فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      2- كنز الرضا

      انحنت الجارة المخلصة علي جارتها ، بعد أن روّعها الصراخ والعجيج الصادر من منزل جارتها، دالاّ علي أن الدّار قد اشتعلت بواحدة من تلك الخصومات العائلية المزمنة، وهمست في أذنها أن "ماذا نفعل؟ تلك هي إرادة الله" أو كلمات مثل ذلك مما يقال في مثل هذه المواقف لتهدئة الخاطر. مسحت السيدة الغاضبة دموعها وقالت في نبرة استسلام مخلوط باليأس:"ونعم باللهّ…لكن" قالت الصاحبة "لكن ماذا؟" قالت السيدة في نبرات متهدجة هي أقرب للبكاء منها للسكون "ألا ترين كيف يعاملني زوجي؟ أبعد كل ما أفعله في المنزل من خدمات له و لأولاده، يكون جزائيّ التعنيف والزجر؟" قالت الصاحبة "قبل أن أرد علي تساؤلك، وأحكم لك أو عليك، ألا تقصّين عليّ القصة، كيف بدأت وكيف تطورت، فيكون قولي سديدا ونصحي مفيدا!" ارتخت السيدة في مجلسها، واتخذت هيئة من يتأهب لسرد رواية تحتاج إلى كلّ التركيز والانتباه، ثم شرعت تقول:"كنت في زيارة لفلانة، فعرضت عليّ ما اشترته من متاع وحليّ وقالت لي أن زوجها قد أعطاها ما يشترى أضعاف ذلك إلا أنها اكتفت، تطوعا، بما رأيت علي سبيل الكفاية والقناعة!!. فلا أخفي عليك، شعرت بالغيرة وعدت إلى المنزل مكدّرة المزاج، يتحدث إلىّ زوجي فأردّ من طرف لساني، وقد كشّرت عن أنياب غضبي وكاد الشّرر يتطاير من عينيّ. فلمّا سألني ما الأمر، انفجرت فيه كالقدر الذي طفح ببخاره، وذكرت له ما أنا فيه من قلة الحظ وسوء "البخت" وأسمعته ما أسمعه من حين إلى حين، من أن مثيلاتي قد فتح الله عليهن رغم أنني أفضل وأجمل وأعرق أصلا وأكثر أدبـا، الست أحفظه في غيبته فلا أعرّض نفسي للرجال، أليس في هذا الكفاية؟! أخبرينيّ، بالله عليك، أليس معيّ الحق في الضيق والحنق؟ّ‎" قالت الجارة المخلصة:"أتريدين ردّا يهدأ الروع ولكن لا يحقق الاستقرار" قالت السيدة "لا، بالله عليك، أريد منك قولا مخلصا أعرف به أين أقف من الحق، فقد عرفتك ذات حكمة وفهم، إلي جانب حسن الدين والتفقّه فيه" قالت الصاحبة:"جزاك الله خيرا علي حسن ظنك، فلأجيبنّك بما يشفي صدرك ويهدّأ من روعك، علي حسب ما دلّتنا عليه شريعتنا السمحاء في كتاب الله وسنّة رسوله صلي الله عليه وسلم، فأنصتي لي وأحسني السمع، فما كل منصت بسامع. وسيكون ردّى من شقين، شقّ عام والآخر خاص.

      أما الشق العـام، فاعلمي، يا عزيزتي أن الإيمان بالقضاء هو شقّ الإيمان ، فالإيمان إيمان بالله، وإيمان بما قضى، وكليهما آخذ بناصية الآخر، فمن لم يؤمن بما قضى الله سبحانه، لم يؤمن بالله أصلا. ولكن الأمر هنا أن الإيمان بالقضاء ليس إيمان ضِيقٍ وحنق، ولا إيمان إذعـان وإكراه لا، بل هو إيمان رضى واستحباب،. وكيف لا والمؤمن يعرف معرفة اليقين أن الله إنما يقدّر الخير لعباده فلا ينسب له إلا الخير، قال تعالي "ولا يرضى لعباده الكفر" وإنما كفروا بإرادتهم. فليكن تسليمك لقضاء الله من جنس تسليمك لله، تسليم مستحب راض، بل فرح مستبشر، وكيف لا وهو قضاء الله؟.

      وأما الشق الخـاص، فيا عزيزتي، أترين زوجك كادحا الليل والنهار سعيا وراء الرزق الحلال لكما ولأولادكما؟ أترينه يمسك عن العمل طلبا للراحة والاسترخاء في حين أن البيت يحتاج للمؤن والزاد؟ أن كان ذلك كذلك، فهو حديث آخر معه وليس معك. ثم أتعرفين لزوجك محل آخر يصرف فيه ماله مما ليس من الشرع في شيء؟، فان لم يكن له مصارف أخرى، فأخبريني، بالله عليك، علي ماذا تتحسرين، ولماذا تقيمين الدنيا ثم لا تقعدين؟ أليس تعرفين أن القدرة هي مناط التكليف؟ أليس يقول المولى عز وجل "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"؟ ثم أشكواك من بخل عرفته عنه؟ أم من رؤية للمستقبل و تخطيط للقادم من الملمّات يعرفها هو، من حيث هو الموكل بمجابهتها علي كل حال؟ إننا ما زلنا نخلط بين البخل، الذي هو إمساك المال وإحرازه رغم شدة الداعي إلى إنفاقه، وشرطه وجود المال وإحرازه وقت الحاجة، نخلط بين هذا وبين الإنفاق الواعي الذي يجري علي وفاق قول الله تعالي "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا". والله سبحانه كفانا مشقة التخمين، فبيّن السبب الداعي إلى الاعتدال وهو أن نعمل حسابا للمستقبل، وهو من باب نصيحة رسول الله صلي الله عليه وسلم بأن ندع من ورائنا مالا لأولادنا، من استطاع إلى ذلك سبيلا، أفضل من أن ندعهم فقراء يتكفّفون الناس، وهو من قبيل التخطيط المشروع غير المنافي للتوكل.

      ولن أثقل عليك بذكر وجوب الطاعة للزوج، وما شابه ذلك مما ثبت في الأحاديث الصحيحة، فلعل الله سبحانه أن يقسم لنا وقتـا نتحدث فيه بإسهاب عن هذا الأمر، بعد أن يجلوا الله عنكما هذه الغمة، ولكني أشير إلى أنه لا معني للطاعة أصلا إن لم يصحبها الرضا، إذ هي، إذن، الاستسلام المضني لصاحبته، المدمّر لنفسها وكرامتها، ومن ثم فهو الصراع الدائم بين الزوجين.

      ثم، يا أختي في الله، دعيني أهمس في أذنك سرّا نعرفه، نحن معشر النساء، ألا ترين أن بعض النسوة يحبون أن يتفاخروا بما ليس لديهم، وأن يتـكثّروا بما ليس فيهم، وأن يظهرن أنفسهن كمن يعاملهن أزواجهن كأنهن اللؤلؤ المكنون أو الجوهر المصون، فطلباتهن أوامر لأزواجهن، و أرادتهن ملزمة إلزام الفرض الحاضر! وهن إنما يفعلن ذلك عن حسن نية، في كثير من الحالات، إظهارا للعزة وتخييلا للمعزّة، والله وحده هو العالم بما يلقين علي أيدي أزواجهن، والبيوت عورات وأسرار، كما يقال. بل إنني أذهب لأبعد من ذلك، أن المرأة التي تكثر الحديث عن مقتنياها في كل وقت وحال هي التي، في غالب الأمر، تعاني من حياة خشنة عنيفة، تداريها بالإدعاء وتخفيها بالمداراة. فهي حالة نفسية تحاول عكس الوضع القائم لتتخلص منه علي الأقل أمام الغير من الأقارب والرفيقات. وفرق بين شكر النعمة من الزوجة لزوجها بذكر محاسنه وإحسانه بشكل عام لا يؤرق الغير ولا يثير الغيرة، وبين ذلك التظاهر والادعاء في كلّ حال وفي أي مجال.

      فلا تغترّى، يا أختاه، بكل ما تسمعين، ولا تكوني كمن وصفهم أحمد شوقي في قوله: يا له من ببغاء عقله في أذنيه فالكلام يجب أن يعرض علي العقل، قبل أن يقال فيه صادق أو غير صادق.

      أما قولك أنك ترتدين الحجاب، والحشمة من الثياب، وأنك لا تختلطين بالرجال، ولا تخوضين فيما يخوض فيه الغير من الأوحال! فهذا فرض عليك من ربّ العالمين، لا تمنينّ به علي زوجك، بل الله يمنّ عليك أن هداك لهذا، والأمر هنا في العلاقة الزوجية وحق كلّ طرف علي الآخر لا في حقّ الله عليك.

      ثم، أخيرا، لا تنسي الفضل بينك وبين من أفضيت إليه وأفضى إليك، فهو زوجك وراعيك، وهو، إن صحت رجولته، بحسن اختيارك له في مبدأ الأمر، لأفضل من يوازن بين المصالح القائمة والقادمـة، ويجعل لكل أمر من أمور الحياة مقياسا ومقدارا. وقد أمنتـه علي نفسك أفلا تأمنيـه علي أن يجعل المصروف تبعا للمألوف المعروف بلا تقتير ولا إسراف!!

      قالت الزوجة "جزاك الله عني وعن زوجي خير الجزاء، فوا الله ما رأيت الأمر من كل جوانبه قبل حديثنا اليوم، وإني لأرجو أن يكون له تتمة في وقت لاحق" ثم ابتسمت ابتسامة الراضية عما سمعت، وقامت لتقضي إلى جارتها حق الضيافـة.

      د. طارق عبد الحليم