فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مفهوم السببية عند أهل السنة - الجزء الثالث

      ينطلق أهـل السنة في تصوراتهم كافة من أصول ثابتة في النظر والاستدلال، مبنية على وحدة المصدر والوسيلة، فالمصدر هو كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أما الوسيلة فهي المنهج المستقى منهما، والذي نهجه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون، سلف الأمة الصالح في القرون الثلاثة الفضلى، حيث يُنزلون كل دليل صحيح منزله، ويفهمون منه مقصوده، ويجمعون بينه وبين غيره، ولا يعارضون عاماً بخاص، ولا مطلقاً بمقيد، ولا كلياً بجزئي، بل يعرضون هذا على ذاك، كما لا يَدَعون مبيناً لمجمل، ولا محكماً لمتشابه، ولا شرعياً لعقلي، ولا يغالون في اتباع الظاهر حتى يذهلهم عن المقاصد والنيات، كما لا يسيرون وراء البواطن حتى يعميهم ذلك عن الحق الجلي الظاهر.

      وهم لا ينكرون على العقل مكانته التي بها كرمه الله - سبحانه - على سائر مخلوقاته، إلا أنهم يدركون مواضع قوته، ومواطن ضعفه، فلا يقدمون بين يدي الله ورسوله بحكم عقلي مظنون.

      وليس هذا موضع الاسترسال في الحديث عن ذلك المنهج السوي السديد، نسأل الله - تعالى - أن يلهم المسلمين كافة اتباعه والعدول عن غيره من المناهج التي لم تورث ذلك الكيان الإسلامي - على مر العصور- إلا الضعف والوهن والبلاء.

      من ذلك المنهج - إذن - استقى أهل السنة آراءهم في المسائل التي ذكرنا فيها اختلاف المُفْرِطين والمفَرِّطين، وسنبين في هذا المقام - بإيجاز لا يخل بالقصد - مفهوم أهل السنة عن تلك المسائل التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة السببية.

      أهل السنة والقدر:

      عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء " رواه مسلم.

      كما جاء في حديث جبريل - الذي رواه البخاري عن أبي هريرة - قال: (...وأن تؤمن بالقدر كله).

      يؤمن أهل السنة إيماناً راسخاً بالقدر خيره وشره وأن (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن)؛ ذلك أن الله - سبحانه - قد (جبل) الناس على صفات وِفطَر - كما خلق الأشياء على طبائع وقوى - لحكمة بالغة له في ذلك كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس: (إن فيك خُلُقين يحبهما الله الحِلم والحياء، قال: جبلاً جُبلت عليهما أم خُلقا فيَّ؟، قال: بل جبلاً جبلت عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين أحبهما الله) [خلق أفعال العباد للبخاري/39].

      ولفظ (الجِبِلّ) غير لفظ (الجبر) الذي لم يرد به كتاب أو سنة، فالجبل: هو أصل الخلق على صفة من الصفات، أما الجبر فهو الإكراه على الفعل، كما يجبر الأب ابنته على النكاح، والله - سبحانه - لا يجبر عباده على فعل من الأفعال بل كل عبد يأتي ما يفعل - حسب جبلته الأصلية - مختاراً مريداً، لهذا فقد تشدد الأئمة في المنع من إطلاق لفظ الجبر لما فيه من إجمال وإشكال، فان أراد أحد أن يقول أن في الجبل معنى للجبر، قلنا إن ذلك صحيح في أصل الخلقة لحكمة الله - تعالى - فيما اختاره من جبلة كل عبد حين خلقه، أما أن يجبره على الفعل حين الفعل فهذا المعنى غير صحيح.

      ثم إن الله - سبحانه - قد علم - بواسع علمه وشموله - ما سيكون من أفعال العباد على وجه التفصيل والإحاطة، (لا يعزب عنه من ذلك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) [الملك:14] وكتب ذلك في اللوح المحفوظ من قبل أن يخلق الخلق، فما من شيء إلا وهو مدون في أم الكتاب: (إنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى ونَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وآثَارَهُمْ وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُّبِينٍ) [يس: 12]، كما أنه لا يقع من تلك الأفعال - التي قد علم (سبحانه) بوقوعها وكتبها في أم الكتاب - إلا حسب مشيئته وإرادته؛ فإنه - سبحانه - (تارة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وتارة أن ما لم يشأ لم يكن، وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه وأنه لو شاء ما عُصي، وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة، فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته، وأن ما لم يقع لعدم مشيئته) [شفاء العليل ابن القيم، 44].

      ولا بد في هذا المقام من التمييز بين أمرين على غاية الأهمية، لم يلحظهما المخالفون لأهل السنة، فكان ما كان من زللهم الذي بيناه.

      ذلك أن الإرادة الإلهية نوعان:

      1- الإرادة الكونية:

      وهي الإرادة الشاملة لله - سبحانه - والتي لا يكون أمر من الأمور على خلافها، فالطاعة والمعصية، والخير والشر يقع كلاهما على مقتضى تلك الإرادة، وهو إن شاء منع المعصية والكفر، إلا أنه - سبحانه - أراد وقوعها إرادة كونية، ولم يرد وقوع خلافها، وإلا لكان خلافها هو الواقع فعلاً، ولا مدخل لمحبته - سبحانه - ورضاه في تلك المشيئة.

      2- الإرادة الشرعية:

      وهي محل أمره ونهيه - سبحانه - والتي بها نزلت الشرائع وفصلتها الرسالات، فإنه سبحانه أراد من العبد أن يفعل ما أمر بفعله وأحبه منه ورضي عنه به، كما أنه لم يرد من العبد فعل ما نهاه عنه وكرهه عليه إلا أنه يقع من العبد على خلاف الإرادة الشرعية، والله -سبحانه - لا يجبر عبداً على فعلها أو على إتيانها، إنما الإرادة هنا مقرونة بالمحبة والرضى كما في قوله - تعالى -: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ) [البقرة: 185] وقوله: (واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ) [البقرة:205] فعدم محبة الله للفساد لا تستلزم عدم وقوعه، كما أنها لا تعني أنه يقع في الكون ما يخالف الإرادة الإلهية، فعدم المحبة هنا يعني المحبة الشرعية وليس الإرادة الكونية التي بها يقع الفساد وغير الفساد.

      بالتمييز بين الإرادتين يتضح خطأ قول مَن قال: إن الطاعة والمعصية تقعان حسب إرادة الله ومشيئته، لعموم قدرته التامة، ولجأ إلى نفي الحكمة.

      كذلك فإن الله - سبحانه - قد خلق الأشياء في عالم المادة - ومنها الأفعال غير الاختيارية لبني آدم - وأودع فيها قوى وطبائع وصفات [شفاء العليل، 188] وسيَّرها حسب قوانين وسنن عامة تتلاءم مع تلك الطبائع بحيث لا تتخلف، إلا أن يشاء الله (سبحانه) أمراً - كما في حالة المعجزة أو الكرامة - وذلك بإيقاف عمل السنن أو القوى الجارية، أو أن يخلق مانعاً يمنعها من العمل حسب تلك السنن، كما في حادثة إحراق الخليل إبراهيم - عليه السلام - وتلك السنن والطبائع والصفات في الأشياء هي من قدر الله - سبحانه -: (إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49] وإنكارها إنكار لقدر من قدر الله - سبحانه - وواجب العبد إزاء القدر أن يكون على حالين: "حال قبل القدر، وحال بعده، فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه، فإذا قدر المقدور بغير فعله فعليه أن يصبر عليه ويرضى به، وإن كان بفعله - وهو نعمة - حمد الله على ذلك، وإن كان ذنبًا استغفر إليه من ذلك " [الفتاوى لابن تيمية، 8/76، شفاء العليل، 34].

      أهل السنة وخلق الأفعال:

      وقاعدة أهل السنة في ذلك أن الله سبحانه " خالق كل شيء "؛ فهو خالق للعبد ، وخالق لفعله، وخالق لقدرته التي يفعل بها الفعل، والعبد لا يتصف بالخلق بشكل من الأشكال إنما هو فاعل بتلك القدرة المخلوقة له.

      وخلْق الله للفعل لا يعني أن الله - سبحانه - هو الذي فعله أو أنه ينسب إليه فعله، أو أن قدرة العبد ليس لها عمل أو تأثير في إيجاد الفعل، وإلا فكيف يعاقب الله - سبحانه - العبد على ما فعله هو - سبحانه -، أو أن يثيبه على ما لم يفعله؟! والجواب على ذلك أن العبد فاعل مختار بقدرته المخلوقة [شفاء العليل: 52]، وأما عن أثر قدرته فإن كلمة " التأثير " فيها اشتراك، أي تحمل عدة معانٍ:

      1- إما أن يكون أثر القدرة الإنسانية هو الانفراد بالفعل، دون القدرة أو الإرادة الإلهية، وهو باطل متفق على بطلانه.

      2 - أو أن يكون أثر القدرة الإنسانية هو في معاونة القدرة الإلهية على إخراج الفعل للوجود، وهو كسابقه من أقوال أهل البدع.

      3- أن يكون التأثير في إخراج الفعل من العدم إلى الوجود بواسطة القدرة الإنسانية المحدثة، بمعنى أن القدرة الإنسانية التي خلقها الله - تعالى - للعبد هي سبب وواسطة في خلق الله - سبحانه - للفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، والغيث بالسحاب.

      وقد قال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) [التوبة:14] فبيَّن أنه المعذب، وأن أيدينا أسباب ووسائط لهذا التعذيب [عن الفتاوى لابن تيمية: 8/389].

      ومن هنا يتضح أنه لا تعارض بين أن الله - سبحانه - خالق لأفعال العباد، وأن العباد فاعلون لها مختارون بقدرتهم المخلوقة لهم، والتي وجهوها كما أرادوا لذلك الفعل.

      ومن هنا كذلك تنسب الأفعال للعباد؛ فيقال: إنهم (مصلّون) أو (سائرون) أو (عاصون) أو غير ذلك من أفعال، وأن أفعالهم قائمة بهم لا بالله، وأنها فعل لهم لا لله، كما في القرآن من قوله تعالى: » يعملون «، » يؤمنون «، » يكفرون «.

      وهنا ينبغي التفطن إلى أمر آخر، وهو أن الله - سبحانه - إذا أحب عبداً هيأ له أسباب الخير وعاونه عليه منة منه وفضلاً، فهو يوفقه إلى ما فيه الطاعة، ويبعده عما فيه العصيان بفتح أبواب تلك وإغلاق أبواب ذاك، كما أنه إذا أبغض عبداً منع عنه أسباب الهداية ولم يوفقه إليها حكمة منه وعدلاً، فهو يمد له في أسباب العصيان والكفر مداً، ويمهله رويداً؛ حتى يأتيه وعده بغتة وهو لا يشعر، كل ذلك والعبد نفسه هو الفاعل لأفعاله المختار لها، وإنما الهداية من الله بمقتضى الفضل والرحمة، والإضلال منه بمقتضى العدل والحكمة [شفاء العليل: 31].

      أهل السنة والتحسين والتقبيح:

      رأينا فيما سبق كيف اشتط القدرية المعتزلة في إثبات الحسن والقبح العقليين (اللذيْن يدركان بالعقل) فأثبتوا للأفعال صفات لازمة لها، وليس للشرع من دور إلا الكشف عنها، كما أن الشرائع لا تأتي إلا وفقاً لتلك الصفات، تابعة لها، فما يحسّنه العقل يأتي الشرع بحسنه والعكس.

      كما أننا رأينا كيف أفرط مناقضوهم في إنكار أن يكون للفعل صفات أصلاً!؛ حتى يدركها العقل، والأفعال متعادلة في الحسن والقبح حتى يأتي الشرع فيحسن ذلك ويقبح تلك بمطلق الإرادة الإلهية، ولو قبح الحسن لقُبح، ولو حسن القبيح لحسن!.

      والحق - الذي عليه أهل السنة - هو أن الله - سبحانه - قد خلق الأفعال، وخلق لها صفات، كما خلق الأشياء وخلق فيها طبائع وقوى، والأفعال تحسن وتقبح بتلك الصفات المخلوقة لها، وقد يعلم هذا الحسن أو القبح بالعقل أو بالشرع، وكثير من الأمم الضالة التي لم تهتدِ بهدْي النبوة قد وجد فيها تقبيح الظلم وكراهته، وتحسين العدل ومحبته، وما سن القوانين التي عُرفت منذ القديم إلا دليل على ذلك، بما اشتملت عليه من مبادئ تتوافق مع مبادئ الشرع في بعض ما تأخذ به من أحكام.

      إلا أن مدار الأمر في هذه المسألة هو أن الثواب والعقاب لا يترتبان على الفعل إلا بعد ورود الأمر الشرعي، وهو ما غلطت فيه القدرية الذين جعلوا الثواب والعقاب والتكليف بحسب العقل، كذلك فإن الله - سبحانه - قد يأمر بشيء ليمتحن به العبد، ولا يكون مراده هو الفعل بذاته، ولكن امتثال الأمر هو المطلوب لمعرفة طاعة العبد لله، كما أمر إبراهيم الخليل بذبح ابنه، وهنا يتضح قسم آخر ورد فيه الأمر الشرعي بما هو قبيح في أصله لحكمة إلهية تقتضي ذلك، فذبح الولد ليس حسناً وإنما كان لحكمة الابتلاء، وأصل الأحكام الشرعية ليست من هذا القبيل، وإنما هذا يبين خطأ المعتزلة الذين أنكروا أن يأمر الله بخلاف ما هو حسن عقلاً، وخطأ الأشاعرة الذين اعتقدوا أن الأحكام الشرعية كافة من هذا الباب للامتحان والابتلاء دون أن تحتوي بذاتها على حسن أو قبح أو مصلحة أو مفسدة للعباد [انظر: الفتاوى، 8/428 وبعدها].

      أهل السنة والحكمة والتعليل:

      ينطق كتاب الله المقروء، وكون الله المشهود، كلٌّ بآياته وأسلوب دلالاته - بتلك الحِكم البالغة التي لأجلها شرع ما شرع للناس من أحكام، وبنى ما بنى في الوجود من عوالم وأكوان، ففي كتاب الله ما يكاد يخرج عن الحصر من أدلة تثبت حكمة الله - سبحانه - في أفعاله، وأنها كلها معللة بعلل تتلاقى في أنها لصالح العباد والبلاد، ولإقامة حال الدنيا وما فيها ومَن فيها على أحسن ما يكون لهم، فما يظهر فيها من خير فهو من رحمة الله وفضله، وما يبدو من شر- ليس إليه سبحانه - فهو من عدله وحكمته. وإليك بعض ما اجتزأنا من أدلة سردها ابن القيم فيما يبلغ ثلاثة وعشرين وجهًا:

      الأول: التصريح بلفظ الحكمة، كقوله - تعالى -: (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ) [القمر: 5]، (وإنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل: 6].

      ثانياً: إخباره عن فعل كذا لكذا، كقوله - تعالى -: (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ) [المائدة: 97].

      ثالثًا: لام التعليل، كقوله - تعالى -: (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال: 42].

      رابعًا: كي التعليلية، كقوله - تعالى -: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) [الحشر: 7].

      خامساً: (أنْ) والفعل المستقبل بعدها، كقوله - تعالى -: (أَن تَقُولُوا إنَّمَا أُنزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا) [الأنعام: 156].

      سادساً: ما هو من صريح التعليل، كقوله - تعالى -: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ) [المائدة: 32].

      سابعاً: التعليل بلعلّ، وهى تفيد العِلّية في كلام الله - تعالى - كقوله: »لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «.

      ثامناً: إنكاره - سبحانه - التسوية بين المختلفين والتفرقة بين المتساويين كقوله تعالى: (أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم: 35].

      تاسعاً: أمره - سبحانه - بتدبر كلامه والتفكر في مغزى أوامره ونواهيه، وهو يدل دلالة صريحة على ما تتضمنه تلك الأوامر والنواهي من حكم بالغة ومصالح وغايات مطلوبة.

      وإلا ما كان هناك داعٍ للتفكر والتدبر بها [شفاء العليل لابن القيم، ص190 وما بعدها].

      ويا سبحان الله العظيم! أن تحتاج مثل هذه القضية إلى أدلة وبراهين للمحاجة عنها: ألم يسمِّ الله نفسه حكيماً؟! وكيف يليق بالرب - سبحانه - أن يقال: إن أفعاله ليست لدواعٍ أو أسباب أو حكم، إنما هي محض مشيئة ترجح مثلاً على مثل بلا داعٍ لذلك! في حين أن مجرد وصف أحد الناس بمثل تلك الصفة هو سمة عار ومظهر نقص في قواه العقلية التي تدفعه للعمل دون مبرر إلا أنه أراده هكذا لا غير!! أما إذا ذهبنا نتتبع كون الله المشهود لنرى مواطن حكمته في خلقه؛ لخرجت الآيات الدالة على ذلك عن الحصر بلا جدال.

      أهل السنة والسببية:

      كان نفي الحكمة وادعاء عدم عِلّية الأحكام الشرعية، وانتفاء مقصد المصلحة فيها باباً لنفي الأسباب جملة في حياة الناس وتصرفاتهم، وفي ظواهر الحياة المادية وحركاتها، وادعاء أن الله لم يجعل شيئاً في الدنيا سبباً لشيء ولا رتب شيئاً على شيء، بل كل ذلك من أوهام العقل الذي لم يصل إلى منتهى التوحيد ليشهد أن الله هو الفاعل وحده، فما ثمة سبب إلا الله -سبحانه -! وكان ذلك التقرير إهداراً للعقل والفطرة معاً، بل هو أكبر من ذلك؛ إذ إن الشرع قد ربط الأسباب بمسبباتها في الأحكام والقدر وأفعال العباد، بل كل ما في الكون هو مبني على التسلسل السببي شرعاً وقدراً، فالإنسان سبب في أفعاله، إذ هو الذي يسببها، وعليها يثاب أو يعاقب، وهو ينال ما قُدر له بالسبب الذي أُقدر عليه ومُكّن منه وهُيئ له، فإذا أقر بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب [شفاء العليل لابن القيم، 25] وكلما ازداد اجتهاداً في تحصيل الأسباب ازداد قرباً من الله، ومما هو مقدور في الكتاب، وقد كان من حسن فقه الصحابة أنهم قد ازدادوا عملاً لما فهموا القدرحق الفهم، وعرفوا أن مصالح الدنيا والآخرة ترتبط ارتباطاً تاماً بما يكتسبونه في حياتهم.

      فالصلاة أخذ بالسبب الموصل إلى رضا الله - سبحانه - وهو قد جعلها سبباً لرضاه، كما أن السعي للرزق سبب للحصول عليه، والقعود في الدار وانتظار أن تمطر السماء غذاءً وكساءً لن يُنتج إلا الحسرة والفاقة.

      ومن هنا فحق التوحيد أن تسعى عن طريق الأسباب التي خلقها الله - سبحانه - لتصل إلى النتائج التي أرادها الله - سبحانه -، لا أن تُعْرض عن أسبابه مدعياً الوصول إلى النتائج دونها. وما سبق أن ذكرناه في باب إثبات الحكمة والتعليل هو بذاته دليل على أن الله - سبحانه -بنى الدنيا على قاعدة ربط الأسباب بمسبباتها في الظواهر المادية أو التصرفات الإنسانية أو الأحكام الشرعية.

      ففي التصرفات الإنسانية قال - تعالى -: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً) [الحاقة: 10].

      وفي الظواهر المادية قال - تعالى -: (ونَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وحَبَّ الحَصِيدِ) [ق: 9].

      وفي الأحكام الشرعية قال - تعالى: (والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ) [المائدة: 38] وكل موضع تضمن الشرط والجزاء أفاد سببية الشرط والجزاء كما في قوله -تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ) [الأنفال: 29].

      ولا فرق في ذلك بين الأحكام الشرعية - التي هي حكم الله تعالى في خلقه الإنسانى - وبين السنن الكونية الطبيعية - التي هي حكم الله تعالى في خلقه المادي ولعل ما كتبه ابن القيم في (مدارج السالكين) - عن منزلة (الأسباب) في الدين - فيه غناء عن كثير مما قد يقوله غيره، فلنثبتْه هنا كموقف لأهل السنة في هذه المسألة: (ونحن نقول: إن الدين هو إثبات الأسباب، والوقوف معها، والنظر إليها والالتفات إليها، وإنه لا دين إلا بذلك، كما لا حقيقة إلا به...

      وهل يمكن حيواناً أن يعيش في هذه الدنيا إلا بوقوفه مع الأسباب؛ فينتجع مساقط غيثها ومواقع قطرها.

      ويرعى في خصبها دون جدبها، ويسالمها ولا يحاربها فكيف وتنفسه في الهواء بها، وسعادته وفلاحه بها، وضلاله وشقاؤه بالإعراض عنها وإلغائها، فأسعد الناس في الدارين أقومهم بالأسباب الموصلة إلى مصالحها.

      وأشقاهم في الدارين أشدهم تعطيلاً لأسبابهما؛ فالأسباب محل الأمر والنهي والثواب والعقاب والنجاح والخسران " [مدارج السالكين لابن القيم، 407 وما بعدها].

      ذلك هو فقه أهل السنة في الأخذ بالسبب وفي مرتبته التي بُنيت عليها الدنيا، ولعل فيما نقلناه غناءً عن الإطالة.

      وماذا عن واقع المسلمين:

      لو اقتصر أمر ما عرضنا آنفاً من آراء منحرفة - على الجانب النظري البحت في الكتب والمناظرات، وفي النطاق العلمي المحدود - لهان الخطب، ولما تجشمنا عناء الرد عليها إلا إعذاراً إلى الله - تعالى - ببيان وجه الحق فيها، ولكن شأن تلك الأفكار المنحرفة عن جادة الصواب أن تتسرب شيئاً فشيئاً إلى واقع الناس وحياتهم، خاصة إن كُتب لها أن تنتشر بواسطة انتشار مذاهب من يحملونها في المكان والزمان، فتعمل عملها في تشكيك العقلية الإسلامية، ومن ثم التأثير في مجريات الحياة الإسلامية، حتى تصبح جزءاً من النسيج العقلي الذي ينسج الناس على منواله دون معرفة لمصدره أو تحديد أسبابه.

      وإننا حين استعرضنا ما ذكرناه من آراء يأخذ بعضها برقاب بعض، ما قصدنا أن نروي تاريخاً فات، أو أن نثير في النفوس حزازات، ولا أن يكون بحثنا متاعاً عقلياً لمن يفتنه ذلك النوع من المتعة العقلية، بل إلى النظر في الواقع الحالي للمسلمين، وكيف أثرت فيه تلك الأقوال حتى أسلمته إلى ما هو عليه من وهن وضعف، ومن تخلف وانحطاط.

      كيف نريد لعلم أن ينشأ؟ أو لأمة أن تتقدم وتترقى؟ أو لقوة أن تنمو وتزداد، بينما تلك الأفكار الخبيثة تعمل عملها في الفرد والمجتمع فتثبط الهمة، وتفل العزم، وتهدر الجهد.

      لقد عملت تلك المفاهيم - عن القدر والسببية - عملها في الأمة الإسلامية خلال قرون متطاولة، فكان من جرائها - إلى جانب أسباب أخرى عديدة - أن أهمل المسلمون العلوم التجريبية بلا شعور أو وعي، وكان هذا هو المعول الأول الذي جر بهم إلى حضيض التخلف والضعف، في عالم عرف قيمة العلم التجريبي الذي يبني أول ما يُبنى على قاعدة ربط الأسباب بنتائجها، وأن السنن الكونية عاملة في الوجود بحسب ما أجراها الله - سبحانه - في حكم العادة الجارية.

      وكيف يندفع المسلم إلى محاولة اكتشاف علاقة بين أمرين، وهو أصلاً يؤمن بأنه لا رابطة بينهما، وأن أحدهما لا ينشاً عن الآخر، بل - في أحسن الأحوال - ينشأ عند حدوث الآخر لا غير؟!

      لقد سن الله - سبحانه - سنناً كونية، أجرى عليها أمر الناس والأشياء والمادة، هذه السنن تعمل بشكل دائم منتظم سواء في حياة الناس الاجتماعية، أو الفردية، وسواء في مبناهم الجسدي أو عالمهم المادي، وسواء في الأمم التي اهتدت بهدي النبوة، أو التي كفرت بها.

      والآخذ بالأسباب الصحيحة التامة، والمراعى لتلك السنن الكونية الإلهية هو الموفق إلى العلو والارتقاء في هذه الدنيا، وإن من رحمة الله وفضله على المسلمين أن أتاح لهم الأسباب التي توصلهم لخير الدارين بأن هداهم للإيمان ووفقهم لاتباع الهدي النبوي، ودلهم على ما لم يدل عليه الكافرين من أسباب خاصة تعاونهم على النجاح والظفر في الدنيا والآخرة كالدعاء والعبادة وإفراد التوحيد، كذلك الأسباب التامة التي تقيم حياتهم المادية على خير نسق سواء في معاملاتهم المادية أو علاقاتهم الاجتماعية.

      وبقدر ما يحصل الفرد المسلم، والمجتمع المسلم من الأخذ بالأسباب، ومراعاة تلك السنن، بقدر ما يتقدمون في الدنيا على أعدائهم، فإن تخلوا عن الأسباب الموصلة لخير الدنيا أو الآخرة، فهم وغيرهم سواء، والظفر لمن نال أسباب القوة والغلبة.

      كيف يأمل المسلمون أن يتغلبوا على تلك القوى الهائلة التي تحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم، وتترصد بهم في كل لحظة لتقضي عليهم قضاءً مبرماً، وهم لا يملكون - بل ولا يحاولون - وسائل التقدم والغلبة سواء منها الحربية أو الاقتصادية أو غيرها؟!

      كيف يأمل المسلمون أن تتحرر إرادتهم في أوطانهم، وأن يكون لهم أمر أنفسهم في ديارهم دون أن يتخذوا بالأسباب الكفيلة بأن يسيطروا على العالم الاقتصادي والسياسي و العسكري؟!

      ولقائل أن يقول: إننا نحاول جهدنا باتخاذ بعض الأسباب دون بعض، أو جزء من الأسباب الناقصة دون التامة، إلا أننا ننبه إلى نفيسة من النفائس التي ذكرها الشاطبي وابن القيم من أن الإتيان بالسبب على كماله، وانتفاء أي مانع يمنعه، تنشأ النتيجة عنه لا محالة، كما أن الفاعل إن قصد أن لا تقع النتيجة بعد الأخذ بالسبب التام فهو عابث، كذلك فإن أخذ بجزء السبب أو بسبب ناقص لم يوصله إلى النتيجة المرجوة وإن أراد ذلك [الموافقات، 1/218].

      فالسبب يجب أن يؤخذ على الوجه الأكمل حتى يتم المقصود منه، وتترتب عليه نتائجه حتى يتخطى المسلمون تلك العقبات، وحتى يتخلصوا من المأزق التاريخي الذي وقعوا فيه - بما كسبت أيديهم - فإن عليهم الأخذ بالأسباب التامة كافة في جميع المجالات دون استثناء، في الجانب الاقتصادي والاجتماعي والعسكري والسياسي، وأن يكون همهم تدارس كيفية تقدم الأمم الأخرى، ووسائل اللحاق بها والأخذ عنها بما لا يتعارض مع شرعنا الحنيف، فإنه ليس كل ما عند الكافرين كفر، بل فيه حق وباطل، ونحن أحق بالحق الذي عندهم منهم.

      إن من سنن الله الجارية في الأمم كافة: أن تقوى الله سبب العلو، والمعصية والبدعة سبب للذلة.
      وأن الاجتماع سبب للنصر، والتفرق سبب للهزيمة.
      وأن العلم سبب للتفوق، والجهل سبب للتخلف.
      وأن المال سبب للقوة، والفقر سبب للهوان.
      وأن الوعي سبب النجاة، والذهول عن الحقائق سبب للهلاك.
      وأنه بالعمل تتقدم الأمم، وليس بالشعوذة، وبالصناعة تترقى المجتمعات، وليس بالتواكل وترك الأسباب.

      إن البشرية قد قطعت شوطاً طويلاً سبقت فيه المسلمين سبقاً كبيراً ولابد للمسلمين من أن يسرعوا الخطى في الطريق السديد.. ليلحقوا بالركب أولاً.. ثم يقودونه للهدى ثانياً. وإن العودة لمنهج السلف الصالح هو سبب الاجتماع فالنصر، والإصرار على التحزب والمكابرة هو سبب التفرقة فالهزيمة.

      والحرص على النفع الشخصي والسعي وراءه - حتى وإن كان في الإطار الإسلامي - لا يُغني غناءً كثيراً؛ إذ إن السبب يجب أن يؤخذ على كماله وبوجهه الصحيح وإن تقديم النفع الجماعي والمصلحة العامة - وعدم الحرص على التوفيق المعتسف بينهما وبين الاعتبارات الشخصية - هو سبب الاندفاع للأمام، ونمو القوة الإسلامية من جديد.

      وإن اعتقد المسلمون أنه يمكنهم النصر، والخروج من المأزق وهم على تلك الحال فيما بينهم وبين أنفسهم، أو بينهم وبين أعدائهم، فهم واهمون فالأسباب لابد منها، وليدرك من يقصر عن اتخاذ الأسباب أنه يفت في عضد ذلك الكيان الإسلامي..

      مهما اتخذ من أعذار أو قدم من مبررات لنفسه أو لمن حوله..

      إنه لابد من النهضة العلمية، والتخصص في مجالات العلوم كافة لأعلى درجات التخصص، حتى ينبغ من المسلمين من يهيئ لهم أسباب استخدام تلك الطاقات الهائلة المتاحة لأعدائهم، والمسلمون مقصرون إن لم يأخذوا بأسبابها.

      ولابد من النهضة الاقتصادية، وبناء اقتصاد إسلامي مستقل متكامل يلجأ إليه المسلمون دون خوف من القوى المعادية، التي ستمنع عنهم ثرواتهم إن عاجلاً أو آجلاً..

      والمسلمون مقصرون إن لم يأخذوا بأسبابها.

      ولابد من الوعي السياسي، والوعى الإعلامي، حتى يفهم المسلمون حقيقة ما يدور حولهم، وما يراد بهم من شتى الجبهات العدائية..

      والمسلمون مقصرون إن لم يأخذوا بأسباب ذلك.

      ولابد من الدراسات الاجتماعية المتخصصة، التي تتناول تلك التركيبة الإسلامية الحالية، أفراداً ومجتمعات، وما يؤثر فيها؛ حتى يكون الدواء مناسباً للداء، فالبشر لهم سمات مشتركة خلقها الله - تعالى - فيهم ولابد من الالتفات إلى تلك العوامل النفسية والاجتماعية التي تعمل عملها وتسّبب الكثير من المشاكل في الواقع الإسلامي المعاصر...

      والمسلمون مقصرون إن لم يأخذوا بأسباب تلك الدراسات.

      وأخيرا..

      هي دعوة ليستفيق المسلمون (المخلصون) مما هم فيه من غفلة عن الداء، ومن إعراض عن الدواء، قبل فوات الأوان.

      وهي أمانة في عنق كل مسلم واعٍ يحملها إلى أخيه؛ أن أدرك مَن حولك بالتربية والتوعية، واسعَ للائتلاف ونبذ الخلاف والأخذ بالأسباب التامة لنصل إلى النتائج المرجوة...

      وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

      [البيان اللندنية 1987]