الوسيط.( 4)

       

      ج-اعتماد منهج التكوين:-( لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما تبين ، يعتمد شيئاً غير القرآن ، وسنته المطهرة ، باعتبارها تفسيراً له. وكان يوجه الصحابة إلى اكتشاف قدراتهم الذاتية ،ومواهبهم الفطرية ، وتنميتها بالعمل قائلاً: (اعملوا فكلُُ ميسرُُ لما خُلق له )، محارباً بذلك العقلية الاستهلاكية التواكلية ، ويقرُّ المختلفين من أصحابه، على الاجتهاد ، المصيب منهم والمخطئ، على السواء كما هو معلوم في حديث بني قريظة المشهور، مربياً إياهم ومشجعاً لهم على التزام العقلية الاجتهادية المبادرة وكثيرة هي المفاهيم التي أوصلها صلى الله عليه وسلم ، إلى أصحابه عن طريق السؤال أولاً ، حتى إذا سُئلوا ، أَعَمْلُوا فِكْرَهُم ، محاولين التوصل إلى الإجابة، فإما أجابوا ،وإما عجزوا ، ويكونون حينئذ ، قد تلقوا درساً في ضرورة التفكير الشخصي ، والاستقلال العقلي ، في الفهم والاستنباط ، ثم يقرهم على ، جوابهم ، أو يصحح لهم بإجابته صلى الله عليه وسلم .

       

      ونماذج هذا الأسلوب كثيرة جداً ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( أتدرون ما العَضَه؟ نقلُ الحديث من بعض الناس إلى بعض ؛ ليفسدوا بينهم )، وقوله : (أتدرون ما الغيبة؟ )، وقوله أيضاً : (أتدرون مَن المُفلس؟ )، وقوله أيضاً : (أتدرون ما هذان الكتابان ؟)، مشيراً إلى يمينه وشماله ، وقوله كذلك : (هل تدرون ما الكوثر؟ )، وقوله : ( يا أبا ذر ! أترى أن كثرة المال هو الغِنى؟ )، إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية ، المبنية على السؤال والجواب.

       

      ومما يبين تكوينية المنهج النبوي في التربية ، أنه صلى الله عليه وسلم ، كان يراعي الخصائص الذاتية لكل فرد من الصحابة ، ولا يسعى إلى تربيتهم على نمط واحد ، وإنما يكونهم بما يناسب مواهبهم، وشخصياتهم، على اختلافها، ولذلك كان جوابه يختلف كلما سُئل : (أي الأعمال أفضل؟) مراعياً بذلك حال السائل وطبيعته ، فيجيب مرة بقوله صلى الله عليه وسلم : (أفضل الأعمال ، الإيمان بالله وحده ، ثم الجهاد ) إلى آخر الحديث ، ويجيب مرة أخرى بقوله : (أفضل الأعمال ، الصلاة في أول وقتها )، وكذلك : (أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سروراً) الحديث إلخ، وينظر إلى عبد الله بن عمر ، فيري فيه أهلية لصلاة الليل ، فيقول فيه : (نِعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل ).

       

      ويُسْلِمُ خالد بن الوليد ، وهو قائد عسكري بطبعه، فيزكي فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، هذه الموهبة ، ويوجهها إلى خدمة الحق، ولا يميل به إلى الإكثار من صلاة الليل ، أو رواية الحديث ، ولكن يقول فيه: (نِعمَ عبدُ الله ، خالد بن الوليد : سيف من سيوفُُ الله ). ويقول في أبي عبيدة بن الجراح : (إن لكل أمة أمينا،ً وأن أميننا ـ أيتها الأمة ـ أبو عبيدة بن الجراح ).

       

      ويدعو صلى الله عليه وسلم لابن عباس قائلاً: (اللهم علّمه الحكمة، اللهمّ علمه الكتاب )، وقال صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي ، أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله ، عُمر ، وأصدقهم حياءً، عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب ، وأفرضهم ، زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام، معاذ بن جبل ،ولكل أمة أمين،وأمين هذه الأمة ، أبو عبيدة بن الجراح )، إلى غير ذلك من الأحاديث ، التي تدل على وعي النبي صلى الله عليه وسلم ، بمواهب أصحابه، وخصائصهم الذاتية، وعلى تربيته صلى الله عليه وسلم لهم ، بناءً على ذلك ، مما يؤكد بعده عليه السلام عن التربية النمطية ، ذات النموذج الجاهز، والمتكرر ، عن نسخة واحدة ، هي الوسيط ، لا غير ، وبذلك يكون الرسول المربي صلى الله عليه وسلم مكوناً، لا ملقناً ، ومربياً، لا وسيطاً.( 5)

       

      د- التربية بين المصدرية والمرجعية:-( من أهم ما يلاحظ ابتداءً ، في الفرق بين التربية التوحيدية، والتربية الوساطية، أن التوحيد يقوم في مادته التربوية ، على النصوص الشرعية، فنصوص القرآن والسنة النبوية ، هي المصادر الوحيدة للعمل التربوي، وهو ما أكده سيد قطب ، رحمه الله ، في وصفه للجيل القرآني الفريد، جيل الصحابة ، حينما قال: ( كان النبع الأول ، الذي استقى منه ذلك الجيل ، هو نبع القرآن ، القرآن وحده . فما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهديه ، إلا أثراً من آثار ذلك النبع).

       

      فالمصدرية الوحيدة ، حينما تكون للقرآن والسنة، في المجال التربوي، تضمن السلامة من كثير من الأمراض التربوية ، مما سوف نذكره بحول الله،

       

      فكتاب الله، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، هما صمام الأمان ، الواقي من الضلال، إذا أحسن توظيفهما بضوابطهما الشرعية، وقواعد تفسيرهما وفهمهما. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما: كتاب الله ، وسنتي، ولن يتفرقا، حتى يردا عليَّ الحوض ) .

       

      نعم لابد من اعتماد منابع أخرى للتربية ، تساعد على فهم النصوص الشرعية، وفهم النفس الإنسانية، والمجتمع الإنساني، والواقع المتطور المتجدد، ولكن ليس باعتبارها مصادر، ولكن فقط باعتبارها مراجع، تساعد على تنزيل الحقائق الإسلامية، المستفادة من النصوص الشرعية، في النفس والمجتمع. أما التربية الو ساطية ، فهي على عكس ذلك تماماً ، تعتمد الفكر البشري في تربية الأفراد، باعتباره المنبع الأول للمفاهيم التربوية، سواء كان هذا الفكر ذوقاً صوفياً أو فهماً عقلياً .

       

      وإن كان ثمة من نصوص شرعية في هذه الوساطات ، فلا تبلغ المتلقي في نسقها القرآني، أو الحديثي، ولكن في نسقها الصوفي أو العقلاني ، فالمصدرية ههنا إذن لا تكون للنصوص الشرعية ، وإنما لأفهام المصلحين، والمربين ، لهذه النصوص، وهذا هو عين الوساطة.

       

      إن الحركة الإسلامية، حين تقرر برنامجاً تربوياً، تكون مادته هي كتب فلان، أو أذواق فلان ، أو أوراده، باعتبارها المنبع الأساس، والمعتمد الأول في بناء الصف الإسلامي، تكون قد أضفت عليها أنواعاً من القداسة الشعورية لدى المتربين، من حيث تدري أو لا تدري، وينتج عن ذلك، مرض تربوي خطير، يتمثل في نشأة جيل من الملتزمين بالإسلام، ليس كما هو في مصادره بالضرورة، ولكن كما فهمه المفكر الفلاني، أو كما تذوقه الشيخ العلاني ! ومن هنا لايكون الإنتاج التربوي مضموناً ، من حيث الاستمرارية ، وعمق التأثير والتأثر، من ناحية، ومن حيث سلامة السير في طريق الالتزام بالإسلام. فهماً، وتنزيلاً ، من ناحية أخرى.

       

      فأما الأول، فذلك الفرد المرتبط بالمفاهيم الإسلامية ، كما هي في نسقها الشرعي، هو فرد مرتبط بالله مباشرة، ولذلك فإن نزول هذه المفاهيم على قلبه، باعتبارها لَبِنَات في تكوين شخصيته الإسلامية، يكون عميقاً ، بحيث يصعب انمحاؤه، واندثاره مع الزمن ،ذلك أن للقرآن من حيث هو معان ، ومن حيث هو عبارات معاً، قوة تأثيرية لا يمكن أن توجد في كتب الناس ، وأفكارهم ، وتذوقاتهم ،ومواعظهم، فهو وحده المتعبد بتلاوته ، حرفاً ، حرفاً : (لا أقول (آلم) حرف ، ولكن ألفُُ حرف ، ولامُُ حرف ، وميم حرف ).

       

      وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي لا عصمة لأي حديث سواء ، مبنى ومعنى ، فالرسول صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى كونه أفصح العرب ،فهو وحده الذي لا ينطق عن الهوى:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى )(النجم : 3-4) .

       

      فلنفرض أن الرسالة التربوية، التي نريد تبليغها في جلسة تربوية معينة، هي مفهوم (الخشوع) ، فاعتمادنا لغرسه في قلب المؤمن على مادة مرجعية ، كأن يكون ذلك من خلال كتاب الرعاية لحقوق الله للحارث المحاسبي، أو إحياء علوم الدين للغزالي ، أو مدارج السالكين لابن القيم ، أو حتى من خلال موعظة الشيخ الشفهية ، أو ورده الذي وضعه للمريدين ،فإن كل ذلك سيؤثر لا محالة ، لكن التأثير يكون سطحياً ، بحيث يغير من الحال لا من المقام ، كما يعبر القوم ، أي أنه تأثير ظرفي وشكلي، فهو لا يلامس البنية الداخلية في شخصية الفرد ، ولا يساهم في تشكيلها البنيوي ، ولكن يغير أحوالها الخارجية، فتحدث حالة (الخشوع) ، التي لن تستمر طويلاً ، ولن يكتسب بها صاحبها (مقام) الخشوع، ولكن (حاله) فقط.

       

      أما إخضاع المتربي ، لتكوين تربوي ينتظم النصوص ، الواردة في هذا المفهوم ، من القرآن والسنة، وحثه على مساهمته الشخصية في مدارستها، وتنبيهه إلى معانيها العميقة ، وربطه مباشرة بذات الآيات المتضمنة لهذا المعنى ، من مثل قوله تعالى: (ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أُوتُوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون )(الحديد :16).

       

      قلتُ: أما هذا المنهج ، فهو كفيل بتشكيل معنى الخشوع ، كجزء من شخصية الفرد الإيمانية، وذلك لما ذكرتُ من خصوصيات النص الشرعي عامة، والنص القرآني بصفة خاصة،ذي الطابع التعبدي المحض ، وهذا أضمن لاستمرارية المفهوم التربوي في شعور الفرد ، وممارسته ، فهو هنا مرتبط بنص قرآني ، وهو نص ثابت لا يتغير ، بمعنى أن الفرد كلما تذكر النص ، بمناسبة أو غير مناسبة ،إلا وفاض عليه من بركاته الجديدة ، ما لم يجده فيه أول مرة ولا ثاني مرة وهكذا.

       

      وأما كل ما عداه من مراجع، فهي مساعدة ، تفيد في التأسي والاتعاظ الدافع إلى التزام النصوص الشرعية، المصادر الحقيقية للتربية، أما الاقتصار على المراجع فقط ، للوصول إلى الهدف المذكور ـ ولو تضمنت بعض النصوص الشرعية ـ فإنه سيربط الفرد بالمرجعية ، لا بالمصدرية، في نسقها الخالص، والمرجعية ههنا بشرية، نسبية ،غير ثابتة، فهي ـ فضلاً عن احتمالها للخطأ والصواب ـ تحتمل التغير السلبي، بتغير أصحابها إلى وراء، نحو التحلل من الالتزام الإسلامي، جزئياً ، أوكلياً، وهذا ما يكون له بالغ الأثر السيء على نفسية الفرد المرتبط بهذه الوساطات.

       

      وأما الثاني ـ أي عدم ضمان سلامة السير في طريق الالتزام فهماً وتنزيلاً ـ فيتجلى في كون التربية المصدرية تربية شمولية، لأن الارتباط بالنصوص الشرعية لا يكون إلا كلياً ، إذ بعضها يحيل على بعض ، وبعضها يفسر بعضها الآخر.

       

      فهي نسق كلي، يكون ـ باعتباره مادة تربية ـ منتجاً لتدين شمولي، لايقصر معنى العبادة على هذا الجانب أو ذاك ، ولا على هذا المجال دون ذاك. فالتزام الإسلام تديناً ، يكون كلياً ، إذ يستشعر الفرد قصد التعبد ، في كل فعل حركي ، سواء كان في المجال النقابي،أو السياسي، أو الرياضي ، أو الإداري، فضلاً عن المجال التعبدي المحض ، بتعبير الفقهاء. وإنما يكون هذا ناتجاً عن فهم سابق للإسلام ، من خلال مصادره ذات الطبيعة الشمولية.

       

      بيد أن التربية المرجعية قلما تسلم من الفهم والتنزيل التجزيئييْن للدين، لأنها لاتخلو من أحد أمرين:إما أن الوسيط، مفكراً كان ، أو شيخاً ، هو نفسه يعاني من قصور في الفهم ، وإما أنه لا يعاني من هذا القصور ،ولكن يكون في كتاباته، وتوجيهاته ، متأثراً ، فيما يتعلق بالتنزيل العملي للدين ، بالزمان والمكان ، من حيث الأولويات الظرفية، لا المبدئية، ثم من حيث نقل المفاهيم من مصادرها ، باعتبارها وسيطاً ، يقوم بتلقينها للأفراد فإلى أي حد يكون دقيقاً ، وجامعاً مانعاً ، في نقله وأدائه؟ ثم إلى أي حد تبقى تلك المادة ـ وقد حَلَّتْ محل المصدر ـ صالحة للأجيال، بتمامها، وكمالها ، رغم تغير الزمان والمكان؟

       

      فالنتيجة إذن ، هي أن التربية التوحيدية، باعتبارها ذات طبيعة مصدرية أساساً، أضمن لعمق التأثير التربوي، ودوامه ، ثم لسلامة ما ينتج عنها من تدين تصوراً وممارسة.

       

      وقبل ختام هذه القضية ، لابد من التذكر بأن المصدرية لا تعني إلغاء المراجع، التي هي فهوم الناس للتدين، تصوراً وممارسة ، ولكنها تعني الإبقاء عليها ، في سياقها ، المرجعي ؛ حتى لا تكون لها أبداً السلطة المصدرية ، ذات الطبيعة المطلقة ، والتعبدية بمعناها المحض ، بل تبقى باعتبارها مراجع ، تتضمن تجارب دعوية، تفيد كأدوات إجرائية ، لحسن الاستفادة من القرآن والسنة باعتبارهما مصدرين تربويين خاصة. وذلك هو السياق الحقيقي الذي يمكن للمرجع أن يفيد فيه، وأما رفعه إلى مقام المصدرية ، فهو عين الخطأ ، الذي يؤدي إلى الانصراف عن مصادر الإسلام ، إلى أقوال الرجال، وأحوالهم.

       

      • ·        شبهة حول التربية المصدرية:

       

      لقد أثار بعض العاملين في الحقل الإسلامي ، شبهة حول إمكانية اعتماد النصوص الشرعية في العملية التربوية، حيث ووُجِهْتُ أكثر من مرة، بعد إلقاء محاضرة أو المشاركة في مناقشة متعلقة بالموضوع، بما يفيد أن الناس ليسوا جميعاً مؤهلين، لفهم نصوص القرآن، والسنة حتى تعتمد أساساً للتربية الدعوية ،ومن هنا تأتي ضرورة الوساطة الفكرية والروحية على السواء كمنهج أساس في العملية التربوية.

       

      ولذلك كان لزاماً علينا أن نبين طبيعة المنهج ، في التربية المصدرية،من خلال الأمور التالية:

       

      (*) إن البرامج التربوية في المنهج المصدري، ليست بالضرورة من انتقاء المتربين ، بل يجب أن تكون عملاً اجتهادياً ، يقوم به أهل الاختصاص الشرعي ، من الدعاة ، حيث يقومون باستقراء النصوص ذات البعد التربوي، من القرآن والسنة، مما نزل أو ورد في سياق تشكيل الشخصية المسلمة، ضبطاً وعدالة، أو قوة وأمانة . ونحن نعلم أن عملية الاستقراء ، والجمع ، والتركيب، للبرامج عملية اجتهادية، لكنها لن تؤدي إلى وساطة بالمعنى الاصطلاحي المذكور ، ومهما اختلفت اجتهادات المربين في تركيب البرامج التوحيدية، فإنها ستصب جميعاً في محيط القرآن والسنة.

       

      ومهما يكون بعد ذلك من قصور في تشكيل شخصية المتربي ، ناتج عن قصور في تركيب النصوص الاجتهادية ، فإن قابلية الفرد للاستدراك على نفسه ، أو استدراك غيره عليه ، تكون كبيرة نظراً لعدم وقوعه في ارتباط وساطي يعميه عن رؤية الحقائق ، ويلبس عليه ، إذ هو مرتبط أساساً بالله ، من خلال كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولو بصورة غير دقيقة ووافية ، هذا على افتراض أن قصوراً قد شاب عملية تركيب البرنامج التوحيدي ، فلم يكن شاملاً لمتطلبات تكوين الشخصية الإسلامية ، بإغفاله لبعض النصوص الضرورية ، أو نحو ذلك .

       

      وإلا فالأصل أن واضعي البرامج ،من أهل الاختصاص الشرعي ، يكونون قد بذلوا من الجهد غاية الوسع ،في استقراء ما يتضح أنه يشكل لبنة في هندسة الشخصية المسلمة من الآيات الكلية، وجوامع الكلم النبوي. وهذا عمل ليس من اختصاص المتربين، ولكنه من اختصاص المربين والدعاة العلماء.

       

      (*) إن دخول المتربي في برنامج توحيدي ، قوامه النصوص الشرعية، كمادة مصدرية ، ثم قراءات في كتب مساعدة ، كمادة مرجعية ، لا يعني أبداً أن الفرد يجب أن يكون مفسراً أو أصولياً ، أو فقيهاً ، مدركاً للمكي، والمدني ، وأسباب النزول ،والعموم ، والخصوص ، والمطلق ، والمقيد، وقواعد الاستدلال ، ومناهجه ، من أقيسة ، ونحوها ، لا!

       

      فالبرنامج التوحيدي ليس هدفه هو تخريج العلماء ، بل محل هذا هو الجامعات والمعاهد الشرعية، أما البرنامج ، فقصده فقط تخريج الأقوياء الأمناء في مجال الدعوة ، ليس إلا وعليه، فإن مدارسة نصوص البرنامج ، إنما هي محاولة تَمَثُّل للمبادئ الإسلامية الأساسية ، في بساطتها ، مما يتعلق بتصحيح التدين ، تصوراً وممارسة، وما يتعلق بأصول وقواعد الدعوة، ومنهج تنزيل كل ذلك في واقع الناس اليوم.

       

      ثم إن وظيفة المتربي إزاء النصوص الشرعية ، وهو يسهم في مدارستها، إنما هي الرجوع إلى كتب التفسير، وشروح الحديث ، فيما يتعلق بالنص المدروس ، للاطلاع على أقوال المفسرين والشراح، من أجل إضاءة الموضوع أولاً ، ثم عليه بعد ذلك أن يقوم بعملية تركيب للمعنى ، جامعاً ، ومرجحاً من باب التعلم، والتدرب على اكتساب المفاهيم بصورة مستقلة ؛ ولذلك وجب ألا يعتمد على تفسير واحد ، أو شرح واحد، بل يعدد مراجع التفسير والشروح ،مع العلم أنا لا نعد مثل هذه الكتب من أدوات الوساطة ،لأنها بذاتها خاضعة للنسق القرآني ،أو الحديثي على الإجمال ، وقصدها إنما هو محاولة ربط أعمق للقارئ بالنص الشرعي.

       

      نعم لا ننكر حضور الذات المفسرة ، أو الشارحة في المادة ولكنها لن تؤثر بالشكل السلبي على النتيجة التربوية ،لأن نهاية هذه ، إنما هي الدوران حول النص أولاً وأخيراً . ولذلك كان التوجيه المقترح ، ألا يقتصر على التفسير الواحد، أو الشرح الواحد، بل لابد من تعدادها، حتى تُتاح الفرصة للمتربي لبذل جهده الشخصي في تمثل النص، فهماً، وتنزيلاً ، بما يناسب حاله وزمانه، وهذا عمل قد يبدو لبعضهم صعباً على المتربي ، ولكنا نقول كما يقول المثل: يبدأ المرء فرزدقياً، وينتهي جريرياً.

       

      (*) أضف إلى ذلك ،أن النص الشرعي ، قرآناً كان ، أو سنة لا يعطي ثمرته ، لمن لم يتهيأ لاستقبالها، ولا يبوح بأسراره إلا في ظل ظروف خاصة، وشروط سابقة ، على المتربي والمربي معاً ،أن يعملا على توفيرها وإعدادها ، إنها ببساطة ظروف وشروط التعبد ، ولذلك فإن مالك بن أنس رحمه الله ، لم يكن يجلس لتدريس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متوضئاً ، وفي أحسن ثوبه! فالجلسة التربوية يجب أن تكون جلسة عبادة يستشعر فيها الجميع معاني التعبد، ولا مجال بعد ذلك فيها للغو الحديث ولهوه، وإنما هي كالصلاة ، أولها إحرام ، وآخرها سلام.

       

      وهكذا فقط ، تكون للنفوس قوة خاصة، واستعداد خاص ، لاستقبال مفاهيم النصوص الشرعية، استقبالاً جيداً ، ولا بد للمحافظة على هذا المعنى، من تنزيل المادة التربوية(تَخَوُّلاً) ، لا إكثاراً، ولا إثقالاً! وذلك بمراعاة العدد المناسب من الجلسات في الأسبوع ، الذي يكفي لترقية المتربين في مدارج البرنامج التربوي، دون الإكثار من النصوص في الجلسة الواحدة ، لتتاح الفرصة للأفراد ، كي يعدوا للمدارسة إعداداً، ويتهيئوا للتعبد تهيؤاً ، فلا يملوا ، ويسأموا ، وينزلقوا إلى اعتياد الجلسات اعتياداً ، فتنحرف النفوس من الشعور العبادي إلى الشعور العادي، وتفقد النصوص الشرعية ثمرتها التربوية بالنسبة إليهم خاصة، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مربي الأمة ، يبلغ رسالته التربوية على أساس منهج التخول.

       

      فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام، كراهة السآمة علينا) ، وكذلك فعل المتخرجون من مدرسته صلى الله عليه وسلم فعن أبي وائل شقيق ابن سلمه، قال : (كان ابن مسعود رضي الله عنه ، يذكرنا في كل خميس مرة ، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددتُ أنك ذكرتنا كل يوم ، فقال : أما إنه يمنعني من ذلك ، أني أكره أن أملكم ، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها ، مخافة السآمة علينا).

       

      ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من النصوص في اللقاء الواحد، فالقرآن نفسه، إنما نزل منجماً ، وفي ذلك ما فيه ، من الفوائد التربوية ، والتتبع ، المرحلي لتطور المستوى التديني للصحابة، وللنسخ أثر كبير في إقرار هذا المعنى، كما حصل في تحريم الخمر مثلاً، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، كان إذا حدث بحديث ، أوجز، وأقل ، ولم يسرد سرداً ، فعن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (ألا يعجبك أبو هريرة ، جاء يجلس إلى جانب حجرتي، يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعني، وكنت أسبح فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يسرد الحديث كسردكم).

       

      وربما هيأ الناس بكلامه صلى الله عليه وسلم ، ليستعدوا استعداداً خاصاً حتى يستقبلوا جيداً مفاهيم هامة، فيرقي المتربين إلى مقام تعبدي رفيع ثم بعد ذلك يبث وصيته. وذلك نحو ما رواه أبو نجيح العرباض بن سارية ، رضي الله عنه، قال: ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ، وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون، فقلنا : يا رسول الله! كأنها موعظة مودع ، فأوصنا، قال أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد حبشي وإنه من يعش منكم ، فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ،وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ).

       

      هذا وقد كان عرض الرسول صلى الله عليه وسلم ، للنصوص القرآنية ، وكذا لحديثه الشريف صلى الله عليه وسلم ، عرضاً يطبعه ـ إلى جانب الإقلال والتخول ـ التفصيل، والترسيل ، حتى يتم الإفهام على أحسن صورة ، فعن أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان إذا تكلم بكلمة ، أعادها ثلاثاً ، حتى تُفْهم عنه)، و(كان يحدث حديثاً، لو عده العادّ لأحصاه) ،وذلك أنه(كان في كلامه ترتيل أو ترسيل) وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : (كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلاماً فصلاً يفهمه كل من يسمعه).

       

      إذن فكل هذه العناصر ، من تَخَوُّل وإجراءات تربوية تنزيلية ، إنما هي لصناعة الحال التعبدي للجلسة، الذي يقرّب المتلقين إلى مستوى النص الشرعي، فيحصل التفاعل ،إضافة إلى ما يبذلونه من جهد ، مَهْمَا تواضع، لاستثماره، فتكون الفائدة التربوية المرجوة طيبة بإذن الله.

       

      (*) ثم إن دعوة الناس إلى الكتاب والسنة، في المجال التربوي، ليست على غير أساس ، ولا نظام ، بل لابد من عمل جماعي منظم ، يملك مجموعة من المربين ، المؤطرين، المختصين في الصناعة التربوية الدعوية. هؤلاء لا يجوز أن ننسى دورهم في تنزيل العملية التربوية، وتذليل العقبات أمام المتربي ، قصد تمثل أحسن للمفاهيم الإسلامية، من مصادرها الشرعية  ولكن طبعاً ليس بالنهج الوساطي ، إذ هناك فرق كبير بين دور المربي ، ودور الوسيط)( 6)

       

      -( ه  )-تربية المسؤولية:-حرص محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أصحابه أنه إنما هو بشر يرضى كما يرضى البشر ويغضب كما يغضب البشر ويخطئ ويصيب فى الأمور الدنيوية كما يخطئ البشر ويصيبون مع عصمة الله له فيما يبلغه عن ربه ،كان صلى الله عليه وسلم أصحابه فيقول لهم(لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده ورسوله)(البخارى).

       

      وفي سبيل هذه التربية لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع بأمر دون استشارة أصحابه، ففى بدر يقف صلى الله عليه وسلم حينما أتاه خبر مسيرة قريش على المسلمين فيستشير من معه من أصحابه فيتكلم أبو بكروعمرثم المقداد كلاماً حسناً،ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يكتفى ولكنه ينظر إلى القوم ويقول لهم أشيروا على أيها الناس حتى يقوم سعد بن معاذ ويقول مقولته الطيبة ، فيقول عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم "سيروا وابشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم" والرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه ويدع رأيه لرأيهم ففىبدريتكلم الحباب ابن المنذر بشان المكان الذي ينزلون فيه فينهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحول إلى المكان الذي يسير به الحباب رضي الله عنه.

       

      وفى غزوة الخندق قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشورة سلمان بحفر الخندق وكان صلى الله عليه وسلم يعمل إلى جانب العاملين، روى البخاري عن البراء رضى الله عنه قال"لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب جلد بطنه وكان كثير الشعر" فى كل هذه ا